تفسير القاسمي - ج ٣

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٣

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٥

ولاختلاف المراد بالكلم في السورتين. قيل في سورة المائدة : يحرفون الكلم من بعد مواضعه. أي ينقلونه عن الموضع الذي وضعه الله فيه ، فصار وطنه ومستقره ، إلى غير الموضع. فبقي كالغريب المتأسف عليه الذي يقال فيه هذا غريب من بعد مواضعه ومقارّه. ولا يوجد هذا المعنى في مثل (راعِنا) و (غَيْرَ مُسْمَعٍ) وإن وجد على بعد فليس الوضع اللغويّ مما يعبأ بانتقاله عن موضعه كالوضع الشرعيّ. ولو لا اشتمال هذا النقل على الهزء والسخرية لما عظم أمره. فلذلك جاء هنا (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) غير مقرون بما قرن به الأول من صورة التأسف. والله أعلم. انتهى.

وقال العلامة أبو السعود : والمراد بالتحريف هاهنا ، إما ما في التوراة خاصة وإما ما هو أعم منه ، ومما سيحكى عنهم من الكلمات المعهودة الصادرة عنهم في أثناء المحاورة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولا مساغ لإرادة تلك الكلمات خاصة بأن يجعل عطف قوله تعالى (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا) وما بعده ، على ما قبله عطفا تفسيريا. لأنه يستدعي اختصاص حكم الشرطية الآتية وما بعدها بهنّ من غير تعرض لتحريفهم التوراة. مع أنه معظم جناياتهم المعدودة فقولهم (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) ينبغي أن يجري على إطلاقه من غير تقييد بزمان أو مكان ولا تخصيص بمادة دون مادة. بل وأن يحمل على ما هو أعم من القول الحقيقيّ ومما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم. أي يقول في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لا ، بلسان المقال أو الحال : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) عنادا أو تحقيقا للمخالفة. انتهى.

قال ابن كثير : ويقولون سمعنا أي : سمعنا ما قلته يا محمد ولا نطيعك فيه. هكذا فسره مجاهد وابن زيد ، وهو المراد. وهذا أبلغ في كفرهم وعنادهم وأنهم يتولون عن كتاب الله بعد ما عقلوه وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من الإثم والعقوبة. (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) عطف على (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) داخل تحت القول أي : ويقولون ذلك في أثناء مخاطبته عليه الصلاة والسلام خاصة. وهو كلام ذو وجهين محتمل للشر. بأن يحمل على معنى (اسْمَعْ) ، حال كونك غير مسمع كلاما أصلا. بصمم أو موت. أي مدعوّا عليك بلا سمعت. أو غير مسمع كلاما ترضاه. وللخير بأن يحمل على : اسمع منا غير مسمع مكروها. كانوا يخاطبون به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم استهزاء به (عليهم اللعنة) مظهرين له إرادة المعنى الأخير وهم مضمرون المعنى الأول مطمئنون به (وَراعِنا) عطف على ما قبله. أي ويقولون في أثناء خطابهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا أيضا. وهي كلمة ذات وجهين أيضا محتملة للخير بحملها

١٤١

على معنى ارقبنا وانظرنا نكلمك. وللشر بحملها على شبه كلمة عبرانية كانوا يتسابّون بها. أو على السب بالرعونة أي الحمق. وبالجملة فكانوا ، سخرية بالدين وهزؤا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) أي فتلا بها وصرفا للكلام من وجه إلى وجه وتحريفا. أي يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون (راعِنا) موضع (انْظُرْنا) و (غَيْرَ مُسْمَعٍ) موضع (لا أسمعت مكروها) أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا. فإن قلت : كيف جاءوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد ما صرحوا وقالوا (سَمِعْنا وَعَصَيْنا)؟ قلت : جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء. ويجوز أن يقولوه فيما بينهم ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ولكنهم لما لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به. كذا في الكشاف.

وأصل (لَيًّا) لويا لأنه من لويت أدغمت الواو في الياء لسبقها بالسكون. ومثله (الطيّ) (وَطَعْناً فِي الدِّينِ) أي قدحا فيه بالاستهزاء والسخرية وانتصابهما على العلّية ل (يَقُولُونَ) باعتبار تعلقه بالقولين الأخيرين. أي يقولون ذلك لصرف الكلام عن وجهه إلى السب والطعن في الدين. أو على الحالية. أي : لاوين وطاعنين في الدين. أفاده أبو السعود.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا) أي عند ما سمعوا ما يتلى عليهم من أوامره تعالى : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي بدل قولهم (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) والقول هنا كسابقه أعم من أن يكون بلسان المقال أو بلسان الحال (وَاسْمَعْ) أي لو قالوا عند مخاطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدل قولهم (اسْمَعْ) فقط بلا زيادة (غَيْرَ مُسْمَعٍ) المحتمل للشرّ (وَانْظُرْنا) يعني بدل قولهم (راعِنا) المحتمل للمعنى الفاسد كما سلف (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ) في الدنيا بحقن دمائهم وأموالهم وعلوّ رتبتهم بإحاطة الكتب السماوية. وفي الآخرة بضعف الثواب. أفاده المهايميّ.

قال أبو السعود : وصيغة التفضيل إما على بابها واعتبار أصل الفضل في المفضل عليه بناء على اعتقادهم. أو بطريق التهكم. وإما بمعنى اسم الفاعل (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أي : ولكن لم يقولوا ذلك واستمروا على كفرهم فطردهم الله عن رحمته وأبعدهم عن الهدى ، بسبب كفرهم (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) منصوب على الاستثناء من (لَعَنَهُمُ) أي ولكن لعنهم الله إلا فريقا قليلا منهم. آمنوا

١٤٢

فلم يلعنوا. أو على الوصفية لمصدر محذوف. أي : إلا إيمانا قليلا أي ضعيفا ركيكا لا يعبأ به. فإنهم كانوا يؤمنون بالله والتوراة وموسى ، ويكفرونه ببقية المرسلين وكتبهم المنزلة. ورجّح أبو علي الفارسيّ هذا. قال : لأن (قَلِيلاً) لفظ مفرد : ولو أريد به (ناس) لجمع نحو قوله : (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) [الشعراء : ٥٤]. ويمكن أن يجاب عنه بأنه قد جاء فعيل مفردا. والمراد به الجمع قال تعالى : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء : ٦٩]. وقال : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) [المعارج : ١٠] يبصرونهم. أفاده الرازيّ. وقد جوز على هذا أن يراد بالقلة العدم بالكلية. كقوله :

قليل التشكي للمهم يصيبه

كثير الهوى شتى النوى والمسالك

أي هو كثير الهم مختلف الوجوه والطرق لا يقف أمله على فن واحد بل يتجاوزه إلى فنون مختلفة. صبور على النوائب لا يكاد يتشكى منها. فاستعمل لفظ (قليل) وأراد به نفي الكل. أو منصوب على الاستثناء من فاعل (لا يؤمنون) أي : فلا يؤمن منهم إلا نفر قليل. وأما قول الخفاجيّ : كان الوجه فيه الرفع على البدل لأنه من كلام غير موجب. وأبي السعود : بأنه فيه نسبة القراء إلى الاتفاق على غير المختار ـ فمردود بأن النصب عربيّ جيد. وقد قرئ به في السبع في (قليل) من قوله تعالى : (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) [النساء : ٦٦] وفي (امرأتك) من قوله تعالى : (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ) [هود : ٨١] كما قاله ابن هشام في التوضيح.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٤٧)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا) يعني القرآن (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) أي موافقا للتوراة (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم. وقال العوفيّ عن ابن عباس : طمسها أن تعمى (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) أي فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها جزاء على الكفر. فالفاء للتسبيب. أو ننكسها بعد الطمس فنردها إلى موضع الأقفاء والأقفاء إلى موضعها. وقد اكتفى بذكر أشدهما. فالفاء للتعقيب.

١٤٣

قال الرازيّ : وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة. لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) أي : أو نفعل بهم أبلغ من ذلك. وهو أن نطردهم عن الإنسانية بالمسخ الكليّ جزاء على اعتدائهم بترك الإيمان. كما أخزينا به أوائلهم أصحاب السبت جزاء على اعتدائهم على السبت بالحيلة على الاصطياد. فمسخناهم قردة (وَكانَ أَمْرُ اللهِ) أي ما أمر به (مَفْعُولاً) أي نافذا كائنا لا محالة. هذا وفي الآية تأويل آخر. وهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه. وهو صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلالة. يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم.

قال ابن كثير : وهذا كما قال بعضهم في قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ* وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [يس : ٨ ـ ٩] : أي هذا مثل سوء ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى. قال مجاهد : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) ، يقول : عن صراط الحق. (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) أي في الضلال. قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس والحسن نحو هذا. قال السديّ : فنردّها على أدبارها : فنمنعها عن الحق ، نرجعها كفارا.

قال الرازيّ : والمقصود على هذا بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات. ونظيره قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال : ٢٤]. تحقيق القول فيه أن الإنسان في مبدأ خلقته ألف هذا العالم المحسوس. ثم إنه عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات. فقدامه عالم المعقولات ، ووراءه عالم المحسوسات. فالمخذول هو الذي يرد عن قدامه إلى خلفه. كما قال تعالى في صفتهم : (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) [السجدة : ١٢].

ثم قال الرازيّ : قال عبد الرحمن بن زيد : هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى. وتأول ذلك في إجلاء قريظة والنضير إلى الشام. فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وأريحاء ، من أرض الشام. كما جاءوا منها و (طمس الوجوه) على هذا التأويل يحتمل معنيين : أحدهما ـ تقبيح صورتهم. يقال : طمس الله صورته ،

١٤٤

كقوله : قبح الله وجهه. والثاني ـ إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها. وثمة تأويل آخر. وهو : أن المراد بالوجوه الوجهاء. على أن الطمس بمعنى مطلق التغيير. أي من قبل أن نغيّر أحوال وجهائهم ، فنسلب إقبالهم ووجاهتهم ، ونكسوهم صغارا وإدبارا.

وقال بعضهم : الأظهر حمل قوله (أَوْ نَلْعَنَهُمْ) إلخ على اللعن المتعارف. قال : ألا ترى إلى قوله تعالى : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) [المائدة : ٦٠]. ففصل تعالى بين اللعن وبين مسخهم قردة وخنازير.

وأقول : لا يخفى أن جميع ما ذكر من التأويلات ، غير الأول ، لا يساعده مقام تشديد الوعيد ، وتعميم التهديد. فإن المتبادر من اللفظ الحقيقة. ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذر إرادتها. ولا تعذر هنا. كما أن المتبادر من اللعن ، المشبه بلعن أصحاب السبت ، هو المسخ. وهو الذي تقتضيه بلاغة التنزيل. إذ فيه الترقي إلى الوعيد الأفظع. ولا ننكر أن تكون هذه التأويلات مما يشمله لفظ الآية. وإنما البحث في دعوى إرادتها دون سابقها. فالحق أن المتبادر من النظم الكريم هو الأول لأنه أدخل في الزجر. ويؤيده ما روي ، أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية. رواه ابن جرير (١) وابن أبي حاتم ولفظه بعد إسناده : عن أبي إدريس عائذ الله الخولانيّ قال : كان أبو مسلم الجليليّ معلم كعب. وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال فبعثه إليه ينظر أهو هو؟ قال كعب : فركبت حتى أتيت المدينة. فإذا تال يقرأ القرآن ، يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها). فاغتسلت ، وإني لأمسّ وجهي مخافة أن أطمس. ثم أسلمت.

وروى ، من غير طريق ، نحوه أيضا.

فإن قيل : قرينة المجاز عدم وقوع المتوعد به. فالجواب : أن عدم وقوعه لا يعين إرادة المجاز. إذ ليس في الآية دلالة على تحتم وقوعه إن لم يؤمنوا. ولو فهم منها هذا فهما أوليّا لكان إيمانهم بعدها إيمان إلجاء واضطرار. وهو ينافي التكليف الشرعيّ. إذ لم تجر سنته تعالى بهذا. بل النظم الكريم في هذا المقام محتمل ابتداء

__________________

(١) الأثر رقم ٩٧٢٥.

١٤٥

للقطع بوقوع المتوعد به. ولوقوعه معلقا بأمره تعالى ومشيئته بذلك ، وهو المراد. كما ينبئ عنه قوله تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [الأحزاب : ٣٧] : أي ما يأمر به ، ويريد وقوعه. وإذا كان الوعيد منوطا بأمره سبحانه ، فله أن يمضيه على حقيقته وله أن يصرفه لما هو أعلم به. إلا أن ورود نظم الآية بهذا الخطاب المتبادر في الوقوع غير المعلق ، ليكون أدخل في الترهيب ، ومزجرة عن مخالفة الأمر. هكذا ظهر لنا الآن. وهو أقرب مما نحاه المفسرون هنا من أن العقاب منتظر ، أو ، أنه مشروط بعدم الإيمان. إلى غير ذلك. فقد زيفها جميعها العلامة أبو السعود. ثم اختار أن المراد من الوعيد الأخرويّ. قال : لأنه لم يتضح وقوعه. وهذا فيه بعد أيضا ، لنبوّ مثل هذا الخطاب عن إرادة الوعيد الأخرويّ. لا سيما والجملة الثانية التي هددوا بها ، أعني لعنهم كأصحاب السبت ، كان عقابها دنيويّا. فالوجه ما قررناه. وما أشبه هذه الآية ، في وعيديها ، بآية يس. أعني قوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) [يس : ٦٦ ـ ٦٧]. بل هذه عندي تفسير لتلك. والقرآن يفسر بعضه بعضا. فبرح الخفاء والحمد لله.

لطيفة :

الضمير في (نلعنهم) لأصحاب الوجوه. أو (للذين) على طريقة الالتفات أو (للوجوه) إن أريد بها الوجهاء.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (٤٨)

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) قال أبو السعود : كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله من الوعيد ، وتأكيد وجوب الامتثال بالأمر بالإيمان ، ببيان استحالة المغفرة بدونه. فإنهم كانوا يفعلون ما يفعلون من التحريف ويطمعون في المغفرة. كما في قوله تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ) [الأعراف : ١٦٩]. (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) (أي على التحريف) (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا). والمراد بالشرك مطلق الكفر المنتظم لكفر اليهود انتظاما أوليّا. فإن الشرع قد نص على إشراك أهل الكتاب قاطبة. وقضى بخلود أصناف الكفرة في النار. ونزوله في حق اليهود ،

١٤٦

كما قال مقاتل ، وهو الأنسب بسياق النظم الكريم ، وسياقه لا يقتضي اختصاصه بكفرهم ، بل يكفي اندراجه فيه قطعا. بل لا وجه له أصلا. لاقتضائه جواز مغفرة ما دون كفرهم في الشدة من أنواع الكفر. أي لا يغفر الكفر لمن اتصف به بلا توبة وإيمان. لأن الحكمة التشريعية مقتضية لسد باب الكفر. وجواز مغفرته بلا إيمان مما يؤدي إلى فتحه. ولأن ظلمات الكفر والمعاصي إنما يسترها نور الإيمان. فمن لم يكن له إيمان لم يغفر له شيء من الكفر والمعاصي. انتهى.

قال الشهاب : الشرك يكون بمعنى اعتقاد أن لله شريكا ، وبمعنى الكفر مطلقا ، وهو المراد هنا. وقد صرح به في قوله تعالى في سورة (البينة) بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) [البينة : ٦]. فلا يبقى شبهة في عمومه. انتهى.

وقال الرازيّ : هذه الآية دالة على أن اليهوديّ يسمى مشركا ، في عرف الشرع. ويدل عليه وجهان : الأول ـ أن الآية دالة على أن ما سوى الشرك مغفور. فلو كانت اليهودية مغايرة للشرك لوجب أن تكون مغفورة بحكم هذه الآية. وبالإجماع هي غير مغفورة. فدل على أنها داخلة تحت اسم الشرك. الثاني ـ إن اتصال هذه الآية بما قبلها ، إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود. فلو لا أن اليهودية داخلة تحت اسم الشرك ، وإلا لم يكن الأمر كذلك. فإن قيل : قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا ...) إلى قوله : (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) [الحج : ١٧]. فعطف المشرك على اليهوديّ ، وذلك يقتضي المغايرة ـ قلنا المغايرة حاصلة بسبب المفهوم اللغويّ. والاتحاد حاصل بسبب المفهوم الشرعيّ. ولا بد من المصير إلا ما ذكرناه ، دفعا للتناقض. انتهى.

لطيفة :

قال أبو البقاء : الشرك أنواع : شرك الاستقلال وهو إثبات إلهين مستقلين. كشرك المجوس. وشرك التبعيض ، وهو تركيب الإله من آلهة كشرك النصارى. وشرك التقريب ، وهو عبادة غير الله ليقرب إلى الله زلفى ، كشرك متقدمي الجاهلية. وشرك التقليد ، وهو عبادة غير الله تبعا للغير. كشرك متأخري الجاهلية. وشرك الأسباب. وهو إسناد التأثير للأسباب العادية ، كشرك الفلاسفة والطبائعيين ومن تبعهم على ذلك. وشرك الأغراض ، وهو العمل لغير الله. فحكم الأربعة الأولى الكفر بإجماع. وحكم السادس المعصية من غير كفر بإجماع. وحكم الخامس التفصيل. فمن قال في الأسباب العادية إنها تؤثر بطبعها فقد حكى الإجماع على كفره. ومن قال إنها

١٤٧

تؤثر بقوة أودعها الله فيها فهو فاسق. انتهى. (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) أي ما دون الشرك من المعاصي ، صغيرة كانت أو كبيرة (لِمَنْ يَشاءُ) تفضلا منه وإحسانا. قال ابن جرير : وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عزوجل. إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه عليه. ما لم تكن كبيرته شركا بالله عزوجل. وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلا منه ورحمة. وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة. وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة. وقد تقدم قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء : ٣١]. وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب الكبائر. فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته. ولذا قال الرازيّ : هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على العفو عن أصحاب الكبائر. ثم جوّد وجوه الاستدلال. ومنها : أن ما سوى الشرك يدخل فيه الكبيرة قبل التوبة. ومنها أن غفران الكبيرة بعد التوبة وغفران الصغيرة مقطوع به وغير معلق على المشيئة. فوجب أن يكون الغفران المذكور ، في هذه الآية ، هو غفران الكبيرة قبل التوبة. وهو المطلوب.

وأول الزمخشريّ هذه الآية على مذهبه : بأن الفعل المنفيّ والمثبت جميعا ، موجّهان إلى قوله تعالى (لِمَنْ يَشاءُ) على قاعدة التنازع. كأنه قيل : إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك. على أن المراد بالأول من لم يتب وبالثاني من تاب. قال : ونظيره قولك : إن الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء. تريد لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله ، ويبذل القنطار لمن يستأهله. انتهى.

قال ناصر الدين في (الانتصاف) : عقيدة أهل السنة أن الشرك غير مغفور البتة. وما دونه من الكبائر مغفور لمن يشاء الله أن يغفره له. هذا مع عدم التوبة. وأما مع التوبة فكلاهما مغفور. والآية إنما وردت فيمن لم يتب ولم يذكر فيها توبة كما ترى. فلذلك أطلق الله تعالى نفي مغفرة الشرك وأثبت مغفرة ما دونه مقرونة بالمشيئة ، كما ترى. فهذا وجه انطباق الآية على عقيدة أهل السنة. وأما القدرية فإنهم يظنون التسوية بين الشرك وبين ما دونه من الكبائر. في أن كل واحد من النوعين لا يغفر بدون التوبة ، ولا شاء الله أن يغفرهما إلا للتائبين. فإذا عرض الزمخشريّ هذا المعتقد على هذه الآية ردته ونبت عنه. إذ المغفرة منفية فيها عن الشرك وثابتة لما دونه مقرونة بالمشيئة فأما أن يكون المراد فيهما من لم يتب ، فلا وجه للتفصيل بينهما بتعليق المغفرة في أحدهما بالمشيئة وتعليقها بالآخر مطلقا. إذ هما سيّان في استحالة المغفرة. وأما أن يكون المراد فيهما التائب فقد قال في

١٤٨

الشرك إنّه (لا يَغْفِرُ) والتائب من الشرك مغفور له. وعند ذلك أخذ الزمخشريّ يقطع أحدهما عن الآخر. فيجعل المراد مع الشرك عدم التوبة ومع الكبائر التوبة. حتى تنزل الآية على وفق معتقده فيحملها أمرين لا تحمل واحد منهما : أحدهما ـ إضافة التوبة إلى المشيئة وهي غير مذكورة ولا دليل عليها فيما ذكر. وأيضا لو كانت مرادة لكانت هي السبب الموجب للمغفرة على زعمهم عقلا. ولا يمكن تعلق المشيئة بخلافها على ظنهم في العقل. فكيف يليق السكوت عن ذكر ما هو العمدة والموجب ، وذكر ما لا مدخل له على هذا المعتقد الرديء؟ الثاني ـ أنه بعد تقريره التوبة احتكم فقدرها على أحد القسمين دون الآخر. وما هذا إلا من جعل القرآن تبعا للرأي. نعوذ بالله من ذلك.

وأما القدرية فهم بهذا المعتقد يقع عليه بهم المثل السائر (السيد يعطي والعبد يمنع). لأن الله تعالى يصرح كرمه بالمغفرة للمصرّ على الكبائر ، إن شاء. وهم يدفعون في وجه هذا التصريح ويحيلون المغفرة بناء على قاعدة الأصلح والصلاح ، التي هي بالفساد أجدر وأحق. انتهى.

فائدة :

وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة :

الأول ـ عن عائشة (١) قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدواوين عند الله عزوجل ثلاثة : ديوان لا يعبأ الله به شيئا. وديوان لا يترك الله منه شيئا. وديوان لا يغفره الله. فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله. قال الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية. وقال : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) [المائدة : ٧٢]. وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا ، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه ، أو صلاة تركها. فإن الله عزوجل يغفر ذلك ويتجاوز ، إن شاء. وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا ، فظلم العباد بعضهم بعضا ، القصاص لا محالة». رواه الإمام أحمد. وقد تفرد به.

الثاني ـ عن أنس بن مالك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الظلم ثلاثة ؛ فظلم لا يغفره الله. وظلم يغفره الله. وظلم لا يترك الله منه شيئا. فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك. وقال : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣]. وأما الظلم الذي يغفره

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٦ / ٢٤٠.

١٤٩

الله ، فظلم العباد لأنفسهم ، فيما بينهم وبين ربهم. وأما الظلم الذي لا يتركه ، فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدين لبعضهم من بعض». رواه أبو بكر البزار في مسنده.

الثالث ـ عن معاوية قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «كل ذنب عسى الله أن يغفره. إلا الرجل يموت كافرا. أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا». رواه الإمام أحمد (١) والنسائيّ.

الرابع ـ عن أبي ذر (٢) : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من عبد قال : لا إله إلا الله ، ثم مات على ذلك ، إلا دخل الجنة. قلت : وإن زنى وإن سرق؟ قال : وإن زنى وإن سرق. قلت : وإن زنى وإن سرق؟ قال : وإن زنى وإن سرق (ثلاثا) ثم قال في الرابعة : على رغم أنف أبي ذر.

قال فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول : وإن رغم أنف أبي ذر.

وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد ويقول : وإن رغم أنف أبي ذر. أخرجه الإمام أحمد والشيخان.

وفي رواية لهما عن أبي ذر : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال لي جبريل : بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت : يا جبريل! وإن سرق وإن زنى؟ قال : نعم. قلت : وإن سرق وإن زنى؟ قال : نعم. قلت : وإن سرق وإن زنى؟ قال : نعم. وإن شرب الخمر».

الخامس ـ عن جابر قال : «جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! ما الموجبتان؟ قال : من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. ومن مات يشرك به دخل النار». أخرجه مسلم (٣) وعبد بن حميد في مسنده.

السادس ـ عن أبي سعيد الخدريّ (٤) قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة». رواه الإمام أحمد.

__________________

(١) أخرجه في المسند ٩٩ / ٤.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ١٦٦.

وأخرجه البخاريّ في : اللباس ، ٢٤ ـ باب الثياب البيض ، حديث ٦٦٠.

ومسلم في : الإيمان ، حديث ر ١٥٤.

(٣) أخرجه مسلم في : الإيمان حديث ١٥١.

(٤) أخرجه في المسند ٣ / ٧٩.

١٥٠

السابع ـ عن ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله عزوجل : من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي». رواه الطبرانيّ.

الثامن ـ عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له. ومن توعده على عمل عقابا ، فهو فيه بالخيار. رواه البزار وأبو يعلى.

التاسع ـ عن ابن عمر ، قال : كنا ، معشر أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا نشك في قاتل النفس ، وآكل مال اليتيم ، وشاهد الزور ، وقاطع الرحم ، حتى نزلت هذه الآية : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) ، فأمسكنا عن الشهادة. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير (١).

وفي رواية لابن أبي حاتم : فلما سمعناها كففنا عن الشهادة وأرجينا الأمور إلى اللهعزوجل.

العاشر ـ عن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام قال : ما في القرآن أحبّ إليّ من هذه الآية : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ). رواه الترمذيّ (٢) وقال : حديث حسن غريب.

الحادي عشر ـ عن أنس (٣) رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «قال الله تعالى : يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي. يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم! إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا ، لأتيتك بقرابها مغفرة». رواه الترمذيّ وقال : حديث حسن غريب. لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وروى نحوه الإمام أحمد عن أبي ذرّ (٤) ولفظه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «قال : إن الله عزوجل يقول : يا عبدي! ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان فيك. ويا عبدي! إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي ، لقيتك بقرابها مغفرة».

__________________

(١) الأثر رقم ٩٧٣٢.

(٢) أخرجه الترمذيّ في : التفسير ، ٥ ـ سورة المائدة ، ٢٣ ـ حدثنا خلاد بن أسلم.

(٣) أخرجه الترمذيّ في : الدعوات ، ٩٨ ـ باب في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده.

(٤) أخرجه في المسند ٥ / ١٥٤.

١٥١

والأحاديث في ذلك متوافرة. ويكفي هذا المقدار.

(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) أي افترى واختلق ، مرتكبا إثما لا يقادر قدره. ويستحقر دونه جميع الآثام. فلا تتعلق به المغفرة قطعا.

قال ابن القيّم رحمه‌الله تعالى في كتابه (الجواب الكافي) : الشرك بالرب تعالى نوعان : شرك به في أسمائه وصفاته ، وجعل آلهة أخرى معه. وشرك به في معاملته. وهذا الثاني قد لا يوجب دخول النار ، وإن أحبط العمل الذي أشرك فيه مع الله غيره. وهذا القسم أعظم أنواع الذنوب ، ويدخل فيه القول على الله بلا علم ، في خلقه وأمره. فمن كان من أهل هذه الذنوب ، فقد نازع الله ، سبحانه وتعالى ، ربوبيته وملكه. وجعل له ندّا. وهذا أعظم الذنوب عند الله. ولا ينفع معه عمل.

وقال بعد ذلك : وكشف الغطاء عن هذه المسألة أن يقال : إن الله عزوجل أرسل رسله وأنزل كتبه وخلق السموات والأرض ، ليعرف ويعبد ويوحد ويكون الدين كله له ، والطاعة كلها له ، والدعوة له. كما قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦]. وقال تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [الحجر : ٨٥]. وقال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) [الطلاق : ١٢]. وقال تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المائدة : ٩٧]. فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر أن يعرف بأسمائه وصفاته ، ويعبد وحده لا يشرك به ، وأن يقوم الناس بالقسط. وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض. كما قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد : ٢٥]. فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط ، وهو العدل. ومن أعظم القسط التوحيد. بل هو رأس العدل وقوامه. وإن الشرك ظلم عظيم. كما قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣]. فالشرك أظلم الظلم. والتوحيد أعدل العدل. فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر. وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له. وما كان أشد موافقة لهذا المقصود ، فهو أوجب الواجبات وأفرض الطاعات. فتأمل هذا الأصل حق التأمل واعتبر به تفاصيله ، تعرف به أحكم الحاكمين وأعلم العالمين ، فيما فرض على عباده وحرمه عليهم.

١٥٢

وتفاوت مراتب الطاعات والمعاصي. فلما كان الشرك بالله منافيا بالذات لهذا المقصود ، وكان أكبر الكبائر على الإطلاق ، وحرم الله الجنة على كل مشرك ، وأباح دمه وماله لأهل التوحيد ، وأن يتخذوهم عبيدا لهم لما تركوا القيام بعبوديته ، وأبى الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملا ، أو يقبل فيه شفاعة ، أو يستجيب له في الآخرة دعوة ، أو يقيل له فيها عثرة ـ فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله حيث جعل له من خلقه ندّا ، وذلك غاية الجهل به. كما أنه غاية الظلم منه. وإن كان المشرك لم يظلم ربه وإنما ظلم نفسه. ووقعت مسألة : وهي أن المشرك إنما قصده تعظيم جناب الرب تبارك وتعالى. وأنه لعظمته لا ينبغي الدخول عليه إلا بالوسائط والشفعاء. كحال الملوك. فالمشرك لم يقصد الاستهانة بجناب الربوبية. وإنما قصد تعظيمه.

وقال : إنما أعبد هذه الوسائط لتقربني وتدخلني عليه. فهو المقصود. وهذه وسائل وشفعاء. فلم كان هذا القدر موجبا لسخطه وغضبه تبارك وتعالى ومخلدا في النار وموجبا لسفك دماء أصحابه واستباحة حريمهم وأموالهم؟ وترتب على هذا سؤال آخر : وهو أنه هل يجوز أن يشرع الله سبحانه لعباده التقريب إليه بالشفعاء والوسائط؟ فيكون تحريم هذا إنما استفيد من الشرع ، أم ذلك قبيح في الفطر والعقول ، يمتنع أن تأتي به شريعة ، بل جاءت بتقرير ما في الفطر والعقول من قبحه الذي هو أقبح من كل قبيح؟ وما السبب في كونه لا يغفره من دون سائر الذنوب؟ كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ). فتأمل هذا السؤال. واجمع قلبك وذهنك على جوابه. ولا تستهونه فإن به يحصل الفرق بين المشركين والموحدين ، والعالمين بالله والجاهلين به ، وأهل الجنة وأهل النار. فنقول (وبالله التوفيق والتأييد ، ومنه نستمد المعونة والتسديد. فإنه من يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له. ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع) : الشرك شركان : شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله. وشرك في عبادته ومعاملته ، وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. والشرك الأول نوعان : أحدهما ـ شرك التعطيل وهو أقبح أنواع الشرك. كشرك فرعون إذ قال (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٢٣]؟ وقال تعالى مخبرا عنه أنه قال : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) [غافر : ٣٦ ـ ٣٧]. فالشرك والتعطيل متلازمان. فكل مشرك معطل وكل معطل مشرك. لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل بل قد يكون المشرك مقرّا بالخالق سبحانه وصفاته. ولكن عطل حق

١٥٣

التوحيد. وأصل الشرك وقاعدته التي ترجع إليها هو التعطيل. وهو ثلاثة أقسام : تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه. وتعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله. وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد. ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود ، الذين يقولون : ما ثمّ خالق ومخلوق ، ولا هاهنا شيئان. بل الحق المنزه هو عين الخلق المشبه. ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديّته وإنه لم يكن معدوما أصلا. بل لم يزل ولا يزال. والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها. يسمونها العقول والنفوس. ومن هذا أشرك من عطل أسماء الرب تعالى وأوصافه وأفعاله من غلاة الجهميّة والقرامطة. فلم يثبتوا له اسما ولا صفة. بل جعلوا المخلوق أكمل منه. إذ كمال الذات بأسمائها وصفاتها.

فصل

النوع الثاني. شرك من جعل معه إلها آخر ولم يعطل أسماءه وربوبيته وصفاته. كشرك النصارى الذي جعلوه ثالث ثلاثة. فجعلوا المسيح إلها وأمه إلها. ومن هذا شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة. ومن هذا شرك القدرية القائلين بأن الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه ، وإنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته وإرادته. ولهذا كانوا من أشباه المجوس. ومن هذا شرك الذي حاج إبراهيم في ربه : (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨]. فهذا جعل نفسه ندّا لله ، يحيي ويميت بزعمه. كما يحيي الله ويميت. فألزمه إبراهيم ، عليه‌السلام ورحمة الله وبركاته ، أن طرد قولك ، أن تقدر على الإتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها منها. وليس هذا انتقالا كما زعم بعض أهل الجدل ، بل إلزاما على طرد الدليل إن كان حقا. ومن هذا شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات ويجعلها أربابا مدبرة لأمر هذا العالم. كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم. ومن هذا شرك عباد الشمس وعباد النار وغيرهم. ومن هؤلاء من يزعم أن معبوده هو الإله على الحقيقة. ومنهم من يزعم أنه أكبر الآلهة. ومنهم من يزعم أنه إله من جملة الآلهة ، وأنه إذا خصه بعبادته والتبتل إليه والانقطاع إليه ، أقبل إليه واغتنى به. ومنهم من يزعم أنه معبودهم الأدنى يقربه إلى المعبود الذي هو فوقه. والفوقانيّ يقربه إلى من هو فوقه. حتى تقربه تلك الآلهة. إلى الله سبحانه. فتارة تكثر الوسائط وتارة تقل.

١٥٤

فصل

وأما الشرك في العبادة فهو أسهل من هذا الشرك وأخف أمرا. فإنه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله. وأنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع إلا الله. وأنه لا إله غيره ولا رب سواه. ولكن لا يخلص لله في معاملته وعبوديته. بل يعمل لحظّ نفسه تارة وطلب الدنيا تارة. ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة. فلله من عمله وسعيه نصيب. ولنفسه وحظه وهواه نصيب. وللشيطان نصيب. وللخلق نصيب. هذا حال أكثر الناس. وهو الشرك الذي قال فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه ابن حبان في صحيحه (١) : «الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل. قالوا : وكيف ننجو منه؟ يا رسول الله! قال : قل : اللهم! إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك لما لا أعلم».

فالرياء كله شرك. قال تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ، فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف : ١١٠].

أي كما أنه إله واحد ، لا إله سواه ، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده. فكما تفرّد بالإلهية ، يجب أن يفرد بالعبودية. فالعمل الصالح هو الخالي من الرياء ، المقيد بالسنة. وكان من دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه : اللهم! اجعل عملي كله صالحا ، واجعله لوجهك خالصا. ولا تجعل لأحد فيه شيئا. وهذا الشرك في العبادة يبطل العمل. وقد يعاقب عليه إذا كان العمل واجبا. فإنه ينزله منزلة من لم يعمله ، فيعاقب على ترك الأمر. فإن الله سبحانه إنما أمر بعبادته خالصة. قال تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ) [البينة : ٥].

فمن لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به. بل الذي أتى به ، شيء غير المأمور به ، فلا يصح ولا يقبل منه. ويقول الله تعالى (٢) : أنا أغنى الشركاء عن الشرك. من عمل عملا أشرك فيه معي غيري ، تركته وشركه. وهذا الشرك ينقسم إلى مغفور وغير مغفور. وأكبر وأصغر. والنوع الأول ينقسم إلى كبير وأكبر. وليس شيء منه مغفورا. فمنه الشرك بالله في المحبة والتعظيم بأن يحب المخلوق كما يحب

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٤٠٣.

(٢) أخرجه مسلم في : الزهد والرقائق ، حديث ٤٦.

١٥٥

الله. فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله. وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) [البقرة : ١٦٥] الآية.

وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم وقد جمعتهم الجحيم : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٩٧ ـ ٩٨]. ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق والرزق ، والإماتة والإحياء ، والملك والقدرة. وإنما سووهم به في الحب والتأله والخضوع لهم والتذلل. وهذا غاية الجهل والظلم. فكيف يسوّى من خلق من التراب برب الأرباب؟ وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب؟ وكيف يسوى الفقير بالذات ، الضعيف بالذات ، العاجز بالذات ، المحتاج بالذات ، الذي ليس له من ذاته إلا العدم ـ بالغنيّ بالذات ، القادر بالذات ، الذي غناه وقدرته وملكه وجوده وإحسانه وعلمه ورحمته ، وكماله المطلق التام من لوازم ذاته؟ فأيّ ظلم أقبح من هذا؟ وأيّ حكم أشد جورا منه؟ حيث عدل من لا عدل له بخلقه ، كما قال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١]. فعدل المشرك من خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور بمن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض. فيا لك من عدل تضمن أكبر الظلم وأقبحه!!

فصل

ويتبع هذا الشرك ، الشرك به سبحانه في الأقوال والأفعال والإرادات والنيات. فالشرك في الأفعال كالسجود لغيره ، والطواف بغير بيته ، وحلق الرأس عبودية وخضوعا لغيره ، وتقبيل الأحجار ، غير الحجر الأسود الذي هو يمين الله في الأرض ، أو تقبيل القبور واستلامها والسجود لها. وقد لعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلي لله فيها. فكيف بمن اتخذ القبور أوثانا يعبدوها من دون الله. وفي الصحيحين (١) عنه أنه قال : «لعنة الله على اليهود والنصارى. اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». وفي الصحيح (٢) عنه : «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الصلاة ، ٥٥ ـ حدثنا أبو اليمان ، حديث ٢٨٥ و ٢٨٦.

ومسلم في : المساجد ومواضع الصلاة ، حديث ١٩.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٤٣٥.

وهو في البخاريّ في : الفتن ، ٥ ـ باب ظهور الفتن ، حديث ٢٥٥٠.

وفي مسلم في : الفتن وأشراط الساعة ، حديث ١٣١.

١٥٦

وهم أحياء. ومن يتخذ القبور مساجد». وفي الصحيح (١) «أيضا عنه : إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد. فإني أنهاكم عن ذلك». وفي مسند الإمام أحمد (٢) رضي الله عنه وصحيح ابن حبان عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. وقال : اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». وقال (٣) : «إن من كان قبلكم ، إذا مات فيهم الرجل الصالح ، بنوا على قبره مسجدا وصوّروا فيه تلك الصور. أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة».

فهذا حال من سجد لله في مسجد على قبر. فكيف حال من سجد للقبر بنفسه؟ وقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤) : «اللهم! لا تجعل قبري وثنا يعبد». وقد حمى النبيّ جانب التوحيد أعظم حماية حتى نهى (٥) عن صلاة التطوّع لله سبحانه عند طلوع الشمس وعند غروبها. لئلا يكون ذريعة إلى التشبيه بعبّاد الشمس الذين يسجدون لها في هاتين الحالتين. وسد الذريعة بأن منع الصلاة بعد العصر والصبح ، لاتصال هذين الوقتين بالوقتين اللذين يسجد المشركون فيهما للشمس. وأما السجود لغير الله فقال (٦) : «لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا لله». و (لا ينبغي) في كلام الله

__________________

(١) أخرجه مسلم في : كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، حديث ٢٣.

(٢) أخرجه في المسند ١ / ٢٢٩.

(٣) أخرجه البخاريّ في : مناقب الأنصار ، حديث ٢٨١ ، ونصه : عن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير. فذكرتا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوّروا فيه تيك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة».

ومسلم في : المساجد ومواضع الصلاة ، حديث ١٦.

(٤) أخرجه مالك في : قصر الصلاة في السفر ، حديث ٨٥.

(٥) أخرجه البخاريّ في : مواقيت الصلاة ، ٣١ ـ باب لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس ، حديث ٣٧٩ ونصه : عن أبي سعيد الخدريّ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس».

(٦) أخرجه ابن ماجة في : النكاح ، ٤ ـ باب حق الزوج على المرأة ، حديث ١٨٥٣ ونصه : عن عبد الله بن أبي أوفى قال : لما قدم معاذ من الشام سجد للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال «ما هذا؟ يا معاذ!» قال : أتيت الشام فوجدتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم. فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فلا تفعلوا. فإني لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله ، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها. والذي نفس محمد بيده! لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها. ولو سألها نفسها ، وهي على قتب ، لم تمنعه».

١٥٧

ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للذي هو في غاية الامتناع شرعا. كقوله تعالى : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) [مريم : ٩٢]. وقوله : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) [يس : ٦٩]. وقوله : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) [الشعراء : ٢١٠ ـ ٢١١]. وقوله عن الملائكة : (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) [الفرقان : ١٨].

فصل

ومن الشرك به سبحانه الشرك به في اللفظ. كالحلف بغيره. كما رواه أحمد (١) وأبو داود عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «من حلف بشيء دون الله فقد أشرك». وصححه الحاكم وابن حبان. ومن ذلك قول القائل للمخلوق : ما شاء الله وشئت. كما ثبت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) «أنه قال له رجل : ما شاء الله وشئت. قال : أجعلتني لله ندّا؟ قل : ما شاء الله وحده». وهذا ، مع أن الله قد أثبت للعبد مشيئة ، كقوله : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) [التكوير : ٢٨] ـ فكيف من يقول : أنا متوكل على الله وعليك؟ وأنا في حسب الله وحسبك؟ وما لي إلا الله وأنت؟ وهذا من الله ومنك؟ وهذا من بركات الله وبركاتك؟ والله لي في السماء وأنت لي في الأرض؟ أو يقول : والله! وحياة فلان. أو يقول : نذرا لله ولفلان. وأنا تائب لله ولفلان. وأرجو الله وفلانا ونحو ذلك. فوازن بين هذه الألفاظ وبين قول القائل : ما شاء الله وشئت ، ثم انظر أيهما أفحش؟ يتبين لك أن قائلها أولى لجواب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقائل تلك الكلمة. وأنه إذا كان قد جعله ندّا لله بها ، فهذا قد جعل من لا يداني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شيء من الأشياء ، بل لعله أن يكون من أعدائه ، ندّا لرب العالمين. فالسجود والعبادة ، والتوكل والإنابة ، والتقوى والخشية ، والتحسب والتوبة ، والنذر والحلف ، والتسبيح والتكبير ، والتهليل والتحميد ، والاستغفار وحلق الرأس ، خضوعا وتعبدا ، والطواف بالبيت ، والدعاء ـ كل ذلك محض حق الله. لا يصلح ولا ينبغي لسواه ، من ملك مقرب ولا نبيّ مرسل. وفي مسند الإمام أحمد (٣) أن رجلا أتي به إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أذنب ذنبا. فلما وقف بين يديه قال : اللهم! إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد. قال : قد عرف الحق لأهله.

__________________

(١) أخرجه في المسند ١ / ٤٧.

(٢) أخرجه في المسند ١ / ٢١٤. ونصه : عن ابن عباس أن رجلا قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما شاء الله وشئت. فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أجعلتني والله عدلا؟ بل ما شاء الله وحده».

(٣) أخرجه في المسند ٣ / ٤٣٥.

١٥٨

فصل

وأما الشرك في الإرادات والنيات ، فذلك البحر الذي لا ساحل له ، وقلّ من ينجو منه. فمن أراد بعمله غير وجه الله ، ونوى شيئا غير التقرب إليه وطلب الجزاء منه ، فقد أشرك في نيته وإرادته. والإخلاص : أن يخلص لله في أقواله وأفعاله وإرادته ونيته. وهذه هي الحنيفية ، ملة إبراهيم ، التي أمر الله بها عباده كلهم. ولا يقبل من أحد غيرها. وهي حقيقة الإسلام. (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) [آل عمران : ٨٥]. وهي ملة إبراهيم عليه‌السلام ، التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء.

فصل

وإذا عرفت هذه المقدمة انفتح لك باب الجواب عن السؤال المذكور. فنقول (ومن الله وحده نستمد الصواب) : حقيقة الشرك هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به. وهذا هو التشبيه في الحقيقة. لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه ووصف بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فعكس من نكس الله قلبه وأعمى عين بصيرته وأركسه بلبسه الأمر وجعل التوحيد تشبيها والتشبيه تعظيما وطاعة. فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية. فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع ، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده. فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق. وجعل من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، أفضل من غيره. تشبيها بمن له الأمر كله. فأزمّة الأمور كلها بيده ، ومرجعها إليه ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع. بل إذا فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد. وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد. فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات ، بالقادر الغنيّ بالذات. ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه. وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده. والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستعانة وغاية الذل مع غاية الحب ، كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة أن يكون له وحده. ويمنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره. فمن جعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا ند له. وذلك أقبح التشبيه وأبطله. ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم ، أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره. مع أنه كتب على نفسه الرحمة. ومن خصائص

١٥٩

الإلهية العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما : غاية الحب مع غاية الذل. هذا تمام العبودية. وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله ، فقد شبهه به في خالص حقه. وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع. وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل. ولكن غيرت الشيطان فطر أكثر الخلق وعقولهم ، وأفسدتها عليهم ، واجتالتهم عنها. ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله الحسنى. فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه بما يوافق فطرتهم وعقولهم. فازدادوا بذلك نورا على نور. يهدي الله لنوره من يشاء.

إذا عرف هذا ، فمن خصائص الإلهية السجود. فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به. ومنها التوكل. فمن توكل على غيره فقد شبهه به. ومنها التوبة. فمن تاب لغيره فقد شبهه به. ومنها الحلف باسمه تعظيما وإجلالا. فمن حلف بغيره فقد شبهه به. هذا في جانب التشبيه. وأما في جانب التشبه به ، فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم ، والخضوع والرجاء ، وتعليق القلب به خوفا ورجاء ، والتجاء واستعانة ، فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته وإلهيته. وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان. ويذله غاية الذل ويجعله تحت أقدام خلقه. وفي الصحيح (١) عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله عزوجل : العظمة إزاري والكبرياء ردائي. فمن نازعني واحدا منهما عذبته». وإذا كان المصور ، الذي يصنع الصورة بيده ، من أشد الناس عذابا يوم القيامة ، لتشبهه بالله في مجرد الصنعة ـ فما الظن بالتشبه بالله في الربوبية والإلهية ، كما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) : «أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون». يقال لهم : أحيوا ما خلقتم. وفي الصحيح (٣) عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «قال الله عزوجل : ومن أظلم ممن

__________________

(١) أخرجه مسلم في : البر والصلة والآداب ، ٣٨ ـ باب تحريم الكبر ، حديث ١٣٦ ونصه : عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «العز إزاره ، والكبرياء رداؤه. فمن ينازعني عذبته».

(٢) أخرجه البخاريّ في : الأدب ، ٧٥ ـ باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله ، حديث ١٢٢٣ ونصه : عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل عليّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي البيت قرام فيه صور. فتلوّن وجهه ، ثم تناول الستر فهتكه. وقالت : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أشد الناس عذابا يوم القيامة ، الذين يصورون هذه الصور».

(٣) أخرجه البخاريّ في : اللباس ، ٩٠ ـ باب نقض الصور ، حديث ٢٣٠٨ ونصه : عن أبي زرعة قال : دخلت مع أبي هريرة دارا بالمدينة. فرأى أعلاها مصوّرا يصور. قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي. فليخلقوا حبة وليخلقوا ذرة».

١٦٠