تفسير القاسمي - ج ٣

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٣

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٥

الثانية ـ روي في فضل الشفاعة أحاديث كثيرة. منها ما أخرجه الشيخان (١) عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال : اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب. وعن ابن عباس (٢) رضي الله عنهما في قصة بريرة وزوجها قال : قال لها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو راجعته! قالت : يا رسول الله! تأمرني؟ قال : إنما أنا أشفع. قالت : لا حاجة لي فيه. رواه البخاريّ.

الثالثة ـ قال مجاهد والحسن والكلبيّ وابن زيد : نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض. فما يجوز في الدين أن يشفع فيه ، فهو شفاعة حسنة. وما لا يجوز أن يشفع فيه ، فهو شفاعة سيئة. ثم قال الحسن : من يشفع شفاعة حسنة كان له فيها أجر ، وإن لم يشفّع. لأن الله يقول : من يشفع. ولم يقل : من يشفّع. ويتأيد هذا بقوله عليه الصلاة والسلام (٣) : اشفعوا تؤجروا. نقله الرازيّ.

الرابعة ـ قال الزمخشريّ : الشفاعة الحسنة هي التي روعي بها حق مسلم ، ودفع بها عنه شر ، أو جلب إليه خير ، وابتغي بها وجه الله ، ولم تؤخذ عليها رشوة ، وكانت في أمر جائز ، لا في حد من حدود الله ، ولا في حق من الحقوق. يعني الواجبة عليه. والسيئة ما كان بخلاف ذلك. وعن مسروق : أنه شفع شفاعة. فأهدى إليه المشفوع جارية. فغضب وردها. وقال : لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك. ولا أتكلم فيما بقي منها. انتهى.

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الزكاة ، ٢١ ـ باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها ، حديث ٧٦٥. ونصه : عن أبي موسى رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذا جاءه سائل ، أو طلبت إليه حاجة قال «اشفعوا تؤجروا. ويقضي الله على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما شاء».

(٢) أخرجه البخاريّ في : الطلاق ، ١٦ ـ باب شفاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في زوج بريرة ، حديث ٢١٥٤. ونصه : عن ابن عباس أن زوج بريرة كان عبدا يقال له مغيث. كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ، ودموعه تسيل على لحيته. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعباس «يا عباس! ألا تعجب من حب مغيث بريرة ، ومن بغض بريرة مغيثا؟». فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو راجعته!». قالت : يا رسول الله! أتأمرني؟ قال «إنما أنا أشفع». قالت : لا حاجة لي فيه.

(٣) أخرجه البخاريّ في : الزكاة ، ٢١ ـ باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها ، حديث ٧٦٥ ونصه : عن أبي موسى رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذا جاءه السائل ، أو طلبت إليه حاجة ، قال «اشفعوا تؤجروا. ويقضي الله على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما شاء».

٢٤١

وروى أبو داود (١) : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من شفع لأخيه بشفاعة ، فأهدى له هدية عليها ، فقبلها ، فقد أتى بابا عظيما من أبواب الكبائر». وهذا الحديث أورده أيضا المنذريّ في (كتاب الترغيب والترهيب) في ترجمة (الترغيب في قضاء حوائج المسلمين وإدخال السرور عليهم ، وما جاء فيمن شفع فأهدي إليه) ثم ساق حديث الشيخين (٢) وغيرهما عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المسلم أخو المسلم. لا يظلمه ولا يسلمه. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته. ومن فرج عن مسلم كربة ، فرج الله عنه كربة من كرب الدنيا يوم القيامة. ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة». وروى الطبرانيّ بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه ، ثم جعل من حوائج الناس إليه فتبرّم ، فقد عرّض تلك النعمة للزوال». وروي نحوه عن عائشة وابن عمر وابن عمرو. وروى الطبرانيّ وابن حبان في (صحيحه) عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان وصلة لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في مبلغ برّ أو تيسير عسير ، أعانه الله إجازة الصراط يوم القيامة عند دحض الأقدام». وفي رواية للطبرانيّ عن أبي الدرداء : رفعه الله في الدرجات العلا من الجنة. وروى الطبرانيّ عن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من موجبات المغفرة إدخالك السرور على أخيك المسلم». ورواه عن عمر مرفوعا بلفظ : أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن. ورواه بنحو ذلك أيضا عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وغيرهم. انظر الترغيب.

الخامسة ـ نكتة اختيار النصيب في (الحسنة) والكفل في (السيئة) ما أشرنا إليه. وذلك أن النصيب يشمل الزيادة. لأن جزاء الحسنات يضاعف. وأما الكفل فأصله المركب الصعب. ثم استعير للمثل المساوي. فلذا اختير ، إشارة إلى لطفه بعباده. إذ لم يضاعف السيئات كالحسنات. ويقال : إنه وإن كان معناه المثل لكنه غلب في الشر وندر في غيره. كقوله تعالى : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الحديد : ٢٨] ، فلذا خص به السيئة تطرية وهربا من التكرار. و (من) بيانية أو ابتدائية. أفاده الخفاجيّ (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) أي : مقتدرا. من (أقات على الشيء) إذا اقتدر عليه كما قال :

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : البيوع ، ٨٢ ـ باب الهدية لقضاء الحاجة ، حديث ٣٥٤١ ، عن أبي أمامة.

(٢) أخرجه البخاريّ في : المظالم ، ٣ ـ باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه ، حديث ١٢٠٢.

٢٤٢

وذي ضغن كففت النفس عنه

وكنت على مساءته مقيتا

أي رب ذي حقد عليّ كففت السوء عنه مع القدرة عليه. أو شهيدا حافظا. واشتقاقه من (القوت) فإنه يقوّي البدن ويحفظه. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) (٨٦)

(وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ) أي إذا سلم عليكم فدعى لسلامة حياتكم وصفاتكم التي بها كمال الحياة بتحية ، فقيل : السلام عليكم (فَحَيُّوا) أي : أداء لحق المسلّم عليكم (بِأَحْسَنَ مِنْها) أي : بتحية أحسن منها. بأن تقولوا : وعليكم السلام ورحمة الله. ولو قالها المسلم ، زيد : وبركاته. قال الراغب : أصل التحية الدعاء بالحياة وطولها. ثم استعملت في كل دعاء. وكانت العرب ، إذا لقي بعضهم بعضا ، يقول : حيّاك الله. ثم استعملها الشرع في السلام ، وهي تحية الإسلام. قال الله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [إبراهيم : ٢٣]. وقال : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤] ، وقال : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النور : ٦١]. قالوا : في السلام مزية على (حياك) لما أنه دعاء بالسلامة عن الآفات الدينية والدنيوية ، وهي مستلزمة لطول الحياة ، وليس في الدعاء بطول الحياة ذلك. ولأن السلام من أسمائه تعالى. فالبداءة بذكره مما لا ريب في فضله ومزيته (أَوْ رُدُّوها) أي : أجيبوها بمثلها. ورد السلام ورجعه : جوابه بمثله. لأن المجيب يرد قول المسلّم ويكرره (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) أي : فيحاسبكم على كل شيء من أعمالكم التي من جملتها ما أمرتم به من التحية. فحافظوا على مراعاتها حسبما أمرتم به. وفي الآية فوائد شتى :

الأولى ـ نكتة نظمها مع آيات الجهاد هو التمهيد لمنع المؤمنين من قتل من ألقى إليهم السلام في الحرب الآتي قريبا ، ببيان أن لكل مسلّم حقا يؤدى إليه. وذلك لأن السلام نوع من الإكرام. والمكرم يقابل بمثل إكرامه أو أزيد. قال الرازيّ : إن الرجل في الجهاد كان يلقاه الرجل في دار الحرب أو ما يقاربها فيسلم عليه. فقد لا يلتفت إلى سلامه عليه ويقتله. وربما ظهر أنه كان مسلما. فمنع الله المؤمنين عنه. وأمرهم أن كل من يسلّم عليهم ويكرمهم بنوع من الإكرام يقابلونه بمثل ذلك الإكرام

٢٤٣

أو أزيد. فإنه إن كان كافرا لا يضر المسلم ، إن قابل إكرام ذلك الكافر بنوع من الإكرام ، أما إن كان مسلما ، وقتله ، ففيه أعظم المضار والمفاسد. ولذا قال : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً). أي هو محاسبكم على كل أعمالكم. وكاف في إيصال جزاء أعمالكم إليكم. فكونوا على حذر من مخالفة هذا التكليف. فهذا يدل على شدة العناية بحفظ الدماء. والمنع من إهدارها. وقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس قال : من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه ، وإن كان مجوسيّا. ذلك بأن الله يقول : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها). وقال قتادة : فحيوا بأحسن منها ، يعني للمسلمين. أو ردوها ، يعني لأهل الذمة. ومن هنا حكى الماورديّ وجها : إنه يقول في الرد على أهل الذمة ، إذا ابتدءوا : وعليكم السلام. ولا يقول : ورحمة الله. نقله عنه النوويّ. وروى الزمخشريّ عن الحسن أنه يجوز أن يقال للكافر : وعليك السلام. ولا تقل : ورحمة الله. فإنها استغفار. وعن الشعبيّ أنه قال لنصرانيّ سلم عليه : وعليك السلام ورحمة الله. فقيل له في ذلك. فقال : أليس في رحمة الله يعيش؟ انتهى. والظاهر أنه لحظ الأخبار بذلك ولم يرد مضمون التحية. ومع هذا فالثابت في الصحيحين (١) عن أنس مرفوعا : إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم. كما يأتي. قال السيوطيّ في (الإكليل) : في هذه الآية مشروعية السلام ووجوب رده. واستدل بها الجمهور على رد السلام على كل مسلّم ، مسلما كان أو كافرا. لكن مختلفان في صيغة الرد.

الثانية ـ ورد في إفشاء السلام أحاديث كثيرة. منها قول البراء بن عازب رضي الله عنهما : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبع ، منها : وإفشاء السلام. رواه الشيخان (٢). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا. ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم». رواه مسلم (٣). وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيها الناس! أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلّوا والناس

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الاستئذان ، ٢٢ ـ باب كيف يرد على أهل الذمة السلام ، حديث ٢٣٧٥.

(٢) أخرجه البخاريّ في : النكاح ، ٧١ ـ باب حق إجابة الوليمة والدعوة ، حديث ٦٦٢ ونصه : عن البراء بن عازب رضي الله عنهما : أمرنا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبع ونهانا عن سبع. أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وإبرار المقسم ونصر المظلوم وإفشاء السلام وإجابة الداعي. ونهانا عن خواتيم الذهب وعن آنية الفضة وعن الميثار والقسّيّة والإستبرق والديباج.

(٣) أخرجه مسلم في : الإيمان ، حديث ٧٣.

٢٤٤

نيام ، تدخلوا الجنة بسلام». قال الترمذيّ (١) : حديث صحيح.

الثالثة ـ في كيفية السلام. قال الرازيّ : إن شاء قال : سلام عليكم. وإن شاء قال : السلام عليكم. قال تعالى في حق نوح : (يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا) [هود : ٤٨]. وقال عن الخليل : (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) [مريم : ٤٧]. وقال في قصة لوط : (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) [هود : ٦٩]. وقال عن يحيى (وَسَلامٌ عَلَيْهِ) [مريم : ١٥]. وقال عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) [النمل : ٥٩]. وقال عن الملائكة : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ـ ٢٤]. وقال عن نفسه المقدسة : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨]. وقال (فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الأنعام : ٥٤]. وأما بالألف واللام فقوله عن موسى عليه‌السلام : (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) [طه : ٤٧]. وقال عن عيسى عليه‌السلام : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم : ٣٣] ، فثبت أن الكل جائز. انتهى.

قال الإمام أبو الحسن الواحديّ : أنت في تعريف السلام وتنكيره بالخيار. انتهى. ولكثرة ورود التنكير في القرآن ، على ما بيناه ، فضله بعضهم على التعريف.

الرابعة ـ في فضله. روى الإمام أحمد (٢) وأبو داود والترمذيّ والدارميّ عن عمران بن الحصين رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : السلام عليكم. فرد عليه ثم جلس. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عشر. ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله. فرد عليه فجلس فقال : عشرون. ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فرد عليه فجلس فقال : ثلاثون. قال الترمذيّ حديث حسن. وفي الباب عن أبي سعيد وعلي وسهل بن حنيف. وقال البزار : قد روي هذا

__________________

(١) أخرجه الترمذيّ في : القيامة ، ٤٢ ـ باب حدثنا محمد بن بشار ، ونصه : عن عبد الله بن سلام قال : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة انجفل الناس إليه : وقيل : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فجئت في الناس لأنظر إليه. فلما استثبتّ وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. وكان أول شيء تكلم به أن قال ...

(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤ / ٤٣٩.

وأبو داود في : الأدب ، ١٣٢ ـ باب كيف السلام ، حديث ٥١٩٥.

والترمذيّ في : الاستئذان والآداب ، ٢ ـ باب ما ذكر في فضل السلام.

٢٤٥

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وجوه ، هذا أحسنها إسنادا. وفي رواية لأبي داود (١) ، من رواية معاذ ابن أنس رضي الله عنه زيادة على هذا. قال : ثم أتى آخر. فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته. فقال : أربعون. وقال : هكذا تكون الفضائل. وفيه رد على من زعم أنه لا يزاد على (وبركاته). لا يقال رواية (ومغفرته) عند أبي داود ، هي من طريق أبي مرحوم واسمه عبد الرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ عن أبيه. وأبو مرحوم ضعفه يحيى. وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به ـ لأنا نقول : قد حسّن الترمذيّ روايته عن سهل بن معاذ. وصححها أيضا هو وابن خزيمة والحاكم وغيرهم. قال النسائيّ لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه.

عود :

وروى الطبراني عن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال : السلام عليكم كتب له عشر حسنات ، ومن قال : السلام عليكم ورحمة الله. كتبت عشرون حسنة ، ومن قال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتبت له ثلاثون حسنة». وروى ابن حيان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا مرّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في مجلس فقال : سلام عليكم. فقال : عشر حسنات. ثم مرّ آخر فقال : سلام عليكم ورحمة الله فقال : عشرون حسنة. ثم مرّ آخر فقال : سلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال : ثلاثون حسنة. فقام رجل من المجلس ولم يسلّم. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أوشك ما نسي صاحبكم. إذا جاء أحدكم إلى المجلس فليسلم. فإن بدا له أن يجلس فليجلس. وإن قام فليسلم. فليست الأولى بأحق من الآخرة. وروى الطبرانيّ بإسناد جيد عن عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أبخل الناس من بخل بالسلام. ورواه أيضا عن أبي هريرة. ولأحمد (٢) والبزار نحوه عن جابر. وروى الطبراني عن حذيفة بن اليمان عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه وأخذ بيده تناثرت خطاياهما كما تتناثر ورق الشجر. قال المنذريّ : ورواته لا أعلم فيهم مجروحا. وروى البزار عن عمر بن الخطاب قال : «قال رسول الله

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : الأدب ، ١٣٢ ـ باب كيف السلام ، حديث ٥١٩٦.

(٢) أخرجه أحمد في مسنده ٣ / ٣٢٨ ، ونصه : عن جابر أن رجلا أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن لفلان في حائطي عذقا ، وإنه قد آذاني وشقّ عليّ مكان عذقه. فأرسل إليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «بعني عذقك الذي في حائط فلان» قال : لا. قال «فهبه لي» قال : لا. قال «فبعنيه بعذق في الجنة». قال : لا. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما رأيت الذي هو أبخل منك إلا الذي يبخل بالسلام».

٢٤٦

صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا التقى الرجلان المسلمان فسلم أحدهما على صاحبه ، فإنّ أحبهما إلى الله أحسنهما بشرا لصاحبه. فإذا تصافحا نزلت عليهما مائة رحمة : للبادئ منهما تسعون ، وللمصافح عشرة». وروى أبو داود (١) عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام.

الخامسة ـ في بعض أحكامه المأثورة. روى أبو داود (٢) عن عليّ رضي الله عنه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم. ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم». وفي الموطأ (٣) عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم. قال النوويّ : هذا مرسل صحيح الإسناد. وفي الصحيحين (٤) عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا عائشة هذا جبريل يقرأ عليك السلام. قالت قلت : وعليه‌السلام ورحمة الله. ترى ما لا نرى (تريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم) قال النوويّ : ووقع في بعض روايات الصحيحين (وبركاته) ، ولم يقع في بعضها. وزيادة الثقة مقبولة. وفي سنن أبي داود (٥) عن غالب القطان عن رجل قال : حدثني أبي عن جدي قال : بعثني أبي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ائته فأقرئه السلام. فأتيته فقلت : إن أبي يقرئك السلام. فقال : عليك وعلى أبيك السلام. قال النوويّ : هذا وإن كان رواية عن مجهول ، فأحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم. فيستفاد منه الرد على المبلّغ كالمسلّم. وروى أبو داود (٦) عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه. فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه. ففيه أن من سلم عليه إنسان ، ثم لقيه على قرب ، ندب التسليم عليه ثانيا وثالثا. وروى الشيخان (٧) عن أبي هريرة أن الرسول

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : الأدب ، ١٣٣ ـ باب في فضل من بدأ بالسلام حديث ٥١٩٧.

(٢) أخرجه أبو داود في : الأدب ، ١٤١ ـ باب ما جاء في رد الواحد عن الجماعة ، حديث ٥٢١٠.

(٣) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في : السلام ، حديث ١ ونصه : عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يسلم الراكب على الماشي. وإذا سلم من القوم واحد أجزأ عنهم».

(٤) أخرجه البخاريّ في : الاستئذان ، ١٦ ـ باب تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال ، حديث ١٥١٩.

(٥) أخرجه أبو داود في : الأدب ، ١٥٤ ـ باب في الرجل يقول : فلان يقرئك السلام ، حديث ٥٢٣١.

(٦) أخرجه أبو داود في : الأدب ، ١٣٥ ـ باب في الرجل يفارق الرجل ثم يلقاه أيسلم عليه؟ حديث ٥٢٠٠.

(٧) أخرجه البخاريّ في : الاستئذان ، ٥ ـ باب تسليم الراكب على الماشي ، ٦ ـ باب تسليم الماشي على القاعد ، حديث ٢٣٧٠.

٢٤٧

صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير.

وروى الشيخان (١) عن أنس : أنه مر على صبيان فسلم عليهم. وقال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعله. ولفظ أبي داود (٢) أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على غلمان يلعبون فسلم عليهم. وعند ابن السنيّ فيه ، فقال : السلام عليكم يا صبيان. وروى أبو داود (٣) عن أسماء بنت يزيد قالت : مرّ علينا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نسوة فسلم علينا. وروى الترمذيّ نحوه. وروى الشيخان (٤) عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا سلم عليكم أهل الكتاب ، فقولوا : وعليكم. ورويا (٥) عن أسامة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود فسلم عليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال (٦) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تبدءوا اليهود ولا النصارى

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الاستئذان ، ١٥ ـ باب التسليم على الصبيان.

(٢) أخرجه أبو داود في : الأدب ، ١٣٦ ـ باب في السلام على الصبيان ، حديث ٥٢٠٢.

(٣) أخرجه أبو داود في : الأدب ، ١٣٧ ـ باب في السلام على النساء ، حديث ٥٢٠٤.

(٤) أخرجه البخاريّ في : الاستئذان ، ٢٢ ـ باب كيف يرد على أهل الذمة السلام ، حديث ٢٣٧٥.

(٥) أخرجه البخاريّ في : الاستئذان ، ٢٠ ـ باب التسليم في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين ، حديث ١٤٢١ ونصه : عن أسامة بن زيد أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركب حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فدكية. وأردف وراءه أسامة بن زيد ، وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج. وذلك قبل وقعة بدر. حتى مرّ في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين ، عبدة الأوثان واليهود. وفيهم عبد الله بن أبيّ ، ابن سلول. وفي المجلس عبد الله بن رواحة. فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة ، خمّر عبد الله بن أبيّ أنفه بردائه. ثم قال : لا تغبّروا علينا. فسلّم عليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن. فقال عبد الله ابن أبيّ ، ابن سلول : أيها المرء! لا أحسن من هذا. إن كان ما تقول حقّا. فلا تؤذنا في مجالسنا وارجع إلى رحلك فمن جاءك منا فاقصص عليه.

قال ابن رواحة : اغشنا في مجالسنا ، فإنا نحب ذلك.

فاستبّ المسلمون والمشركون واليهود حتى هموا أن يتواثبوا.

فلم يزل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخفضهم حتى ركب دابته. حتى دخل على سعد بن عبادة فقال «أي سعد! ألم تسمع ما قال أبو حباب؟» يريد عبد الله بن أبيّ «قال : كذا وكذا».

قال : اعف عنه ، يا رسول الله! واصفح. فو الله! لقد أعطاك الله الذي أعطاك ، ولقد اصطلح أهل هذه البحرة على أن يتوجوه ، فيعصبونه بالعصابة.

فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك ، شرق بذلك. فذلك فعل به ما رأيت.

فعفا عنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٦) أخرجه مسلم في : السلام ، حديث ١٣.

٢٤٨

بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه. قال النوويّ : روينا في موطأ مالك أنه سئل عمن سلم على اليهوديّ أو النصرانيّ هل يستقيله ذلك؟ فقال : لا. قال أبو سعد المتولي الشافعيّ : لو أراد تحية ذميّ ، فعلها بغير السلام. بأن يقول : هداك الله أو أنعم الله صباحك. قال النوويّ. هذا الذي قاله أبو سعد لا بأس به. إذا احتاج إليه فيقول : صبحت بالخير أو بالسعادة أو بالعافية. أو صبحك الله بالسرور أو بالسعادة والنعمة أو بالمسرة أو ما أشبه ذلك.

السادسة ـ قال الحسن البصريّ : السلام تطوع والرد فريضة. قال ابن كثير : وهذا الذي قاله هو قول العلماء قاطبة : أن الرد واجب على من سلّم عليه. فيأثم إن لم يفعل لأنه خالف أمر الله في قوله : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها). انتهى. وفي ترك الرد إهانة وازدراء وهو حرام. ولذا ندب للجمع المسلم عليهم أن يجيبوا كلهم إظهارا للإكرام ومبالغة فيه. وإن كان الفرض يسقط ببعضهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) (٨٧)

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي : ليبعثنكم من قبوركم ويحشرنكم إلى حساب يوم القيامة في صعيد واحد ، فيجازي كل عامل بعمله. قال الزمخشريّ : القيامة والقيام كالطلابة والطلاب. وهي قيامهم من القبور أو قيامهم للحساب. قال الله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [المطففين : ٦]. (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك في يوم القيامة أو في الجمع (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) إنكار لأن يكون أحد أصدق منه تعالى في حديثه وخبره ووعده ووعيده ، وبيان لاستحالته. لأنه نقص وقبيح. إذ من كذب ، لم يكذب إلا لأنه محتاج إلى أن يجر منفعة بكذبه أو يدفع مضرة ، أو هو جاهل بقبحه ، أو هو سفيه لا يفرق بين الصدق والكذب في أخباره ، ولا يبالي بأيهما نطق. فظهر استحالة الكذب عليه جل شأنه. والغير ، وإن دلت الدلائل على صدقه ، فكذبه ممكن إذا لم ينظر إليها.

فوائد :

الأولى ـ قال الرازيّ : في كيفية النظم وجهان : أحدهما إنا بينا أن المقصود من قوله : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) ، أن لا يصير الرجل

٢٤٩

المسلّم مقتولا. ثم إنه تعالى أكد ذلك بالوعيد في قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً). ثم بالغ في تأكيد ذلك الوعيد بهذه الآية. فبين في هذه الآية أن التوحيد والعدل متلازمان. فقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ). إشارة إلى التوحيد. وقوله : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ). إشارة إلى العد. وهو كقوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) [آل عمران : ١٨] ، وكقوله ، في طه : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [طه : ١٤] ، وهو إشارة إلى التوحيد. ثم قال : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) [طه : ١٥]. وهو إشارة إلى العدل. فكذا في هذه الآية ، بين أنه يجب في حكمه وحكمته أن يجمع الأولين والآخرين في عرصة القيامة. فينتصف للمظلومين من الظالمين. ولا شك أنه تهديد شديد. الوجه الثاني ـ كأنه تعالى يقول : من سلم عليكم وحياكم فاقبلوا سلامه وأكرموه وعاملوه بناء على الظاهر. فإن البواطن إنما يعرفها الله الذي لا إله إلا هو. إنما تنكشف بواطن الخلق للخلق في يوم القيامة.

الثانية ـ قوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إما خبر للمبتدأ و (ليجمعنكم إلخ). جواب قسم محذوف ، والجملة القسمية مستأنفة لا محل لها. أو خبر ثان. وإما اعتراض ، والجملة القسمية خبر.

الثالثة ـ تعدية (ليجمعنكم) ب (إلى) لكونه بمعنى الحشر كما بينا. أو لكون (إلى) بمعنى (في) كما أثبته أهل العربية. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (٨٨)

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ) أي : فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين (فِئَتَيْنِ) أي : فرقتين ولم تتفقوا على التبرؤ منهم. والاستفهام للإنكار. والنفي والخطاب لجميع المؤمنين. لكن ما فيه من معنى التوبيخ متوجه إلى بعضهم. وذلك أن فرقة من المؤمنين كانت تميل إليهم وتذب عنهم وتواليهم. وفرقة منهم تباينهم وتعاديهم. فنهوا عن ذلك وأمروا بأن يكونوا على نهج واحد في التباين والتبرؤ منهم. لأن دلائل نفاقهم وكفرهم ظاهرة جلية. فليس لكم أن تختلفوا في شأنهم. وقد قيل : إن المراد بهم هنا عبد الله بن أبيّ وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، ورجعوا بعسكرهم ،

٢٥٠

بعد أن خرجوا. كما تقدم في آل عمران. كما أوضحه الشيخان (١) والإمام أحمد والترمذيّ عن زيد بن ثابت : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى أحد. فرجع ناس خرجوا معه. فكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم فرقتين : فرقة تقول : نقتلهم. وفرقة تقول : لا. هم المؤمنون. فأنزل الله : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ). فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد. هذا لفظ أحمد.

وقد ذكر الإمام محمد بن إسحاق في وقعة أحد : أن عبد الله بن أبيّ ، ابن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش : رجع بثلاثمائة وبقي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سبعمائة.

وثمة في نزول الآية رواية أخرى أخرجها الإمام أحمد (٢) في مسنده عن عبد الرحمن بن عوف : أن قوما من العرب أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة فأسلموا وأصابهم وباء المدينة وحمّاها. فأركسوا. فخرجوا من المدينة. فاستقبلهم نفر من أصحابه. يعني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقالوا لهم : ما لكم رجعتم؟ قالوا : أصابنا وباء المدينة. فقالوا : أما لكم في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسوة حسنة؟ فقال بعضهم : نافقوا. وقال بعضهم : لم ينافقوا. فأنزل الله : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ...) الآية. وهذه الرواية هي الأقرب لنظم الآية كما سنبينه في التنبيه الثاني (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ) أي نكّسهم وردهم إلى الكفر (بِما كَسَبُوا) أي : بسبب ما كسبوه من لحوقهم بالكفار (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ) أي : تعدّوهم من جملة المهتدين. قال أبو السعود : تجريد للخطاب وتخصيص له بالقائلين بإيمانهم من الفئتين ، وتوبيخ لهم على زعمهم ذلك ، وإشعار بأنه يؤدي إلى محاولة المحال الذي هو هداية من أضله الله تعالى. وذلك لأن الحكم بإيمانهم وادعاء اهتدائهم ، وهم بمعزل عن ذلك ، سعي في هدايتهم وإرادة لها. ووضع الموصول موضع ضمير المنافقين لتشديد الإنكار وتأكيد استحالة الهداية بما

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : التفسير ، ٤ ـ سورة النساء ، ١٥ ـ باب (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) ، حديث ٩٥٦.

والإمام أحمد في المسند ٥ / ١٨٤.

(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ١ / ١٩٢ ، ونصه : عن عبد الرحمن بن عوف أن قوما من العرب أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فأسلموا. وأصابهم وباء المدينة : حمّاها. فأركسوا فخرجوا من المدينة فاستقبلهم نفر من أصحابه (يعني أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فقالوا لهم : ما لكم رجعتم؟ قالوا : أصابنا وباء المدينة فاجتوينا المدينة. فقالوا : أما لكم في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسوة؟ فقال بعضهم : نافقوا. وقال بعضهم : لم ينافقوا هم مسلمون. فأنزل الله عزوجل : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا ...) الآية.

٢٥١

ذكر في حيّز الصلة ، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة لا إلى متعلقها. بأن يقال : أتهدون إلخ للمبالغة في إنكاره بيان أنه مما لا يمكن إرادته ، فضلا عن إمكان نفسه (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) عن دينه (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) أي : طريقا إلى الهدى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٨٩)

(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا) كلام مستأنف مسوق لبيان غلوهم وتماديهم في الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم ، إثر بيان كفرهم وضلالهم في أنفسهم. أي : تمنوا أن تكفروا ككفرهم بعد الإيمان (فَتَكُونُونَ سَواءً) أي : في الكفر والضلال (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ) في العون والنصرة لئلا يفضي إلى كفركم ، وإن أظهروا لكم الإيمان طلبا لموالاتكم (حَتَّى يُهاجِرُوا) من دار الكفر (فِي سَبِيلِ اللهِ) فتتحققوا إيمانهم (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي عن الهجرة. فهم ، وإن أظهروا لكم الإسلام مع قدرتهم على الهجرة ، فافعلوا بهم ما تفعلون بالكفار. لأنه زال عنهم حكم النفاق بلحوق دار الكفر (فَخُذُوهُمْ) أي : أسروهم (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) في الحل والحرم (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي : لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك.

تنبيهان :

الأول ـ قال الرازيّ : دلت الآية على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين والمشتهرين بالزندقة والإلحاد. وهذا متأكد بعموم قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) [الممتحنة : ١]. والسبب فيه أن أعز الأشياء وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين. لأن ذلك هو الأمر الذي يتقرب به إلى الله تعالى ويتوسل به إلى طلب السعادة في الآخرة. وإذا كان كذلك ، كانت العداوة الحاصلة بسببه أعظم أنواع العداوة. وإذا كان كذلك ، امتنع طلب المحبة والولاية في الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلا فيه. والله أعلم.

الثاني ـ يظهر لي أن الأقرب في سبب نزول هذه الآيات أعني قوله تعالى : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ). إلخ ، رواية عبد الرحمن بن عوف. كما يدل عليه سبر

٢٥٢

هذه الآيات وتدبرها بصادق النظر والإمعان. وقد اهتدى إلى ذلك الفاضل المهايميّ في تفسيره. فاقتصر على هذا الوجه فقال : وهم الذين استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة. فلم يزالوا يرتحلون مرحلة بعد أخرى حتى لحقوا المشركين. انتهى. وقول السيوطيّ : في إسناد رواية عبد الرحمن بن عوف عند أحمد تدليس وانقطاع. لا يقدح في إصابتها كبد الحقيقة. لأنها وجدت فيها قرينة تلحقها بالمقبول وهو موافقتها لألفاظ الآية بلا تكلف. وحينئذ فقول زيد بن ثابت : فنزلت فيما تقدم بمعنى أنها تشمل ما وقع من المنخزلين عن أحد وما جرى من اختلاف المؤمنين في شأنهم. لا أنّ ما وقع كان سببا لنزولها. واستعمال النزول بذلك معروف كما بيناه في المقدمة. وإلا لأشكل قوله تعالى : (إلا أن يهاجروا). إذ لم تطلب المهاجرة إلا من النائين عن المدينة. وأولئك ، أعني الذين انخزلوا عن المسلمين في أحد ، كانوا بها. فيحتاج إلى جعل المهاجرة بمعنى خروجهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، صابرين محتسبين مخلصين. كما قاله بعض المفسرين. وهذا المعنى لم يشع في المهاجرة. ولأشكل أيضا قوله تعالى : (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ). فإنه يفيد بأنهم ليسوا من منافقي أهل المدينة. وإنه يتوقع الظفر بهم. وإلا فمنافقوها بين ظهرانيهم ليلا ونهارا. فالظاهر في هذا المقام رواية ابن عوف. وفي آخر رواية زيد ما يشعر بها حيث قال : إنها طيبة وإنها تنفي الخبث. إشارة إلى أن المدينة نفت هؤلاء الذين نزحوا عنها بعد إسلامهم. والله أعلم. ثم استثنى عن أسر المرتدين وقتلهم بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) (٩٠)

(إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ) يلجئون (إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي : عهد بهدنة أو أمان فاجعلوا حكمهم كحكمهم لئلا يفضي إلى قتال من وصلوا إليهم فيفضي إلى نقض الميثاق (أَوْ جاؤُكُمْ) عطف على الصلة أي : والذين جاءوكم (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) حال بإضمار (قد) أي : ضاقت وانقبضت نفوسهم (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ)

٢٥٣

لإرادتهم المسالمة (أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) أي : معكم من أجلكم لمكان القرابة منهم. فهم لا لكم ولا عليكم. قال أبو السعود : استثني من المأمور بأخذهم وقتلهم فريقان : أحدهما ـ من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين. والآخر : من أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين. وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن. أن سراقة ابن مالك المدلجيّ حدثهم قال : لما ظهر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل بدر وأحد ، وأسلم من حولهم ، قال : بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج. فأتيته فقلت : أنشدك النعمة. بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي. وأنا أريد أن توادعهم. فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام. وإن لم يسلموا لم يحسن تغليب قومك عليهم. فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيد خالد فقال : اذهب معه فافعل ما يريد. فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإن أسلمت قريش أسلموا معهم. وأنزل الله : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ). فكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم. وفي قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ) إشعار بقوتهم في أنفسهم ، وأن في التعرض لقتلهم إظهارا لقوتهم الخفية فهذه الجملة جارية مجرى التعليل لاستثنائهم من الأخذ والقتل (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) أي تركوكم (فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ) مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة الله عزوجل (وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أي الانقياد والاستسلام (فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) أي طريقا بالأسر أو القتل. إذ لا ضرر منهم في الإسلام. وقتالهم يظهر كمال قوتهم.

لطيفة :

قال الخفاجيّ (السلم) بفتحتين : الانقياد. وقرئ بسكون اللام مع فتح السين وكسرها. وكأن إلقاء السلم استعارة. لأنّ من سلّم شيئا ألقاه وطرحه عند المسلّم له. وعدم جعل السبيل مبالغة في عدم التعرض لهم ، لأن من لا يمر بشيء كيف يتعرض له؟

تنبيه :

ظاهر النظم الكريم أن الفريقين المستثنيين من الكفار. وحاول أبو مسلم الأصفهانيّ كونهما من المسلمين حيث قال : إنه تعالى لما أوجب الهجرة على كل من أسلم ، استثنى من له عذر. فقال : إلا الذين يصلون ، وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول للهجرة والنصرة. إلا أنهم كان في طريقهم من الكفار ما لم يجدوا طريقا إليه خوفا من أولئك الكفار. فصاروا إلى قوم بين المسلمين وبينهم عهد. وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص. واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرسول ، ولا

٢٥٤

يقاتل الرسول ولا أصحابه. لأنه يخاف الله تعالى فيه. ولا يقاتل الكفار أيضا ، لأنهم أقاربه. أو لأنه أبقى أولاده وأزواجه بينهم. فيخاف ، لو قاتلهم ، أن يقتلوا أولادهم وأصحابه. فهذان الفريقان من المسلمين لا يحل قتالهم. وإن كان لم يوجد منهم الهجرة ولا مقاتلة الكفار. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) (٩١)

(سَتَجِدُونَ) أقواما (آخَرِينَ يُرِيدُونَ) بإظهار الإسلام لكم (أَنْ يَأْمَنُوكُمْ) أي : على أنفسهم (وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) بإظهار الكفر (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) أي : دعوا إلى الارتداد والشرك (أُرْكِسُوا فِيها) أي : رجعوا إليها منكوسين على رؤوسهم (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ) أي يتنحوا عنكم جانبا ، بأن لم يكونوا معكم ولا عليكم. (وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أي : ولم يلقوا الانقياد (وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ) أي : عن قتالكم (فَخُذُوهُمْ) أي : اتّسروهم (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي : وجدتموهم في داركم أو دارهم (وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أي : حجة واضحة في الإيقاع بهم قتلا وسبيا. لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر ، وإضرارهم بأهل الإسلام. أو تسلطا ظاهرا ، حيث أذنّا لكم في أخذهم وقتلهم.

تنبيهان :

الأول ـ قال ابن كثير : هؤلاء الآخرون ، في الصورة الظاهرة ، كمن تقدمهم. ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك. فإن هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه الإسلام ، ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريّهم. ويصانعون الكفار في الباطن. فيعبدون معهم ما يعبدون ، ليأمنوا بذلك عندهم. وهم في الباطن مع أولئك. كما قال تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) [البقرة : ١٤] الآية. وحكى ابن جرير (١) عن مجاهد ؛ أنها نزلت في قوم من أهل مكة. كانوا يأتون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسلمون رياء. ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان. يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا. فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا.

__________________

(١) الأثر رقم ١٠٠٧٨.

٢٥٥

الثاني ـ قال الرازيّ : قال الأكثرون : في الآية دلالة على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن إيذائنا ، لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم. ونظيره قوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ) [الممتحنة : ٨]. وقوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) [البقرة : ١٩٠]. فخص الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (٩٢)

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) أي ما جاز ولا صح ولا لاق لمؤمن قتل أخيه المؤمن. فإن الإيمان زاجر عن ذلك. إلا على وجه الخطأ. فإنه ربما يقع لعدم دخول الاحتراز عنه بالكلية تحت الطاقة البشرية. قال الزمخشريّ : فإن قلت : بم انتصب خطأ؟ قلت : بأنه مفعول له. أي : ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده. ويجوز أن يكون حالا. بمعنى لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ. وأن يكون صفة للمصدر : إلا قتلا خطأ. والمعنى : إن من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء ، البتة. إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد. بأن يرمي كافرا فيصيب مسلما. أو يرمي شخصا على أنه كافر فإذا هو مسلم. انتهى. (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) أي : بما ذكرنا. فهو ، وإن عفي عنه ، لكنه لا يخلو عن تقصير في حق الله ، ولا يهدر دم المؤمن بالكلية (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي : فالواجب عليه ، لحق الله ، إعتاق نفس محكوم عليها بالإيمان ، ولو صغيرة. ليعتق الله عنه بكل جزء منها جزءا منه من النار. وقد روى الإمام أحمد (١) عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٣ / ٤٥١.

وأخرجه في الموطأ في : العتق والولاء ، حديث ٩.

٢٥٦

الزهريّ عن عبيد الله بن عبد الله عن رجل من الأنصار ؛ أنه جاء بأمة سوداء. فقال : يا رسول الله! إن عليّ عتق رقبة مؤمنة. فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها. فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت : نعم. قال : أتشهدين أني رسول الله؟ قالت : نعم. قال : أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ قالت : نعم. قال : أعتقها. وهذا إسناد صحيح ، وجهالة الصحابيّ لا تضرّه.

وفي موطأ مالك (١) ومسند الشافعيّ وأحمد وصحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائيّ عن معاوية بن الحكم أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء ، قال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أين الله؟ قالت : في السماء. قال : من أنا؟ قالت : أنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : أعتقها فإنها مؤمنة. أفاده ابن كثير.

لطيفتان :

الأولى ـ قال الزمخشريّ : التحرير : الإعتاق. والحر والعتيق : الكريم. لأن الكرم في الأحرار ، كما أن اللؤم في العبيد. ومنه عتاق الخليل وعتاق الطير لكرامها. وحرّ الوجه أكرم موضع منه. وقولهم للئيم : عبد ، وفلان عبد الفعل ، أي : لئيم الفعل. والرقبة عبارة عن النسمة ، كما عبر عنها بالرأس في قولهم : فلان يملك كذا رأسا من الرقيق.

الثانية ـ قيل في حكمة الإعتاق : إنه لما أخرج نفسا مؤمنة من جملة الأحياء ، لزمه أن يدخل نفسا مثلها في جملة الأحرار. لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها. من قبل أن الرقيق ملحق بالأموات. إذ الرق من آثار الكفر. والكفر موت حكما : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١٢٢]. ولهذا منع من تصرف الأحرار. وهذا مشكل. إذ لو كان كذلك لوجب في العمد أيضا. لكن يحتمل أن يقال : إنما وجب عليه ذلك ، لأن الله تعالى أبقى للقتال نفسا مؤمنة حيث لم يوجب القصاص. فأوجب

__________________

(١) أخرجه في الموطأ : العتق والولاء ، حديث ٨ عن عمر بن الحكم أنه قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله : إن جارية كانت ترعى غنما لي. فجئتها وقد فقدت شاة من الغنم. فسألتها عنها فقالت : أكلها الذئب فأسفت عليها ، وكنت من بني آدم فلطمت وجهها. وعليّ رقبة أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أين الله؟» فقالت : في السماء. فقال «من أنا؟» فقالت : أنت رسول الله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعتقها».

وأخرجه أحمد في المسند (ضمن حديث طويل) ٥ / ٤٤٧.

وفيه قال «أعتقها فإنها مؤمنة» وقال مرة «هي مؤمنة فأعتقها».

٢٥٧

عليه مثلها رقبة مؤمنة. أفاده النسفيّ. (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) أي : والواجب عليه أيضا ، لحق ورثة المقتول ، عوضا لهم عما فاتهم من قتيلهم ، دية مؤداة إلى ورثته. يقتسمونها اقتسام الميراث. وقد بيّنت السنة مقدارها. وذلك فيما رواه النسائيّ (١) وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا. وفيه : إن في النفس الدية ، مائة من الإبل. وفيه : وعلى أهل الذهب ألف دينار. وروى أبو داود (٢) عن جابر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أنه فرض في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل. وعلى أهل البقر مائتي بقرة. وعلى أهل الشاء ألفي شاة. وعلى أهل الحلل مائتي حلة.

وفي الموطأ (٣) أن عمر بن الخطاب قوّم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار. وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم. وهذه الدية إنما تجب على عاقلة القاتل ، لا في ماله.

قال الشافعيّ رحمه‌الله : لم أعلم مخالفا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى بالدية على العاقلة. وفي الصحيحين (٤) عن أبي هريرة قال : اقتتلت امرأتان من هذيل. فرمت إحداهما الأخرى بحجر. فقتلتها ، وما في بطنها. فاختصموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقضى أن دية جنينها غرة : عبد أو أمة. وقضى بدية المرأة على عاقلتها. ورواه أبو داود (٥) عن جابر بلفظ : أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى. ولكل واحدة منهما زوج وولد ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة. وبرأ زوجها وولدها ، قال فقال عاقلة القاتلة : ميراثها لنا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا. ميراثها لزوجها وولدها. و (العاقلة) القرابات من قبل الأب وهم عصبته. وهم الذين كانوا يعقلون الإبل على باب وليّ المقتول. وسميت الدية عقلا تسمية بالمصدر. لأن الإبل كانت تعقل بفناء وليّ المقتول. ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدية ، ولو لم تكن إبلا. وتضمين العاقلة مخالف لظاهر قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [فاطر : ١٨]. فتكون الأحاديث القاضية بتضمين العاقلة مخصصة لعموم الآية. لما

__________________

(١) أخرجه النسائي في : القسامة ، ٤٧ ـ باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين له.

(٢) أخرجه أبو داود في : الديات ، ١٦ ـ باب الدية كم هي؟ حديث ٤٥٤٣.

(٣) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في : العقول ، حديث ٢.

(٤) أخرجه البخاريّ في : الديات ، ٢٥ ـ باب جنين المرأة ، حديث ٢٢٦٩.

(٥) أخرجه أبو داود في : الديات ، ١٩ ـ باب دية الجنين ، حديث ٤٥٧٥.

٢٥٨

في ذلك من المصلحة. لأن القاتل لو أخذ بالدية لأوشك أن تأتي على جميع ماله. لأن تتابع الخطأ لا يؤمن. ولو ترك بغير تغريم لأهدر دم المقتول. كذا في (نيل الأوطار).

قال المهايميّ : تجب الدية على كل عاقلة القاتل. وهم عصبته غير الأصول والفروع. لأنه لما عفي عن القاتل فلا وجه للأخذ منه. وأصوله وفروعه أجزاؤه. فالأخذ منهم أخذ منه. ولا وجه لإهدار دم المؤمن. فيؤخذ من عاقلته الذين يرثونه بأقوى الجهات وهي العصبية. لأن الغرم بالغنم. فإن لم يكن له عاقلة ، أو كانوا فقراء ، فعلى بيت المال. انتهى.

وقد خالف أبو بكر الأصم وجمهور الخوارج. فأوجبوا الدية على القاتل لا على عاقلته. واحتجوا بوجوه خمسة عقلية. ساقها الفخر الرازيّ. هنا. وكلها مما لا يساوي فلسا. إذ هي من معارضة النص النبويّ بالرأي المحض.

اللهم : إنا نبرأ إليك من ذلك. وقد غفلوا عن حكمة المشروعية على العاقلة التي بيّناها.

دعوا كل قول عند قول محمد

فما آمن في دينه كمخاطر

تنبيه :

يشتمل قوله تعالى (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ) تسليمها حالّة ومؤجلة. إلا أن الإجماع قد وقع على أن دية الخطأ مؤجلة على العاقلة. ولكن اختلفوا في مقدار الأجل. فذهب الأكثر إلى أن الأجل ثلاث سنين. وقال ربيعة : إلى خمس. وحكى في (البحر) عن بعض الناس بعد حكايته للإجماع السابق : أنها تكون حالّة. إذ لم يرو عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تأجيلها. قال في (البحر) قلنا : روي عن عليّ رضي الله عنه أنه قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين. وقاله عمر وابن عباس. ولم ينكر. انتهى.

قال الشافعيّ في (المختصر) : لا أعلم مخالفا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين.

قال الرافعيّ : تكلم أصحابنا في ورود الخبر بذلك. فمنهم من قال : ورد. ونسبه إلى رواية عليّ عليه‌السلام. ومنهم من قال : ورد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى بالدية على العاقلة. وأما التأجيل فلم يرد به الخبر. وأخذ ذلك من إجماع الصحابة.

وقال ابن المنذر : ما ذكره الشافعيّ لا نعرفه أصلا من كتاب ولا سنة. وقد سئل عن ذلك أحمد بن حنبل فقال : لا نعرف فيه شيئا. فقيل : إن أبا عبد الله ، يعني

٢٥٩

الشافعيّ ، رواه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال : لعله سمعه من ذلك المدنيّ. فإنه كان حسن الظن به. يعني إبراهيم بن أبي يحيى. وتعقبه ابن الرفعة : بأن من عرف حجة على من لم يعرف. وروى البيهقيّ من طريق ابن لهيعة عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : من السنة أن تنجّم الدية في ثلاث سنين. وقد وافق الشافعيّ ، على نقل الإجماع ، الترمذيّ في (جامعه) وابن المنذر. فحكى كل واحد منهما الإجماع. كذا في (نيل الأوطار). وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) أي : إلا أن يتصدق أولياء المقتول بالدية على القاتل فلا تجب عليه. وسمي العفو عنها صدقة حثّا عليه وتنبيها على فضله. قال السيوطيّ في (الإكليل) : فيها (أي : هذه الآية) تعظيم قتل المؤمن والإثم فيه ، ونفيه عن الخطأ ، وأن في قتل الخطأ كفارة ودية. لا قصاص. وأن الدية مسلمة إلى أهل المقتول. إلا أن يصدقوا بها ، أي : يبرءوا منها. ففيه جواز الإبراء من أهل الدية. مع أنها مجهولة. وفي قوله (مسلمة) دون (يسلمها) إشارة إلى أنها على عاقلة القاتل. ذكره سعيد بن جبير. أخرجه ابن أبي حاتم واستدل بقوله : (إِلى أَهْلِهِ) ، على أن الزوجة ترث منها. لأنها من جملة الأهل خلافا للظاهرية. واحتج بها من أجاز إرث القاتل منها. لأنه من أهله. واحتج الظاهرية بقوله : (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا). على أن المقتول ليس له العفو عن الدية. لأن الله جعل ذلك لأهله خاصة. وعموم الآية شامل للإمام إذا قتل خطأ. خلافا لمن قال : لا شيء عليه ولا على عاقلته. واستدل بعمومها أيضا من قال : إن في قتل العبد الدية والكفارة. وإن على الصبيّ والمجنون ، إذا قتلا ، الكفارة. وإن المشارك في القتل عليه كفارة كاملة. انتهى. (فَإِنْ كانَ) أي : المقتول خطأ (مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) أي : محاربين (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فلم يعلم به القاتل لكونه بين أظهر قومه ، بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم ، أو بأن أتاهم بعد ما فارقهم لمهمّ من المهمات (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي : فعلى قاتله الكفارة ، لحق الله دون الدية. فإنها ساقطة. إذ لا إرث بينه وبين أهله. لأنهم محاربون. وقال الإمام زيد بن عليّ بن الحسين عليهم‌السلام : لا تؤدى الدية إليهم لأنهم يتقوّون بها. ومعلوم أن سقوط الدية لمن هذه حاله أخذا من إيجاب الله تعالى على قاتله الكفارة ، ولم يذكر الدية كما ذكرها في أول الآية وآخرها ، وقد روى الحاكم وغيره عن ابن عباس في هذه الآية قال : كان الرجل يأتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يرجع إلى قومه وهم مشركون : فيصيبه المسلمون في سرية أو غزاة. فيعتق الذي يصيبه رقبة (وَإِنْ كانَ) أي : المقتول خطأ (مِنْ قَوْمٍ) أي : كفرة (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي : عهد من هدنة أو أمان. أي : كان على دينهم ومذهبهم (فَدِيَةٌ) أي : فعلى قاتله دية (مُسَلَّمَةٌ

٢٦٠