تفسير القاسمي - ج ٣

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٣

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٥

كتاب (الصلح) من حديث شعيب بن أبي حمزة (١). ثلاثتهم عن الزهريّ عن عروة فذكره. وصورته الإرسال وهو متصل في المعنى. وقد رواه الإمام أحمد (٢) من هذا الوجه فصرّح بالإرسال فقال : حدثنا أبو اليمان. أخبرنا شعيب عن الزهريّ أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه كان يخاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا ، إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شراج الحرّة. كان يستقيان بها كلاهما. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم للزبير : «اسق : ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب الأنصاريّ وقال يا رسول الله! أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم قال للزبير : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر». فاستوعى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم للزبير حقه. وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قبل ذلك ، أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاريّ. فلما أحفظ الأنصاريّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، استوعى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم للزبير حقه في صريح الحكم.

قال عروة : فقال الزبير : والله! ما أحسب هذه الآية أنزلت إلا في ذلك (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

(هكذا رواه الإمام أحمد وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير فإنه لم يسمع منه. والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله. فإن أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رواه كذلك في (تفسيره). فقال : حدثنا يونس بن عبد الأعلى. حدثنا ابن وهب. أخبرني الليث ويونس عن ابن شهاب ؛ أن عروة بن الزبير حدثه ؛ أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام ؛ أنه خاصم رجلا ... الحديث). قال ابن كثير : وهكذا رواه النسائيّ (٣) من حديث ابن وهب به. ورواه أحمد والجماعة كلهم من حديث الليث به. وجعله أصحاب الأطراف في مسند عبد الله بن الزبير. وهكذا ساقه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن الزبير. والله أعلم.

وروى ابن أبي حاتم عن الزهريّ عن سعيد بن المسيب في هذه الآية قال : نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة. اختصما في ماء. فقضى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسقى الأعلى ثم الأسفل.

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الصلح ، ١٢ ـ باب إذا أشار الإمام بالصلح فأبى حكم عليه بالحكم البيّن.

(٢) أخرجه في المسند ١ / ١٦٥ ، الحديث ١٤١٩.

(٣) أخرجه النسائي في : آداب القضاة ، ١٩ ـ باب الرخصة للحاكم الأمين أن يحكم وهو غضبان ، و ٢٧ ـ باب إشارة الحاكم بالرفق.

٢٠١

قال ابن كثير : هذا مرسل. لكن فيه فائدة تسمية الأنصاريّ. انتهى.

قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : وحكى الواحديّ وشيخه الثعلبيّ والمهدويّ أنه حاطب بن أبي بلتعة. وتعقب بأن حاطبا ، وإن كان بدريّا ، لكنه من المهاجرين. لكن مستند ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن عبد العزيز عن الزهريّ عن سعيد بن المسيّب في قوله تعالى (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ...) الآية. قال : نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة. اختصما في ماء ... الحديث. وإسناده قويّ مع إرساله. فإن كان سعيد بن المسيب سمعه من الزبير ، فيكون موصولا. وعلى هذا فيؤوّل قوله (من الأنصار) على إرادة المعنى الأعم. كما وقع ذلك في حق غير واحد كعبد الله بن حذافة. وأما قول الكرمانيّ بأن حاطبا كان حليفا للأنصار ـ ففيه نظر.

وأما قوله (من بني أمية بن زيد) فلعله كان مسكنه هناك ، كعمر. ثم قال : ويترشح بأن حاطبا كان حليفا لآل الزبير بن العوام من بني أسد وكأنه كان مجاورا للزبير. والله أعلم.

أقول : وقع في التفسير المنسوب لابن عباس ، هاهنا ، ذكر حاطب بن أبي بلتعة وتلقيبه بالمنافق وإدراجه تحت قوله تعالى (رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ). وفي صحة هذا عن ابن عباس نظر. وكيف؟ وقد كان رضي الله عنه من البدريين. وقد انتفى النفاق عمن شهدها.

قال التوربشتيّ : يحتمل أنه أصدر ذلك منه بادرة النفس. كما وقع لغيره ممن صحت توبته. إذ لم تجر عادة السلف بوصف المنافقين بصفة النصرة التي هي المدح ولو شاركهم في النسب. قال : بل هي زلة من الشيطان تمكن به منها عند الغضب ، وليس ذلك بمستنكر من غير المعصوم في تلك الحالة. انتهى.

ولما همّ عمر رضي الله عنه بضرب عنقه في قصة الظعينة (١) ، قال حاطب : لا

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الجهاد ، ١٤١ ـ باب الجاسوس وقول الله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) ، حديث ١٩٢٤ ، ونصه : عن عبيد الله بن أبي رافع قال : سمعت عليّا رضي الله عنه يقول : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنا والزبير والمقداد بن الأسود. قال «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها» فأنطقنا تعادى بنا خيلنا. حتى انتهينا إلى الروضة فإذا نحن بالظعينة. فقلنا : أخرجي الكتاب. فقالت : ما معي من كتاب. فقلنا : لتخرجنّ الكتاب أو لنلقينّ الثياب. فأخرجته من عقاصها. فأتينا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإذا فيه : من حاطب بن أبي ـ

٢٠٢

تعجل عليّ يا رسول الله! والله! إني لمؤمن بالله ورسوله. وما ارتددت ولا بدلت. فأقرّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكفّ عمر عنه. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر : إنه قد شهد بدرا. وما يدريك ، يا عمر؟ لعل الله قد اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. فذرفت عينا عمر ... الحديث.

ولله در أصحاب الصحاح حيث أبهموا في قصة الزبير اسم خصمه سترا عليه كيلا يغض من مقامه. وهكذا ليكن الأدب. وكفانا أصلا عظيما في هذا الباب إبهام التنزيل الجليل في كثير من قصصه الكريمة. فهو ينبوع المعارف والآداب على مرور السنين والأحقاب. هذا كله على الجزم بأنها نزلت في قصة الزبير وخصمه. وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : والراجح رواية الأكثر. وأن الزبير كان لا يجزم بذلك. ثم قال الحافظ ابن حجر : وجزم مجاهد والشعبيّ بأن الآية إنما نزلت فيمن نزلت فيه الآية التي قبلها وهي قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ) إلخ فروى إسحاق بن راهويه في (تفسيره) بإسناد صحيح عن الشعبيّ. قال : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة. فدعا اليهوديّ المنافق إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة. ودعا المنافق اليهوديّ إلى حكامهم. لأنه علم أنهم يأخذونها. فأنزل الله هذه الآيات ، إلى ... (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد ، نحوه.

وروى الطبريّ (١) بإسناد صحيح عن ابن عباس أن حاكم اليهود يومئذ كان أبا برزة الأسلميّ قبل أن يسلم ويصحب.

وروي (٢) بإسناد آخر صحيح إلى مجاهد ؛ أنه كعب بن الأشرف. انتهى.

وقال ابن كثير : ذكر سبب آخر غريب جدا. قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس

__________________

ـ بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا حاطب! ما هذا؟» قال : يا رسول الله! لا تعجل عليّ. إني كنت امرءا ملصقا في قريش. ولم أكن من أنفسها. وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم. فأحببت ، إذ فاتني ذلك من النسب فيهم ، أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي. وما فعلت كفرا ولا ارتدادا ، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لقد صدقكم» قال عمر : يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال «إنه قد شهد بدرا. وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم».

(١) لم أعثر على هذا الأثر في نسخة التفسير التي بين يديّ.

(٢) الأثر رقم ١٩١٥.

٢٠٣

ابن عبد الأعلى قراءة. أخبرنا ابن وهب. أخبرني عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود قال : اختصم رجلان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقضى بينهما. فقال المقضيّ عليه : ردنا إلى عمر بن الخطاب. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم. انطلقا إليه. فلما أتيا إليه ، فقال الرجل : يا ابن الخطاب! قضى لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هذا ، فقال : ردنا إلى عمر بن الخطاب فردنا إليك. فقال : أكذاك؟ قال : نعم. فقال عمر : مكانكما حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما. فخرج إليهما مشتملا على سيفه فضرب الذي قال : ردنا إلى عمر. فقتله. وأدبر الآخر. فأتى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! قتل عمر ، والله! صاحبي. ولو لا أني أعجزته لقتلني.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن. فأنزل الله (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ...) الآية فهدر دم ذلك الرجل وبرئ عمر من قتله. فكره الله أن يسنّ ذلك بعد. فأنزل : (لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) الآية وكذا رواه ابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود به ، وهو أثر غريب مرسل. وابن لهيعة ضعيف. والله أعلم.

طريق أخرى : قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم في (تفسيره) : حدثنا شعيب بن شعيب. حدثنا أبو المغيرة. حدثنا عتبة بن حمزة. حدثني أبي. أن رجلين اختصما إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقضى للمحق على المبطل. فقال المقضيّ عليه : لا أرضى. فقال صاحبه : فما تريد؟ قال : أن نذهب إلى أبي بكر الصديق. فذهبا إليه. فقال الذي قضى له : قد اختصمنا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقضى لي. فقال أبو بكر : أنتما على ما قضى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأبى صاحبه أن يرضى. فقال : نأتي عمر بن الخطاب. فقال المقضيّ له : قد اختصمنا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقضى لي عليه. فأبى أن يرضى. فسأله عمر بن الخطاب ، فقال كذلك. فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قد سله. فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى. فقتله. فأنزل الله (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ...) الآية انتهى.

وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : روى الكلبيّ في تفسيره عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهوديّ خصومة. فقال اليهوديّ : انطلق بنا إلى محمد. وقال المنافق : بل نأتي كعب بن الأشرف. فذكر القصة. وفيه أن عمر قتل المنافق وأن ذلك سبب نزول هذه الآيات وتسمية عمر الفاروق. وهذا الإسناد ، وإن كان ضعيفا ، لكن تقوى بطريق مجاهد.

٢٠٤

ولا يضره الاختلاف. لإمكان التعدد. وأفاد الواحديّ بإسناد صحيح عن سعيد عن قتادة أن اسم الأنصاريّ المذكور قيس. ورجح الطبريّ في (تفسيره) وعزاه إلى أهل التأويل في (تهذيبه) أن سبب نزولها هذه القصة. ليتسق نظام الآيات كلها في سبب واحد. قال : ولم يعرض بينها ما يقتضي خلاف ذلك.

ثم قال : ولا مانع أن تكون قصة الزبير وخصمه وقعت في أثناء ذلك فيتناولها عموم الآية. والله أعلم. انتهى.

قال الرازيّ : اعلم أن قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) قسم من الله تعالى على أنهم لا يصيرون موصوفين بصفة الإيمان إلا عند حصول شرائط : أولها ـ قوله تعالى (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) وهذا يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول لا يكون مؤمنا. الشرط الثاني ـ قوله (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ). واعلم أن الراضي بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام قد يكون راضيا به في الظاهر دون القلب. فبيّن ، في هذه الآية ، أنه لا بد من حصول الرضا به في القلب. واعلم أن ميل القلب ونفرته شيء خارج عن وسع البشر. فليس المراد من الآية ذلك. بل المراد منه أن يحصل الجزم واليقين في القلب بأن الذي يحكم به الرسول هو الحق والصدق. الشرط الثالث ـ قوله (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً). واعلم أن من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقا وصدقا ، قد يتمرد عن قبوله على سبيل العناد أو يتوقف في ذلك القبول. فبيّن تعالى أنه ، كما لا بد في الإيمان من حصول ذلك اليقين في القلب ، فلا بد أيضا من التسليم معه في الظاهر. فقوله (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) المراد به الانقياد في الباطن. وقوله (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) المراد منه الانقياد في الظاهر. والله أعلم.

الثالث ـ قال الرازيّ : ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس. لأنه يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه على الإطلاق. وأنه لا يجوز العدول منه إلى غيره. ومثل هذه المبالغة المذكورة في هذه الآية قلما يوجد في شيء من التكاليف. وذلك يوجب تقديم عموم القرآن والخبر على حكم القياس. وقوله (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) مشعر بذلك. لأنه متى خطر بباله قياس يفضي إلى نقيض مدلول النص ، فهناك يحصل الحرج في النفس. فبيّن تعالى أنه لا يكمل إيمانه ، إلا بعد أن لا يلتفت إلى ذلك الحرج ، ويسلم النص تسليما كليّا. وهذا الكلام قويّ حسن لمن أنصف.

٢٠٥

الرابع ـ (لا) في قوله تعالى (فَلا وَرَبِّكَ) قيل إنها ردّ لمقدّر. أي : تفيد نفي أمر سبق. والتقدير : ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك. ثم استأنف القسم بقوله (وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) وقيل : مزيدة لتأكيد النفي الذي جاء فيما بعد أعني الجواب. لأنه إذا ذكر في أول الكلام وفي آخره كان أوكد وأحسن. وقيل : إنها مزيدة لتأكيد معنى القسم. وارتضاه الزمخشريّ. قال : كما زيدت في (لِئَلَّا يَعْلَمَ) [الحديد : ٢٩] ، لتأكيد وجوب العلم. قال في (الانتصاف) يشير إلى أن (لا) لما زيدت مع القسم ، وإن لم يكن المقسم به ، دلّ ذلك على أنها إنما تدخل فيه لتأكيد القسم. فإذا دخلت حيث يكون المقسم عليه نفيا ، تعين جعلها لتأكيد القسم ، طردا للباب. أو الظاهر عنده ، والله أعلم ، أنها هنا لتوطئة النفي المقسم عليه. والزمخشريّ لم يذكر مانعا من ذلك. وحاصل ما ذكره مجيئها لغير هذا المعنى في الإثبات. وذلك لا يأبى مجيئها في النفي على الوجه الآخر من التوطئة. على أن في دخولها على القسم المثبت نظرا. وذلك أنها لم ترد في الكتاب العزيز إلا مع القسم حيث يكون بالفعل. مثل (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) [البلد : ١] ، (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [القيامة : ١] ، (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) [التكوير : ١٥] ، (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) [الواقعة : ٧٥] ، (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) [الحاقة : ٣٨ ـ ٣٩] ، ولم تدخل أيضا إلا على القسم بغير الله تعالى. ولذلك شرّ يأبى كونها في هذه الآية لتأكيد القسم. ويعين كونها للتوطئة : وذلك أن المراد بها في جميع الآيات التي عددناها تأكيد تعظيم المقسم به. إذ لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له. فكأنه بدخولها يقول : إن إعظامي لهذه الأشياء بالقسم بها ، كلا إعظام. يعني أنها تستوجب من التعظيم فوق ذلك. وهذا التأكيد إنما يؤتى به رفعا لتوهم كون هذه الأشياء غير مستحقة للتعظيم ، وللإقسام بها. فيزاح هذا الوهم بالتأكيد ، في إبراز فعل القسم مؤكدا بالنفي المذكور. وقد قرر الزمخشريّ هذا المعنى في دخول (لا) عند قوله (لا) عند قوله (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) على وجه مجمل ، هذا بسطه وإيضاحه. فإذا بين ذلك ، فهذا الوهم الذي يراد إزاحته في القسم بغير الله ، مندفع في الإقسام بالله. فلا يحتاج إلى دخول (لا) مؤكدة للقسم. فيتعين حملها على الموطئة. ولا تكاد تجدها ، في غير الكتاب العزيز ، داخلة على قسم مثبت. وأما دخولها في القسم ، وجوابه نفي ، فكثير مثل :

فلا وأبيك ابنة العامريّ

لا يدّعي القوم أنّي أفرّ

وكقوله :

٢٠٦

ألا نادت أمامة باحتمال

لتحزنني ، فلا بك ما أبالي

وقوله :

رأى برقا فأوضع فوق بكر

فلا بك ما أسال ولا أغاما

وقوله :

فحالف فلا والله تهبط تلعة

من الأرض إلّا أنت للذلّ عارف

وهو أكثر من أن يحصى. فتأمل هذا الفصل فإنه حقيق بالتأمل. انتهى.

الخامس ـ اعلم أن كل حديث صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأن رواه جامعو الصحاح ، أو صححه من يرجع إليه في التصحيح من أئمة الحديث ، فهو مما تشمله هذه الآية. أعني قوله تعالى (مِمَّا قَضَيْتَ) فحينئذ يتعين على كل مؤمن بالله ورسوله الأخذ به وقبوله ظاهرا وباطنا. وإلا بأن التمس مخارج لرده أو تأويله ، بخلاف ظاهره ، لتمذهب تقلّده وعصبية ربي عليها ، كما هو شأن المقلدة أعداء الحديث وأهله ـ فيدخل في هذا الوعيد الشديد المذكور في هذه الآية. الذي تقشعر له الجلود وترجف منه الأفئدة.

قال الإمام الشافعيّ في الرسالة التي أرسلها إلى عبد الرحمن بن مهديّ : أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه قال : أرسله عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شيخ من زهرة كان يسكن دارنا. فذهبت معه إلى عمر. فسأل عن وليدة من ولائد الجاهلية. فقال : أما الفراش فلفلان. وأما النطفة فلفلان. فقال : صدقت. ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى بالفراش.

قال الشافعيّ : وأخبرني من لا أتهم عن ابن أبي ذئب قال : أخبرني مخلد بن خفاف قال : ابتعت غلاما فاستغللته. ثم ظهرت منه على عيب فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز. فقضى لي برده. وقضى عليّ برد غلته. فأتيت عروة فأخبرته فقال : أرواح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى في مثل هذا ، أن الخراج بالضمان. فعجلت إلى عمر فأخبرته بما أخبرني به عروة عن عائشة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال عمر بن عبد العزيز : فما أيسر عليّ من قضاء قضيته ، والله يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق ـ فبلغتني فيه سنة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأرد قضاء عمر وأنفذ سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج الذي قضى به عليّ له.

٢٠٧

قال الشافعيّ : وأخبرني من لا أتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذئب قال : قضى سعيد بن إبراهيم على رجل. بقضية ، برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن. فأخبرته عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخلاف ما قضى به. فقال سعد لربيعة : هذا ابن أبي ذئب ، وهو عندي ثقة ، يخبرني عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخلاف ما قضيت به. فقال له ربيعة : قد اجتهدت ومضى حكمك. فقال سعد : وا عجبا. أنفذ قضاء سعد بن أم سعد وأردّ قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم! بل أرد قضاء سعد بن أم سعد وأنفذ قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فدعى سعد بكتاب القضية فشقه ، فقضى للمقضيّ عليه.

قال الشافعيّ : أخبرنا أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابيّ. قال. حدثني ابن أبي ذئب عن المقبريّ عن أبي شريح الكعبيّ أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) قال عام الفتح : «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين. إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود». قال أبو حنيفة : فقلت لابن أبي ذئب : أتأخذ بهذا ، يا أبا الحارث؟ فضرب صدري وصاح عليّ صياحا كثيرا ، ونال منّي وقال : أحدثك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقول أتأخذ به؟ نعم. آخذ به ، وذلك الفرض عليّ وعلى من سمعه. إن الله تبارك وتعالى اختار محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه. واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه. فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين داخرين. لا مخرج لمسلم من ذلك.

وما سكت حتى تمنيت أن يسكت. انتهى.

قال الإمام الفلّاني في (إيقاظ الهمم) بعد نقل ما مرّ : تأمل فعل عمر بن الخطاب وفعل عمر بن عبد العزيز وفعل سعد بن إبراهيم ، يظهر لك أن المعروف عند الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعند سائر العلماء المسلمين ،

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الديات ، ٨ ـ باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، حديث ٩٦ ونصه : عن أبي هريرة أنه ، عام فتح مكة ، قتلت خزاعة رجلا من بني ليث بقتيل لهم في الجاهلية. فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليهم رسوله والمؤمنين. ألا وإنها لم تحلّ لأحد قبلي. ولا تحل لأحد بعدي. ألا وإنها أحلت لي ساعة من نهار ألا وإنها ساعتي هذه حرام. لا يختلى شوكها ولا يعضد شجرها ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد. ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما يودى ، وإما يقاد».

فقام رجل من أهل اليمن ، يقال له : أبو شاه. فقال : اكتب لي يا رسول الله! فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اكتبوا لأبي شاه».

ثم قام رجل فقال : يا رسول الله! إلا الإذخر ، فإنما نجعله في بيوتنا وقبورنا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إلا الإذخر».

٢٠٨

أن حكم الحاكم المجتهد ، إذا خالف نص كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجب نقضه ومنع نفوذه. ولا يعارض نص الكتاب والسنة بالاحتمالات العقلية والخيالات النفسانية والعصبية الشيطانية ، بأن يقال : لعلّ هذا المجتهد قد اطلع على هذا النص وتركه لعلة ظهرت له. أو أنه اطلع على دليل آخر. ونحو هذا ، مما لهج به فرق الفقهاء المتعصبين ، وأطبق عليه جهلة المقلدين فافهم. انتهى.

وقال وليّ الدين التبريزيّ في (مشكاة المصابيح) في (الفصل الثالث عشر) من (باب الجماعة وفضلها) : وعن بلال بن عبد الله بن عمر عن أبيه (١) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنّكم». فقال بلال : والله! لنمنعهن. فقال عبد الله : أقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وتقول أنت : لنمنعهن؟ (وفي رواية سالم عن أبيه) قال : فأقبل عليه عبد الله فسبه سبّا ما سمعت سبه مثله قط. وقال : أخبرك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقول : والله! لنمنعهن. رواه مسلم. وعن مجاهد عن عبد الله بن عمر أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) قال : لا يمنعن رجل أهله أن يأتوا المساجد. فقال ابن لعبد الله بن عمر : فإنّا نمنعهن. فقال عبد الله : أحدثك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقول هذا؟ قال فما كلمه عبد الله حتى مات. رواه الإمام أحمد.

وقال الطيبيّ شارح (المشكاة) : عجبت ممن سمّي بالسنيّ ، إذا سمع من سنة رسول الله وله رأي ، رجح رأيه عليها. وأيّ فرق بينه وبين المبتدع؟ أما سمع (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)؟ وها هو ابن عمر ، وهو من أكابر الصحابة وفقهائها ، كيف غضب لله ورسوله وهجر فلذة كبده لتلك الهنة ، عبرة لأولي الألباب.

وروى الإمام مسلم في (٣) (صحيحه) في (كراهة الخذف) قبيل (كتاب الأضاحي) ، عن سعيد بن جبير أن قريبا لعبد الله بن مغفل خذف. قال فنهاه وقال :

__________________

(١) أخرجه في المسند ٢ / ٩٠. وحديث رقم ٥٦٤٠.

ومسلم في : الصلاة ، حديث ١٤٠.

(٢) أخرجه في المسند ٢ / ٣٦. وحديث رقم ٤٩٣٣.

(٣) أخرجه مسلم في : الصيد والذبائح ، حديث ٥٤ ونصه : عن أبي بريدة قال : رأى عبد الله بن المغفّل رجلا من أصحابه يخذف. فقال له : لا تخذف. فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكره ـ أو قال ينهى عن الخذف ـ فإنه لا يصطاد به الصيد ، ولا ينكأ به العدوّ. ولكنه يكسر السنّ ويفقأ العين. ثم رآه بعد ذلك يخذف. فقال له : أخبرك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكره ـ أو ينهى عن الخذف ـ ثم أراك تخذف! لا أكلمك كلمة كذا وكذا.

٢٠٩

إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن الخذف ، وقال : إنها لا تصيد صيدا ولا تنكأ عدوّا ، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين. فقال فعاد. فقال : أحدثك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عنه ثم تخذف. لا أكلمك أبدا.

قال النوويّ : فيه جواز هجران أهل البدع والفسوق. وأنه يجوز هجرانهم دائما. فالنهي عنه فوق ثلاثة أيام إنما هو في هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا. وأما هجر أهل البدع ، فيجوز على الدوام. كما يدل عليه هذا مع نظائر له ، لحديث كعب بن مالك. قال السيوطيّ : وقد ألفت مؤلفا سميته (الزجر بالهجر) لأني كثير الملازمة لهذه السنة.

أقول : حديث الخذف ساقه الحافظ الدارميّ (١) في (سننه) تحت باب (تعجيل عقوبة من بلغه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث فلم يعظمه ولم يوقره) ورواه من طرق متنوعة. وفي بعضها : أحدثك أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينهى عن الخذف ثم تخذف؟ والله! لا أشهد لك جنازة ولا أعودك في مرض ولا أكلمك أبدا. وأسند الدارميّ في هذا الباب عن قتادة عن ابن سيرين ؛ أنه حدث رجلا بحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال رجل : قال فلان وفلان : كذا وكذا! فقال ابن سيرين : أحدثك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقول : قال فلان وفلان؟ لا أكلمك أبدا. وأسند أيضا فيه عن عبد الرحمن بن حرملة قال : جاء رجل إلى سعيد بن المسيّب يودعه بحج أو عمرة. فقال له : لا تبرح حتى تصلّي. فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا يخرج بعد النداء من المسجد إلا منافق. إلا رجل أخرجته حاجة وهو يريد الرجعة إلى المسجد. فقال : إن أصحابي بالحرة. قال فخرج. قال فلم يزل سعيد يولع بذكره حتى أخبر أنه وقع من راحلته فانكسرت فخذه.

وذكر الدارميّ رضي الله عنه قبل هذا الباب (باب ما يتّقى من تفسير حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقول غيره عند قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وأسند (٢) عن معتمر عن أبيه عن ابن عباس أنه قال : أما تخافون أن تعذبوا أو يخسف بكم أن تقولوا : قال رسول الله ، وقال فلان.

قال الإمام شمس الدين بن القيّم في (أعلام الموقعين) : ترى كثيرا من الناس

__________________

(١) أخرجه في مسنده في المقدمة ، ٤٠ ـ باب تعجيل عقوبة من بلغه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث ، فلم يعظمه ولم يوقره.

(٢) أخرجه في مسنده في المقدمة ، ٣٩ ـ باب ما يتقى من تفسير حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقول غيره عند قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢١٠

إذا جاء الحديث يوافق قول من قلده ، وقد خالفه راويه يقول : الحجة فيما روى لا في قوله. فإذا جاء قول الراوي موافقا لقول من قلده ، والحديث يخالفه قال : لم يكن الراوي يخالف ما رواه إلا وقد صح عنده نسخه. وإلا كان قدحا في عدالته. فيجمعون في كلامهم بين هذا وهذا. بل قد رأينا ذلك في الباب الواحد. وهذا من أقبح التناقض ، والذي ندين الله به ، ولا يسعنا غيره ، أن الحديث إذا صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه ، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه. ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان. لا راوية ولا غيره : إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث ولا يحضره وقت الفتيا. أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة. أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا. أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضا في نفس الأمر. أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه ، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه. ولو قدّر انتقاء ذلك كله ، ولا سبيل إلى العلم بانتقائه ولا ظنه ، لم يكن الراوي معصوما. ولم توجب مخالفته ، لما رواه ، سقوط عدالته. حتى تغلب سيئآته حسناته. وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك.

وقال الفلانيّ رحمه‌الله تعالى في (الإيقاظ) قال عثمان بن عمر : جاء رجل إلى مالك بن أنس فسأله عن مسألة فقال له : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا وكذا. فقال الرجل : أرأيت؟ فقال مالك : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) قال مالك : لم تكن من فتيا الناس أن يقال لهم : لم قلت هذا؟ كانوا يكتفون بالرواية ويرضون بها.

قال الجنيد رضي الله عنه : الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (فتوى له) قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى افترض على العباد طاعته وطاعة رسوله. ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه ، في كل ما أمر به ونهى عنه ، إلا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. حتى كان صدّيق الأمة وأفضلها بعد نبيّها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنه يقول : أطيعوني ما أطعت الله. فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوما في كل ما أمر به ونهى عنه إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولهذا قال غير واحد من الأئمة : كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهؤلاء الأئمة الأربعة قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه. وذلك هو الواجب. وقال أبو حنيفة : هذا رأيي. وهذا أحسن ما رأيت. فمن

٢١١

جاء برأي خير منه قبلناه. ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه ، أبو يوسف بإمام دار الهجرة ، مالك بن أنس وسأله عن مسألة الصاع ، وصدقة الخضراوات ، ومسألة الأحباس ، فأخبره مالك رضي الله عنه بما دلت عليه السنة في ذلك. فقال : رجعت لقولك يا أبا عبد الله. ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت.

ومالك رحمه‌الله كان يقول : إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة. أو كلام هذا معناه.

والشافعيّ رحمه‌الله كان يقول : إذا صح الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط. وإذا رأيت الحجة موضوعة على طريق فهي قولي.

ثم قال ابن تيمية : وإذا قيل لهذا المستفني المسترشد : أنت أعلم أم الإمام الفلانيّ؟ كانت هذه معارضة فاسدة. لأن الإمام الفلانيّ قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة. ولست من هذا ولا من هذا. ولكن نسبه هؤلاء الأئمة إليّ نسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبيّ ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة وغيرهم. فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع ، فإذا تنازعوا في شيء ردوه إلى الله وإلى رسوله ، وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر. وكذلك موارد النزاع بين الأئمة. وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما في مسألة تيمم الجنب. وأخذوا بقول أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه وغيره ، لما احتج بالكتاب والسنة. وتركوا قول عمر رضي الله عنه في دية الأصابع ، وأخذوا بقول معاوية بن أبي سفيان ، لما كان من السنة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : هذه وهذه سواء ، وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس رضي الله عنهما في المتعة. فقال له : قال أبو بكر وعمر. فقال ابن عباس : يوشك أن ينزل عليكم حجارة من السماء. أقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر. وكذلك ابن عمر رضي الله عنهما ، لما سألوه عنها ، فأمر بها فعارضوه بقول عمر. فبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه. فألحوا عليه فقال لهم. أرسول الله أحق أن يتبع أم عمر؟ مع علم الناس بأن أبا بكر وعمر أعلم من ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم. ولو فتح هذا الباب لأوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله ، وبقي كل إمام في أتباعه بمنزلة النبيّ في أمته. وهذا تبديل للدين وشبيه بما عاب الله به النصارى في قوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة : ٣١]. والله سبحانه أعلم. انتهى.

٢١٢

وقال الإمام ابن القيّم في خطبة (زاد المعاد) : فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته. فلاتباعه الهدى والأمن والفلاح والعزة والكفاية والنصرة والولاية والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة. ولمخالفيه الذلة والصغار والخوف والضلال والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة. وقد أقسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) بأن لا يؤمن أحد حتى يكون هو أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين. وأقسم سبحانه بأنه لا يؤمن من لم يحكّمه في كل ما تنازع فيه هو وغيره ، ثم يرضى بحكمه ، ولا يجد في نفسه حرجا مما حكم به ، ثم يسلم له تسليما ، وينقاد له انقيادا. وقال تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب : ٣٦]. فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله. فليس لمؤمن أن يختار شيئا بعد أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم. بل إذا أمر فأمره حتم. وإنما الخيرة في قول غيره ، إذا خفي أمره ، وكان ذلك الغير من أهل العلم به وبسنته. فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الاتّباع ، لا واجب الاتّباع. فلا يجب على أحد اتباع قول أحد سواه. بل غايته أنه يسوغ له اتباعه. ولو ترك الأخذ بقول غيره ، لم يكن عاصيا لله ورسوله. فأين هذا ممن يجب على جميع المكلفين اتباعه ، ويحرم عليهم مخالفته ، ويجب عليهم ترك كل قول لقوله. فلا حكم لأحد معه. ولا قول لأحد معه. كما لا تشريع لأحد معه. وكل حيّ سواه ، فإنما يجب اتباعه على قوله ، إذا أمر بما أمر به ونهى عما نهى عنه. فكان مبلغا محضا ومخبرا ، لا منشئا ومؤسسا. فمن أنشأ أقوالا وأسس قواعد ، بحسب فهمه وتأويله ، لم يجب على الأمة اتباعها ولا التحاكم إليها ، حتى تعرض على ما جاء به. فإن طابقته ووافقته وشهد لها بالصحة ، قبلت حينئذ. وإن خالفته وجب ردها واطراحها. وإن لم يتبين فيها أحد

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الإيمان ، ٨ ـ باب حب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الإيمان ، حديث ١٤ ونصه : عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده».

وفي : الأيمان والنذور ، ٣ ـ باب كيف كانت يمين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حديث ١٧٣٦ ونصه : عن عبد الله بن هشام قال : كنا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هو آخذ بيد عمر بن الخطاب. فقال له عمر : يا رسول الله! لأنت أحبّ إليّ من كل شيء إلا من نفسي.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا. والذي نفسي بيده! حتى أكون أحب إليك من نفسك».

فقال له عمر : فإنه الآن ، والله! لأنت أحب إليّ من نفسي.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الآن ، يا عمر!».

٢١٣

الأمرين ، جعلت موقوفة. وكان أحسن أحوالها أن يجوز الحكم والإفتاء بها. وأما أنه يجب ويتعين ، فكلّا. انتهى.

وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) (٦٦)

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ). قال الرازيّ : اعلم أن هذه الآية متصلة بما تقدم من أمر المنافقين وترغيبهم في الإخلاص وترك النفاق. والمعنى : إنا لو شدّدنا التكليف على الناس ، نحو أن نأمرهم بالقتل والخروج عن الأوطان ، لصعب ذلك عليهم ، ولما فعله إلا الأقلون. وحينئذ يظهر كفرهم وعنادهم. فلما لم نفعل ذلك ، رحمة منا على عبادنا ، بل اكتفينا بتكليفهم في الأمور السهلة ، فليقبلوها بالإخلاص ، وليتركوا التمرد والعناد ، حتى ينالوا خير الدارين. انتهى.

ونقله فيما بعد عن ابن عباس. وعليه فمرجع الضمير في (عليهم) إلى المنافقين. وثمة وجه آخر. وهو عوده إلى الناس كافة. ويكون المراد ب (القليل) المؤمنين. وأما الضمير في قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا) فهو مختص بالمنافقين. ولا يبعد أن يكون أول الآية عامّا وآخرها خاصّا. قرره الرازيّ. روى ابن جريج بسنده إلى أبي إسحاق السبيعيّ قال : لما نزلت : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ ...) الآية. قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن من أمتي لرجالا ، الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي». ورواه ابن أبي حاتم نحوه. وأسند عن السديّ قال : افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من اليهود. فقال اليهوديّ : والله! لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا. فقال ثابت : والله! لو كتب علينا أن اقتلوا أنفسكم لفعلنا. فنزلت الآية. وأسند أيضا عن عامر بن عبد الله بن الزبير أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم. وأسند أيضا عن شريح بن عبيد قال : لما تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية ، أشار بيده إلى عبد الله بن رواحة فقال : لو أن الله كتب ذلك ، لكان هذا من أولئك القليل.

٢١٤

تنبيهات :

الأول ـ قال بعض المفسرين : أراد حقيقة القتل والخروج من الديار. وقيل : أراد التعرض للقتل بالجهاد. وأراد الهجرة بالخروج من الديار. والمعنى : لو أمر المنافقون ، كما أمر المؤمنون ، ما فعلوه. انتهى. والقول الثاني بعيد. لأنه لا يعدل عن الحقيقة إلا لضرورة. ولمنافاته للآثار المذكورة الصريحة في الأول.

الثاني ـ الضمير في (فعلوه) للمكتوب الشامل للقتل والخروج. لدلالة (كتبنا) عليه. أو هو عائد على أحد مصدري الفعلين. قال الخفاجيّ : وللعطف ب (أو) لزم توحيد الضمير. انتهى.

أقول : ذكر الشيخ خالد في (التصريح) أن إفراد الضمير في العطف ب (أو) رأي البصريين. والتثنية رأي الكوفيين. فأفاد جواز الوجهين. قال محشيه العلامة يس : الذي نص عليه ابن مالك أن (أو) التي للشك والإبهام يفرد بعدها الضمير. والتي للتنويع يطابق. نحو قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) [النساء : ١٣٥]. ونص على ذلك ابن هشام في (المغني) في (بحث الجملة المعترضة) فقال (في قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما)) : الظاهر أن الجواب : فالله أولى بهما. ولا يرد ذلك تثنية للضمير كما قد توهموا. لأن (أو) هنا للتنويع. حكمها حكم (الواو) في وجوب المطابقة. نصّ عليه الأبدي. وهو الحق. انتهى. وبه يعلم أن ما اشتهر من أنه إذا ذكر متعاطفان ب (أو) فإنه يعاد الضمير إلى أحدهما ـ ليس على عمومه.

الثالث ـ قرأ ابن عامر (قليلا) بالنصب على الاستثناء. والباقون بالرفع بدلا من الضمير المرفوع (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) أي : من متابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطاعته والانقياد لما يحكم به ظاهرا وباطنا. وسميت أوامر الله ونواهيه مواعظ ، لاقترانها بالوعد والوعيد (لَكانَ) أي : فعلهم ذلك (خَيْراً لَهُمْ) في عاجلهم (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) أي لإيمانهم ، وأبعد من الاضطراب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) (٦٧)

(وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا) أي : من عندنا (أَجْراً) أي ثوابا (عَظِيماً) يعني الجنة.

٢١٥

القول في تأويل قوله تعالى

(وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٦٨)

(وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي لثبتناهم في الدنيا على دين قويم نرتضيه ، وهو الإسلام. ثم بين تعالى فضل الطاعة وأن ثمرتها مرافقة أقرب عباد الله إلى الله وأرفعهم درجات عنده. فقال :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٦٩)

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) ولم يذكر المنعم به إشعارا بقصور العبارة عن تفصيله وبيانه (مِنَ النَّبِيِّينَ) الذين أنبأهم الله أكمل الاعتقادات والأحكام. وأمرهم بإنبائها الخلق ، كلّا بمقدار استعداده (وَالصِّدِّيقِينَ) (جمع صديق) وهو المبالغ في صدق ظاهره بالمعاملة ، وباطنه بالمراقبة. أو الذي يصدق قوله بفعله. كذا في (المدارك).

قال الرازيّ : للمفسرين (في الصدّيق) وجوه : الأول ـ أن كل من صدق بكل الدين لا يتخالجه فيه شك فهو صديق. والدليل عليه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) [الحديد : ١٩]. الثاني ـ قال قوم : الصديقون أفاضل أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. الثالث ـ أن الصديق اسم لمن سبق إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام.

فصار في ذلك قدوة لسائر الناس. وإذا كان الأمر كذلك ، كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أولى الخلق بهذا الوصف. ثم جوّد الرازيّ الكلام في سبقه رضي الله عنه إلى التصديق ، وفي كونه صار قدوة للناس في ذلك. فانظره. (وَالشُّهَداءِ) الذين استشهدوا في سبيل الله تعالى (وَالصَّالِحِينَ) الذين صلحت أحوالهم وحسنت أعمالهم (وَحَسُنَ أُولئِكَ) إشارة إلى النبيين والصديقين وما بعدهما (رَفِيقاً) يعني في الجنة. والرفيق الصاحب. سمي رفيقا لارتفاقك به وبصحبته. وإنما وحّد (الرفيق) وهو صفة الجمع ، لأن العرب تعبّر به عن الواحد والجمع. كالصديق والخليط. والجملة تذييل مقرر لما قبله ، مؤكد للترغيب والتشويق.

٢١٦

قال الزمخشريّ : فيه معنى التعجب. كأنه قيل : وما أحسن أولئك رفيقا! ولاستقلاله بمعنى التعجب قرئ (وحسن) بسكون السين.

تنبيهات

الأول ـ قال الرازيّ : ليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين ... إلخ ـ كون الكل في درجة واحدة. لأن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول. وأنه لا يجوز. بل المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر ، وإن بعد المكان. لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا. وإذا أرادوا الزيارة قدروا عليه. فهذا هو المراد من هذه المعية.

الثاني ـ دلت الآية على أنه لا مرتبة بعد النبوة في الفضل والعلم إلا هذا الوصف ، وهو كون الإنسان صدّيقا. ولذا أينما ذكر في القرآن الصديق والنبيّ لم يجعل بينهما واسطة.

كما قال تعالى في وصف إسماعيل : (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) [مريم : ٥٤]. وفي صفة إدريس : (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) [مريم : ٥٦]. وقال في هذه الآية : (مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ). يعني إنك إن ترقيت من الصديقية وصلت إلى النبوة. وإن نزلت من النبوة وصلت إلى الصديقية. ولا متوسط بينهما. وقال في آية أخرى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) [الزمر : ٣٣]. فلم يجعل بينهما واسطة. وكما دلت هذه الدلائل على نفي الواسطة ، فقد وفق الله هذه الأمة الموصوفة بأنها خير أمة ، حتى جعلوا الإمام بعد الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بكر ، على سبيل الإجماع. ولما توفي رضوان الله عليه دفنوه إلى جنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وما ذاك إلا أن الله تعالى رفع الواسطة بين النبيين والصديقين في هذه الآية. فلا جرم ارتفعت الواسطة بينهما في الوجوه التي عددناها. أفاده الرازيّ.

الثالث ـ روى الطبريّ في سبب نزولها عن سعيد بن جبير قال : جاء (١) رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو محزون. فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا فلان! مالي أراك محزونا! فقال : يا نبيّ الله! شيء فكرت فيه. فقال : ما هو! قال نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك. غدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك. فلم يردّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا. فأتاه جبريل بهذه الآية : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) إلخ. فبعث النبيّ

__________________

(١) الأثر رقم ٩٩٢٤.

٢١٧

صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبشره. وقد روي هذا الأثر مرسلا عن مسروق وعن عكرمة وعامر الشعبيّ وقتادة وعن الربيع بن أنس. وهو من أحسنها سندا : قال الطبريّ (١) : حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الرّبيع قال (في هذه الآية): إن أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : قد علمنا أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم له فضله على من آمن به في درجات الجنة. ممن اتبعه وصدقه. فكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضا؟ فأنزل الله في ذلك هذه الآية. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الأعلين ينحدرون إلى من هو أسفل. منهم فيجتمعون في رياضها فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه. وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهون وما يدعون به. فهم في روضة يحبرون ، ويتنعمون فيه». ورواه ابن مردويه من وجه آخر مرفوعا عن عائشة. قالت : جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! إنك لأحب إليّ من نفسي وأحب إليّ من أهلي وأحب إليّ من ولدي. وإني لأكون في البيت فأذكرك. فما أصبر حتى آتيك ، فأنظر إليك. وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك ، إذا دخلت الجنة ، رفعت مع النبيين. وإن دخلت الجنة خشيت أن لا أراك. فلم يردّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزلت عليه : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ ...) الآية. وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه في (صفة الجنة) بإسناد قال فيه : لا أرى به بأسا.

الرابع ـ روي في السنة في معنى هذه الآية أخبار وافرة. منها : في صحيح مسلم (٢) عن ربيعة بن كعب الأسلميّ أنه قال : كنت أبيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأتيته بوضوء وحاجته فقال لي : سل : فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة فقال : أو غير ذلك؟ قلت : هو ذاك. قال : فأعنّي على نفسك بكثرة السجود. ومنها في مسند الإمام أحمد (٣) عن عمرو بن مرة الجهنيّ : قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وصليت الخمس وأديت زكاة مالي ، وصمت شهر رمضان. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من مات على ذلك كان من النبيين والشهداء يوم القيامة هكذا (ونصب إصبعيه) ما لم يعقّ والديه.

قال ابن كثير : تفرد به أحمد. ومنها ما رواه الإمام أحمد (٤) أيضا عن سهل بن

__________________

(١) الأثر رقم ٩٩٢٨.

(٢) أخرجه مسلم في : الصلاة ، حديث ٢٢٦.

(٣) جاء في (عمدة التفسير) ٣ / ٢١٧. قال الأستاذ أحمد محمد شاكر معلقا على هذا الحديث ما يأتي : خفي عليّ مكانه من المسند. وبقوله أقول.

(٤) أخرجه في المسند ٣ / ٤٣٧.

٢١٨

معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ ألف آية في سبيل الله تبارك وتعالى كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا». إن شاء الله تعالى. ومنها ما رواه الترمذيّ (١) عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : التاجر الصديق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء.

قال ابن كثير : وأعظم من هذا كله بشارة ، ما ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال : المرء مع من أحب.

قال أنس : فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث.

وفي رواية عن أنس أنه قال : إني لأحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأحب أبا بكر وعمر وأرجو أن يبعثني معهم ، وإن لم أعمل كعملهم.

وعن أبي سعيد الخدريّ (٣) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم ، كما تتراءون الكوكب الدريّ الغابر من الأفق ، من المشرق أو المغرب ، لتفاضل ما بينهم. قالوا : يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم. قال : بلى. والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين». أخرجاه في الصحيحين من حديث الإمام مالك. واللفظ لمسلم. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) (٧٠)

(ذلِكَ) مبتدأ. إشارة إلى ما للمطيعين من الأجر ومزيد الهداية ومرافقة

__________________

(١) أخرجه الترمذيّ في : البيوع ، ٤ ـ باب ما جاء في التجار وتسمية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم.

(٢) أخرجه البخاريّ في : الأدب ، ٩٦ ـ باب علامة حب الله عزوجل لقوله (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) ، حديث ٢٣٥٧ ونصه : قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المرء مع من أحب».

وأخرجه مسلم في : البر والصلة والآداب ، حديث ١٦٣ ونصه : عن أنس بن مالك قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! متى الساعة؟ قال «وما أعددت للساعة؟» قال : حب الله ورسوله. قال «فإنك مع من أحببت».

قال أنس : فما فرحنا ، بعد الإسلام ، فرحا أشد من قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فإنك مع من أحببت».

قال أنس : فأنا أحب الله ورسوله ، وأبا بكر وعمر ، فأرجو أن أكون معهم ، وإن لم أعمل بأعمالهم.

(٣) أخرجه مسلم في : الجنة وصفة نعيمها وأهلها ، حديث ١١.

٢١٩

المنعم عليهم. أو إلى فضل هؤلاء المنعم عليهم ومزيتهم. فالمشار إليه إما جميع ما قبله أو ما يليه. (الْفَضْلُ) صفة (مِنَ اللهِ) خبره. أي : ذلك الفضل العظيم من الله تعالى لا من غيره. أو (الْفَضْلُ) خبر ، و (مِنَ اللهِ) حال. والعامل فيه معنى الإشارة. أي : ذلك الثواب ، لكمال درجته ، كأنه هو الفضل. وإن ما سواه ليس بشيء موجودا وكائنا من الله تعالى. لا أن أعمال المكلفين توجبه.

قال الناصر في (الانتصاف) : معتقدنا ، معاشر أهل السنة ، أن الطاعات والأعمال التي يتميز بها هؤلاء الخواص ، خلق الله تعالى وفعله. وإن قدرهم لا تأثير لها في أعمالهم. بل الله عزوجل يخلق على أيديهم الطاعات ويثيبهم عليها. فالطاعة إذا من فضله. فله الفضل على كل حال. والمنة في الفاتحة والمآل. وكفى بقول سيد البشر في ذلك حجة وقدوة.

فقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام (١) : «لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله. قيل : ولا أنت يا رسول الله؟ ولا أنا. إلا أن يتغمدني الله بفضل منه وبرحمة». قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا. اللهم! اختم لنا باقتفاء السنة. وأدخلنا بفضلك المحض الجنة. انتهى كلام الناصر.

والحديث المذكور أخرجه الشيخان عن أبي هريرة. (وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) بجزاء من أطاعه وبمقادير الفضل واستحقاق أهله.

قال الرازيّ : وله موقع عظيم في توكيد ما تقدم من الترغيب في طاعة الله. لأنه تعالى نبه بذلك على أنه يعلم كيفية الطاعة وكيفية الجزاء والتفضل. وذلك مما يرغب المكلف في كمال الطاعة ، والاحتراز عن التقصير فيه. ثم أعاد تعالى ، بعد الترغيب في طاعته وطاعة رسوله ، الأمر بالجهاد الذي تقدم ، لأنه أشق الطاعات وأعظم الأمور التي يحصل بها تقوية الدين ، فقال سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) (٧١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) أي تيقظوا واحترزوا من العدوّ ولا تمكنوه

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الرقاق ، ١٨ ـ باب القصد والمداومة على العمل ، حديث ٣٥ ونصه : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لن ينجّي أحدا منكم عمله» قالوا : ولا أنت ، يا رسول الله؟ قال «ولا أنا. إلا أن يتغمدني الله برحمته. سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا ، وشيء من الدّلجة. والقصد القصد تبلغوا».

٢٢٠