تفسير القاسمي - ج ٢

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٢

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٢

لله در النائبات فإنها

صدأ اللئام وصيقل الأحرار

إذ لا يظهر على كل منهم إلا ما في مكمن استعداده.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي الضمائر الملازمة لها ، وعد ووعيد. ثم أخبر تعالى عن تولي من تولى من المؤمنين الصادقين في ذلك اليوم ، وأنه بسبب كسبهم بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (١٥٥)

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ) أي عن القتال ومقارعة الأبطال (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) أي جمع المسلمين وجمع المشركين (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ) أي حمله على الزلل بمكر منه. مع وعد الله بالنصر (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) أي بشؤم بعض ما اكتسبوه بهم من الذنوب ، كترك المركز ، والميل إلى الغنيمة ، مع النهي عنه ، فمنعوا التأييد وقوة القلب. قال ابن القيّم : كانت أعمالهم جندا عليهم ازداد بها عدوهم قوة. فإن الأعمال جند للعبد ، وجند عليه ولا بد للعبد في كل وقت من سرية من نفسه تهزمه أو تنصره. فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتل بها ، ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه. فأعمال العبد تسوقه قسرا إلى مقتضاه من الخير والشر. والعبد لا يشعر ، أو يشعر ويتعامى. ففرار الإنسان من عدوه ، وهو يطيقه ، إنما هو بجند من عمله ، بعثه له الشيطان واستزله به. ثم أخبر سبحانه أنه عفا عنهم بقوله : (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) أي بالاعتذار والندم لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق ، ولا شك أنه كان عارضا عفا الله عنه ، فعادت شجاعة الإيمان وثباته إلى مركزها ونصابها (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أي يغفر الذنب ويحلم عن خلقه ، ويتجاوز عنهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١٥٦)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) وهم المنافقون القائلون : (لَوْ

٤٤١

كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا). (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) أي سافروا فيها للتجارة فأصيبوا بغرق أو قتل (أَوْ كانُوا) أي إخوانهم (غُزًّى) جمع غاز فأصيبوا باصطدام أو قتل (لَوْ كانُوا عِنْدَنا) أي مقيمين (ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) قال أبو السعود : ليس المقصود بالنهي عدم مماثلتهم في النطق بهذا القول ، بل في الاعتقاد بمضمونه والحكم بموجبه.

أقول : بل الآية تفيد الأمرين. أعني حفظ الاعتقاد المقصود أولا وبالذات ، وحفظ المنطق مما يوقع في إضلال الناس ، ويخل بالمقام الإلهي ، كما بينته السنة ، وسنذكره في التنبيه الآتي.

وقوله (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ) أي القول (حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) متعلق ب (قالوا) على أن اللام لام العاقبة ، مثلها في (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] أي قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرة في قلوبهم. والمراد بالتعليل المذكور بيان عدم ترتب فائدة ما ، على ذلك أصلا (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) رد لقولهم الباطل ، إثر بيان غائلته. أي هو المؤثر في الحياة والممات وحده ، من غير أن يكون للإقامة أو للسفر مدخل في ذلك ، فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي مع اقتحامهما لموارد الحتوف ، ويميت المقيم مع حيازته لأسباب السلامة. وعن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه قال عند موته : ما فيّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة ، وها أنا ذا أموت كما يموت العير. فلا نامت أعين الجبناء! (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تهديد للمؤمنين في مماثلة من ذكر.

قال بعض المفسرين : ثمرة الآية أنه لا يجوز التشبه بالكفار. قال الحاكم : وقد يكون منه ما يكون كفرا. وفيها أيضا دلالة على أنه لا يسقط وجوب الجهاد بخشية القتل.

تنبيه :

أشعرت الآية بوجوب حفظ المنطق مما يشاكل ألفاظ المشركين من الكلمات المنافية للعقيدة الإسلامية كما ذكرنا. وقد عقد الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) فصلا في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حفظ النطق واختيار الألفاظ قال :

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتخير في خطابه ، ويختار لأمته أحسن ألفاظ وأجملها وألطفها ، وأبعدها من ألفاظ أهل الجفاء والغلظة والفحش. إلى أن قال : ومن ذلك نهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١)

__________________

(١) أخرجه مسلم في : القدر ، حديث ٣٤ ونصه : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المؤمن القويّ خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وفي كلّ خير. احرص على ما ينفعك واستعن ـ

٤٤٢

عن قول القائل بعد فوات الأمر : لو أني فعلت كذا وكذا. وقال : إنها تفتح عمل الشيطان. وأرشده إلى ما هو أنفع له من هذه الكلمة ، وهو أن يقول : قدر الله ، وما شاء فعل. وذلك لأن قوله : لو كنت فعلت كذا وكذا لم يفتني ما فاتني أو لم أقع فيما وقعت فيه ، كلام لا يجدي عليه فائدة البتة. فإنه غير مستقبل لما استدبر من أمره ، وغير مستقيل عثرته بـ (لو). وفي ضمن (لو) ادعاء أن الأمر لو كان كما قدره في نفسه ، لكان غير ما قضاه الله وقدره وشاءه ، فإنّ ما وقع مما يتمنى خلافه ، إنما وقع بقضاء الله وقدره ومشيئته. فإذا قال : لو أني فعلت كذا لكان خلاف ما وقع ، فهو محال ، إذ خلاف المقدّر المقضيّ محال. فقد تضمن كلامه كذبا وجهلا ومحالا. وإن سلم من التكذيب بالقدر لم يسلم من معارضته بقوله : لو أني فعلت لدفعت ما قدر عليّ. فإن قيل : ليس في هذا رد للقدر ولا جحد له ، إذ تلك الأسباب التي تمناها أيضا من القدر ، فهو يقول : لو وفقت لهذا القدر لاندفع به عني ذلك القدر ، فإن القدر يدفع بعضه ببعض ، كما يدفع قدر المرض بالدواء ، وقدر الذنوب بالتوبة ، وقدر العدو بالجهاد ، فكلاهما من القدر. قيل : هذا حق ، ولكن هذا ينفع قبل وقوع القدر المكروه. وأما إذا وقع فلا سبيل إلى دفعه ، وإن كان له سبيل إلى دفعه أو تخفيفه بقدر آخر فهو أولى به من قوله : لو كنت فعلته ، بل وظيفته في هذه الحالة أن يستقبل فعله الذي يدفع به أو يخفف ، ولا يتمنى ما لا مطمع في وقوعه ، فإنه عجز محض ، والله يلوم على العجز ، ويحب الكيس ويأمر به. والكيس هو مباشرة الأسباب التي ربط الله بها مسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده ، فهذه تفتح عمل الخير والأمر ، وأما العجز فإنه يفتح عمل الشيطان. فإنه إذا عجز عما ينفعه وصار إلى الأمانيّ الباطلة بقوله : لو كان كذا وكذا ، ولو فعلت كذا ، يفتح عمل الشيطان ، فإن بابه العجز والكسل. ولهذا استعاذ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهما. وهو مفتاح كل شر ، ويصدر عنهما الهم والحزن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال. فمصدرها كلها عن العجز والكسل ، وعنوانها (لو) ، فلذلك قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإن (لو) تفتح عمل الشيطان ، فالمتمني من أعجز الناس وأفلسهم ، فإن المنى رأس أموال المفاليس ، والعجز مفتاح كل شر ، وأصل المعاصي كلها العجز ، فإن العبد يعجز عن أسباب أعمال الطاعات ، وعن الأسباب التي تعرضه عن المعاصي ، ويحول بينها وبينه ، فيقع في المعاصي.

__________________

ـ بالله. ولا تعجز. وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل : قدّر الله وما شاء فعل. فإن (لو) تفتح عمل الشيطان».

٤٤٣

فجمع في هذا الحديث الشريف ، في استعاذته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصول الشر وفروعه ومباديه وغاياته وموارده ومصادره. وهو مشتمل على ثمان خصال ، كل خصلتين منها قرينتان فقال : أعوذ بك من الهم والحزن ، وهما قرينان. فإن المكروه الوارد على القلب ينقسم باعتبار سببه إلى قسمين : فإنه إما أن يكون سببه أمرا ماضيا ، فهو يحدث الحزن ، وإما أن يكون توقع أمر مستقبل ، فهو يحدث الهم ، وكلاهما من العجز. فإن ما مضى لا يدفع بالحزن ، بل بالرضاء والحمد والصبر والإيمان بالقدر ، وقول العبد : قدر الله وما شاء فعل. وما يستقبل لا يدفع أيضا بالهم. بل إما أن يكون له حيلة في دفعه فلا يعجز عنه ، وإما أن لا تكون له حيلة في دفعه ، فلا يجزع منه ، ويلبس له لباسه ، ويأخذ له عدته ، ويتأهب له أهبته اللائقة ، ويستجن بجنة حصينة من التوحيد والتوكل والانطراح بين يدي الرب تعالى ، والاستسلام له ، والرضا به ربّا في كل شيء ، ولا يرضى به ربّا فيما يحبّ دون ما يكره. فإذا كان هكذا لم يرض به ربّا على الإطلاق ، فلا يرضاه الرب له عبدا على الإطلاق .. فالهم والحزن لا ينفعان العبد البتة ، بلا مضرتهما أكثر من منفعتهما ، فإنهما يضعفان العزم ، ويوهنان القلب ، ويحولان بين العبد وبين الاجتهاد فيما ينفعه ، ويقطعان عليه طريق السير ، أو ينكسانه إلى وراء أو يعوقانه ويقفانه أو يحجبانه عن العلم الذي كلما رآه شمر إليه ، وجدّ في سيره ، فهما حمل ثقيل على ظهر السائر ، بل إن عاقة الهم والحزن عن شهواته وإرادته التي تضره في معاشه ومعاده ، انتفع به من هذا الوجه ، وهذا من حكمة العزيز الحكيم ، أن سلط هذين الجندين على القلوب المعرضة عنه ، الفارغة من محبته وخوفه ورجائه والإنابة إليه ، والتوكل عليه ، والأنس به ، والفرار إليه ، والانقطاع إليه ، ليردها بما يبتليها به من الهموم والغموم والأحزان ، والآلام القلبية ، عن كثير من معاصيها وشهواتها المردية. وهذه القلوب في سجن من الجحيم في هذه الدار. وإن أريد بها الخير ، كان حظها من سجن الجحيم في معادها ، ولا تزال في هذا السجن ، حتى تتخلص إلى فضاء التوحيد والإقبال على الله ، والأنس به ، وجعل محبته في محل دبيب خواطر القلب ووساوسه ، بحيث يكون ذكره تعالى وحبه وخوفه ورجاؤه والفرح به والابتهاج بذكره ، هو المستولي على القلب الغالب عليه ، الذي متى فقده ، فقد قوته ، الذي لا قوام له إلا به ، ولا بقاء له بدونه ، ولا سبيل إلى خلاص القلب من هذه الآلام التي هي أعظم أمراضه ، وأفسدها له ، إلا بذلك ، ولا بلاغ إلا بالله وحده ، فإنه لا يوصل إليه إلا هو ، ولا يأتي بالحسنات إلّا هو ، ولا يصرف السيئات إلا هو ، ولا يدل عليه إلا هو ، وإذا أراد عبده لأمر هيأه له ، فمنه الإيجاد ومنه

٤٤٤

الإعداد ومنه الإمداد. وإذا أقامه في مقام ، أيّ مقام كان ، فبحمده أقامه فيه ، وحكمته أقامته فيه ، ولا يليق به غيره ، ولا يصلح له سواه ، ولا مانع لما أعطى الله ، ولا معطي لما منع ، ولا يمنع عبده حقّا هو للعبد ، فيكون بمنعه ظالما ، بل منعه ليتوسل إليه بمحابه ليعطيه ، وليتضرع إليه ويتذلل بين يديه ويتملقه ويعطي فقره إليه حقه. بحيث يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة فاقة تامة إليه ، على تعاقب الأنفاس. وهذا هو الواقع في نفس الأمر وإن لم يشهده. فلم يمنع عبده ما العبد محتاج إليه ، بخلا منه ولا نقصان من خزائنه ولا استئثارا عليه بما هو حق للعبد. بل منعه ليردّه إليه وليعزه بالتذلل له ، وليغنيه بالافتقار إليه ، وليجبره بالانكسار بين يديه ، وليذيقه بمرارة المنع ، حلاوة الخضوع ولذة الفقر. وليلبسه خلعة العبودية ، ويوليه بعزله أشرف الولايات ، وليشهده حكمته في قدرته ، ورحمته في عزته ، وبره ولطفه في قهره. وأنّ منعه عطاء وعزله تولية وعقوبته تأديب وامتحانه محبة وعطية وتسليط أعدائه عليه سائق يسوقه إليه. وبالجملة فلا يليق بالعبد غير ما أقيم فيه. وحكمته وحمده أقاماه في مقامه الذي لا يليق به سواه ولا يحسن أن يتخطاه ، انتهى.

ثم أشار تعالى إلى أن الموت في سبيل الله ليس مما يوجب الحسرة حتى يحذر منه. بل هو مما يوجب الفرح والسرور ، فقال :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (١٥٧)

(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ) أي فيه من غير قتال (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ) أي لذنوبكم تنالكم (وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي الكفرة من منافع الدنيا وطيباتها الفانية.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) (١٥٨)

(وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ) على أي وجه كان حسب القضاء السابق (لَإِلَى اللهِ) أي الذي هو متوفيكم لا غيره (تُحْشَرُونَ) فيجزيكم بأعمالكم.

لطائف :

الأولى : أطال نحاة المفسرين في قوله تعالى (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا)

٤٤٥

إلخ. من الوجوه النحوية في (إذا) هنا ، وإنه ربما يتبادر أن الموقع ل (إذ) لا لها حيث إن متعلقها وهو (قالوا) ماض. و (إذا) ظرف لما يستقبل. فمن قائل بأن (إذا) لحكاية الحال الماضية ، ومن قائل بأنها للاستمرار. وقيل : إن (كفروا) و (قالوا) مراد بهما المستقبل. وفي كلّ مناقشات وتعسفات. والحق أنها تكون للمضيّ أيضا. قال المجد الفيروز آباديّ : وتجيء (إذا) للماضي كقوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها). فلا إشكال.

ونقل الرازيّ عن قطرب : أن كلمة (إذ) و (إذا) يجوز إقامة كل واحدة منهما مقام الأخرى. قال الرازيّ : وهذا الذي قاله قطرب كلام حسن ، وذلك لأنا إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول منقول عن قائل مجهول ، فلأن يجوز إثباتها بالقرآن العظيم أولى. ثم قال : وكثيرا أرى النحويين يتحيرون في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن ، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهول فرحوا به. وأنا شديد التعجب منهم. فإنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلا على صحته ، فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلا على صحته كان أولى ، انتهى.

الثانية : الجمهور على ضم الميم في قوله تعالى : (أَوْ مُتُّمْ) وهو الأصل لأن الفعل منه يموت. ويقرأ بالكسر وهو لغة طائية. يقال مات يمات مثل خاف يخاف فكما تقول خفت تقول مت.

الثالثة : قدم القتل على الموت في الأولى لأنه أكثر ثوابا وأعظم عند الله. فترتيب المغفرة والرحمة عليه أقوى. وقدم الموت في الثانية لأنه أكثر. وهما مستويان في الحشر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (١٥٩)

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) أي للذين تولوا عنك حين عادوا إليك بعد الانهزام ، وللمؤمنين عموما كما قال تعالى : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨]. و (ما) مزيدة للتوكيد أو نكرة. و (رحمة) بدل منها مبيّن لإبهامها. والنون للتفخيم ، أي ما لنت هذا اللين الخارق للعادة ، مع ما سبّب فعلهم من

٤٤٦

الغضب الموجب للعنف والسطوة لا سيما مع اعتراض من اعترض على ما أشار به ، إلا بسبب رحمة عظيمة (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) أي سيّئ الخلق خشن الكلام (غَلِيظَ الْقَلْبِ) أي قاسيه وشديدة. تعاملهم بالعنف والجفا (لَانْفَضُّوا) أي تفرقوا (مِنْ حَوْلِكَ) فلم يسكنوا إليك فلا تتم دعوتك. ولكن الله جعلك سهلا سمحا طلقا لينا لطيفا بارّا رؤوفا رحيما. (فَاعْفُ عَنْهُمْ) أي فيما فرطوا في حقك كما عفا الله عنهم (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) إتماما للشفقة عليهم (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) أي أمر الحرب وغيره توددا إليهم وتطيبا لنفوسهم واستظهارا بآرائهم وتمهيدا لسنة المشاورة في الأمة. وقد ساق العلامة الرازيّ وجوها أخرى في فائدة أمره تعالى له عليه الصلاة والسلام بمشاورتهم. منها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن كان أكمل الناس عقلا ، إلا أن علوم الخلق متناهية. فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر بباله. لا سيما فيما يفعل من أمور الدنيا. ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (١) : أنتم أعرف بأمور دنياكم. ومنها : أن الأمر بمشاورتهم لا لأجل أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم محتاج إليهم ، ولكن لأجل أنه إذا شاورهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها ، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله. وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات ، وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد. انتهى.

وقد ثبت مشاورته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه في عدة أمور : منها أنه شاورهم في يوم بدر (٢) في الذهاب إلى العير. فقالوا : يا رسول الله لو استعرضت بنا عرض البحر

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في : الرهون ، ١٥ ـ باب تلقيح النخل ، حديث ٢٤٧٠ ونصه : عن طلحة بن عبيد الله قال : مررت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نخل. فرأى قوما يلقحون النخل. فقال «ما يصنع هؤلاء؟» قالوا : يأخذون من الذكر فيجعلونه في الأنثى. قال «ما أظن ذلك يغني شيئا» فبلغهم فتركوه. فنزلوا عنها. فبلغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «إنما هو الظن إن كان يغني شيئا فاصنعوه. فإنما أنا بشر. وإن الظن يخطئ ويصيب. ولكن ما قلت لكم : قال الله ـ فلن أكذب على الله». وحديث ٢٤٧١ ونصه : عن عائشة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع أصواتا ، فقال «ما هذا الصوت؟» قالوا : النخل يؤبرونها. فقال «لو لم يفعلوا لصلح» فلم يؤبّروا عامئذ ، فصار شيصا. فذكروا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «إن كان شيئا من أمر دنياكم فشأنكم به. وإن كان من أمور دينكم ، فإليّ».

(٢) أخرجه مسلم في : الجهاد ، حديث ٨٣ ونصه : عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاور ، حين بلغه إقبال أبي سفيان. قال فتكلم أبو بكر فأعرض عنه. ثم تكلم عمر فأعرض عنه. فقام سعد بن عبادة فقال : إيانا تريد يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده! لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها. ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا. فندب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس فانطلقوا حتى نزلوا بدرا ووردت عليهم روايا قريش ... إلخ.

٤٤٧

لقطعناه معك ، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى (١) : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ). ولكن نقول : اذهب فنحن معك وبين يديك ، وعن يمينك وشمالك مقاتلون. وشاورهم أيضا أين يكون المنزل حتى أشار المنذر بن عمرو بالتقدم أمام القوم ، وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو. فأشار جمهورهم بالخروج إليهم فخرج إليهم. وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ. فأبى ذلك عليه السعدان : سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فترك ذلك. وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراريّ المشركين فقال له الصديق : إنا لم نجئ لقتال أحد ، وإنما جئنا معتمرين فأجابه إلى ما قاله.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قصة الإفك (٢) : أشيروا عليّ ، معشر المسلمين ، في قوم أبنوا أهلي ورموهم. وأيم الله ما علمت على أهلي من سوء. وأبنوهم بمن ، والله ، ما علمت عليه إلا خيرا. واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها. فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها. أفاده الحافظ ابن كثير رحمه‌الله تعالى.

قال الخفاجيّ : في الآية إرشاد إلى الاجتهاد وجوازه بحضرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الرازيّ : دلت على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مأمورا بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه الوحي. والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة ، فلهذا كان مأمورا بالمشاورة ، انتهى.

وقال بعض المفسرين : ثمرة الآية وجوب التمسك بمكارم الأخلاق وخصوصا لمن يدعو إلى الله تعالى ويأمر بالمعروف. (فَإِذا عَزَمْتَ) أي بعد المشاورة على أمر واطمأنت به نفسك (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في الإعانة على إمضاء ما عزمت ، لا على المشورة وأصحابها. قال الرازيّ : دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه ، كما يقول بعض الجهال. وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل ، بل

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : المغاري ، ٤ ـ باب قول الله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ ..) الآية ونصه : عن ابن مسعود قال : شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا ، لأن أكون صاحبه أحبّ إليّ مما عدل به. أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يدعو على المشركين. فقال : لا نقول كما قال قوم موسى. اذهب أنت وربك فقاتلا. ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك. فرأيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشرق وجهه وسرّه. يعني قوله.

(٢) أخرجه البخاريّ في : المغازي ، ٣٤ ـ باب حديث الإفك. وهو حديث جليل القدر. وفيه نزلت براءة سيدتنا أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها من السماء.

٤٤٨

التوكل هو أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة ، ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول على عصمة الحق (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٦٠)

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ) كما نصركم يوم بدر (فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) كما فعل يوم أحد (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) استفهام إنكاريّ مفيد لانتفاء الناصر ذاتا وصفة وبطريق المبالغة. وهذا تنبيه على أن الأمر كله لله ، وترغيب في الطاعة ، وفيما يستحقون به النصر من الله تعالى والتأييد. وتحذير من المعصية ، ومما يستوجبون به العقوبة بالخذلان. كذا في الكشاف. (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه ، لعلمهم أنه لا ناصر سواه ، ولأن إيمانهم يوجب ذلك ويقتضيه ـ كذا في الكشاف ـ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٦١)

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) قرئ بالبناء للمعلوم ، أي ما صح وما تأتّى لنبيّ من الأنبياء أن يخون في المغنم ، بعد مقام النبوة وعصمة الأنبياء عن جميع الرذائل ، وعن تأثير دواعي النفس والشيطان فيهم ؛ وبالبناء للمجهول ، أي ما صح أن ينسب إلى الغلول ويخوّن.

روى أبو داود والترمذيّ (١) عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) ، في قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر ، فقال بعض الناس : لعل رسول الله أخذها ، فأنزل الله (وَما كانَ لِنَبِيٍّ ...) الآية. قال الترمذيّ : حسن غريب. ورواه ابن مردويه عن ابن عباس أيضا ، ولفظه : اتهم المنافقون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيء فقد ، فأنزل الله تعالى (وَما كانَ لِنَبِيٍّ ...) الآية ـ وهذا تنزيه لمقامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرفيع وتنبيه على

__________________

(١) أخرجه الترمذيّ في : التفسير ، ٣ ـ سورة آل عمران ، ١٧ ـ حدثنا قتيبة.

٤٤٩

عصمته. ثم أشار إلى وعيد الغلول بقوله (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي بعينه ، حاملا له على ظهره ، ليفتضح في المحشر ، كما روى الشيخان (١) عن أبي هريرة قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم ، فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ، ثم قال : لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ـ لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ـ لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول : يا رسول الله أغثني فأفول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ـ لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ـ لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقاع تخفق فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئا قد بلغت ـ لفظ مسلم. وروى البخاريّ (٢) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : كان على ثقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل يقال له (كركرة) فمات ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هو في النار ، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلّها ـ وعن زيد بن خالد الجهنيّ أن رجلا من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفي يوم خيبر ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : صلوا على صاحبكم ، فتغيرت وجوه الناس لذلك ، فقال : إن صاحبكم غلّ في سبيل الله ، ففتشنا متاعه ، فوجدنا خرزا من خرز يهود لا يساوي درهمين ـ أخرجه أبو داود (٣) والنسائيّ ـ وروى عبد الله ابن الإمام أحمد (٤) عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأخذ الوبرة من جنب البعير من المغنم فيقول : ما لي فيه إلا مثل ما لأحدكم منه. إياكم والغلول ، فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة ، أدوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك. وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد في الحضر والسفر. فإن الجهاد باب من أبواب الجنة. إنه لينجي الله تبارك وتعالى به من الهم والغم ، وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد ، ولا تأخذكم في الله لومة لائم. وروى ابن

__________________

(١) أخرجه مسلم في : الإمارة ، حديث ٢٤.

(٢) أخرجه البخاريّ في : الجهاد ، ١٩ ـ باب القليل من الغلول.

(٣) أخرجه أبو داود في : الجهاد ، ١٣٣ ـ باب في تعظيم الغلول ، حديث ٢٧١٠.

(٤) أخرجه في المسند ٥ / ٣٣٠.

٤٥٠

ماجة بعضه. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم خيبر ، أقبل نفر من صحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : فلان شهيد. فلان شهيد. حتى أتوا على رجل فقالوا : فلان شهيد. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كلا إني رأيته في النهار في بردة غلها أو عباءة. ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا ابن الخطاب! اذهب فناد في الناس إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون قال فخرجت فناديت : ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون. وكذا رواه مسلم (١) والترمذيّ. وروى أبو داود (٢) عن سمرة بن جندب قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا غنم غنيمة أمر بلالا فينادي في الناس فيجوزوا بغنائمهم فيخمسه ويقسمه ، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال : يا رسول الله هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة. فقال : أسمعت بلالا ينادي ثلاثا؟ قال : نعم. قال : فما منعك أن تجيء؟ فاعتذر. فقال : كن أنت تجيء به يوم القيامة. فلن أقبله منك.

تنبيه :

من المفسرين من جعل الإتيان بالغلول يوم القيامة مجازا عن الإتيان بإثمه تعبيرا بما غلّ عما لزمه من الإثم مجازا. قال أبو مسلم : المراد أن الله تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه لأنه لا يخفى عليه خافية. وقال أبو القاسم الكعبي : المراد أنه يشتهر بذلك ، مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء. وناقشهما الرازيّ بأن هذا التأويل يحتمل ، إلا أن الأصل المعتبر في علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة ، إلا إذا قام دليل يمنعه منه ، وهاهنا لا مانع من الظاهر ، فوجب إثباته ـ انتهى. ومما يؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «له رغاء ، له حمحمة ...» إلخ الظاهر في الحقيقة زيادة في النكال.

(ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) تعطى جزاء ما كسبت وافيا ، وإنما عمم الحكم ولم يقل : ثم يوفى ما كسب ، ليكون كالبرهان على المقصود ، والمبالغة فيه ، فإنه إذا كان كل كاسب مجزيا بعمله ، فالغالّ ، مع عظم جرمه بذلك أولى (وَهُمْ) أي الناس المدلول عليهم بكل نفس (لا يُظْلَمُونَ) فلا ينقص ثواب مطيعهم ، ولا يزاد في عقاب عاصيهم.

__________________

(١) أخرجه مسلم في : الإيمان ، حديث ١٨٢.

(٢) أخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو في : الجهاد ، ١٣٤ ـ باب في الغلول إذا كان يسيرا يتركه الإمام ولا يحرق رحله ، حديث ٢٧١٢ ، بهذا النص.

وأخرجه في المسند أيضا عن عبد الله بن عمرو ، حديث ٦٩٩٦.

٤٥١

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٦٢)

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) بالطاعة (كَمَنْ باءَ) رجع (بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) بسبب المعاصي كالغالّ ومن شاكله (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (١٦٣)

(هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) أي طبقات متفاوتة ، تشبيه بليغ ، ووجه ما بينهم من تباين الأحوال في الثواب والعقاب ، كالدرجات في تفاوتها علوّا وسفلا.

قال القاشانيّ : أي كل من أهل الرضا وأهل السخط ذوو درجات متفاوتات ، أو هم مختلفون اختلاف الدرجات.

(وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي بأعمالهم ، فيجازيهم على حسبها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١٦٤)

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ) أي أنعم (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي من جنسهم ، عربيّا مثلهم ، ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته ، والانتفاع به. ولما لم ينتفع بهذا الإنعام إلا أهل الإسلام خصوا بالذكر ، وإلا فبعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إحسان إلى العالمين ، كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧]. (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) يعني القرآن بعد ما كانوا أهل جاهلية ، لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهرهم من الذنوب والشرك بدعوته (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) أي القرآن (وَالْحِكْمَةَ) أي السنة (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتزكيته (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي ظاهر من عبادة الأوثان ، وأكل الخبائث ، وعدوان بعضهم على بعض ، وسواها ، فنقلوا ببعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الظلمات إلى النور ، وصاروا أفضل الأمم في العلم والزهد والعبادة ، فعظمت المنة لله تعالى عليهم بذلك. قال الرازي :

٤٥٢

وفي قوله تعالى (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وجه آخر من المنة ، وذلك أنه صار شرفا للعرب ، وفخرا لهم ، كما قال سبحانه : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) [الزخرف : ٤٤]. وذلك لأن الافتخار بإبراهيم عليه‌السلام كان مشتركا فيه بين اليهود والنصارى والعرب ، ثم إن الأولين كانوا يفتخرون بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل. فما كان للعرب ما يقابل ذلك. فلما بعث الله محمدا ، وأنزل عليه القرآن ، صار شرف العرب ذلك زائدا على شرف جميع الأمم.

ثم كرر عليهم سبحانه أن هذا القول أصابهم إنما أتوا فيه من قبل أنفسهم وبسبب أعمالهم فقال :

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٦٥)

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا) الهمزة للتقريع والتقرير ، والواو عاطفة للجملة على ما سبق من قصة أحد ، أو على محذوف مثل : أفعلتم كذا وقلتم. و (لما) ظرفه المضاف إلى أصابتكم ، أي حين أصابتكم مصيبة ، وهي قتل سبعين منكم يوم أحد ، والحال أنكم نلتم ضعفيها يوم بدر من قتل سبعين منهم وأسر سبعين : من أين هذا أصابنا وقد وعدنا الله النصر (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي مما اقترفته أنفسكم من مخالفة الأمر بترك المركز ، فإن الوعد كان مشروطا بالثبات والمطاوعة. قال ابن القيم : وذكر سبحانه هذا بعينه فيما هو أعم من ذلك في السورة المكية فقال : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى : ٣٠]. وقال : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء : ٧٩] فالحسنة والسيئة هاهنا النعمة والمصيبة ، فالنعمة من الله منّ بها عليك ، والمصيبة إنما نشأت من قبل نفسك وعملك ، فالأول فضله ، والثاني عدله ، والعبد يتقلب بين فضله وعدله ، جار عليه فضله ، ماض فيه حكمه ، عدل فيه قضاؤه. وختم الآية الأولى بقوله (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) بعد قوله : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ). إعلاما لهم بعموم قدرته مع عدله ، وأنه عادل قادر ، وفي ذلك إثبات القدر والسبب. فذكر السبب وأضافه إلى نفوسهم ، وذكر عموم القدرة وأضافها إلى نفسه ، فالأول ينفي الجبر ، والثاني ينفي القول بإبطال القدر ، فهو شاكل قوله : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [التكوير : ٢٨ ـ ٢٩]. وفي

٤٥٣

ذكر قدرته هاهنا نكتة لطيفة ، وهي أن هذا الأمر بيده وتحت قدرته ، وأنه هو الذي لو شاء لصرفه عنكم ، فلا تطلبوا كشف أمثاله من غيره ، ولا تتكلوا على سواه. كشف هذا المعنى وأوضحه كل الإيضاح بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٦٦)

(وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد (فَبِإِذْنِ اللهِ) أي فهو كائن بقضائه وتخليته الكفار ، فالإذن هنا هو الإذن الكونيّ القدريّ ، لا الشرعيّ الدينيّ ، كقوله في السحر : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة : ١٠٢]. ثم أخبر عن حكمة هذا التقدير بقوله : (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) (١٦٧)

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) أي ليعلم المؤمنين من المنافقين علم عيان ورؤية يتميز فيه أحد الفريقين من الآخر تميزا ظاهرا (وَقِيلَ لَهُمْ) عطف على (نافقوا) داخل معه في حيز الصلة. أو كلام مبتدأ (تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) يعني إن لم تقاتلوا لوجه الله تعالى فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وأموالكم (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) أي لكنه ليس إلا إلقاء النفس في التهلكة (هُمْ) أي بهذا القول (لِلْكُفْرِ) في الظاهر (يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) في الظاهر مع أنه لا إيمان لهم في الباطن أصلا.

فائدتان :

الأولى ـ قال ابن كثير : استدلوا به على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال ، فيكون في حال أقرب إلى الكفر ، وفي حال أقرب إلى الإيمان.

الثانية ـ قال الواحديّ : هذه الآية دليل على أن من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر ، ولم يطلق القول بتكفيره. لأنه تعالى لم يطلق القول بكفرهم ، مع أنهم كانوا

٤٥٤

كافرين ، لإظهارهم القول بلا إله إلا الله محمد رسول الله ـ انتهى.

(يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) أي يظهرون خلاف ما يضمرون ، لا تواطئ قلوبهم ألسنتهم بالإيمان ، وقوله (بِأَفْواهِهِمْ) تأكيد على حدّ : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨]. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٦٨)

(الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ) أي من أجل أقاربهم من قتلى أحد (وَقَعَدُوا) أي والحال قد قعدوا عنهم خذلانا لهم (لَوْ أَطاعُونا) أي في الرجوع (ما قُتِلُوا) كما لم نقتل (قُلْ) كأنكم تزعمون ادعاء القدرة على دفع الموت (فَادْرَؤُا) أي ادفعوا (عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) أي فإنها أقرب إليكم من أنفسهم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن الموت يغني منه حذر ، والمعنى أن عدم قتلكم كان بسبب أنه لم يكن مكتوبا عليكم ، لا بسبب أنكم دفعتموه بالقعود ، مع كتابته عليكم ، فإن ذلك مما لا سبيل إليه.

قال ابن القيّم : وكان من الحكمة تقديره تعالى في هذه الواقعة تكلم المنافقين بما في نفوسهم ، فسمعه المؤمنون ، وسمعوا رد الله عليهم ، وجوابه لهم ، وعرفوا موادّ النفاق ، وما يؤول إليه ، وكيف يحرم صاحبه سعادة الدنيا والآخرة ، فيعود عليه بفساد الدنيا والآخرة. فلله كم من حكمة في ضمن هذه القصة بالغة ، ونعمة على المؤمنين سابغة ، وكم فيها من تحذير وتخويف ، وإرشاد وتنبيه ، وتعريف بأسباب الخير والشر ومآلهما وعاقبتهما.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١٦٩)

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) كلام مستأنف مسوق لبيان أن القتل الذي يحذرونه ويحذّرون الناس منه ، ليس مما يحذر ، بل هو من أجلّ المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون ، إثر بيان أن الحذر لا يجدي ولا يغني ، أي لا تحسبنهم أمواتا تعطلت أرواحهم (بَلْ) هم (أَحْياءٌ) فوق الدنيا لأنهم مقربون (عِنْدَ رَبِّهِمْ) إذ بذلوا له أرواحهم ، لا بمعنى بقاء أرواحهم ورجوعها إليه ، لمشاركة

٤٥٥

أرواح غيرهم في ذلك ، بل بمعنى أنهم (يُرْزَقُونَ) رزق الأحياء ، لا رزقا معنويّا ، بل حقيقيا. كما روى ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (١) : لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش. فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم ، حسن منقلبهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عن الحرب. فقال الله عزوجل : أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل الله هؤلاء الآيات : (وَلا تَحْسَبَنَّ ...) إلخ. هكذا رواه الإمام أحمد ؛ ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه. وأخرج مسلم (٢) عن مسروق قال : سألنا عبد الله عن هذه الآية (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا ...) إلخ. فقال : أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال : أرواحهم في جوف طير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوى إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم اطّلاعة فقال : هل تشتهون شيئا؟ قالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟! ففعل ذلك بهم ثلاث مرات ، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا : يا رب! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى. فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا.

وروى الإمام أحمد (٣) عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الشهداء على بارق ـ نهر بباب الجنة ـ فيه قبة خضراء ، يخرج إليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية ـ تفرد به أحمد ـ ورواه ابن جريح بإسناد جيد.

قال ابن كثير : وكأنّ الشهداء أقسام : منهم من تسرح أرواحهم في الجنة ، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة. وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر ، فيجتمعون هنالك ، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح ـ والله أعلم ـ ثم قال : وقد روينا في مسند الإمام أحمد (٤) حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا فيها ، وتأكل من ثمارها ، وترى ما فيها من النضرة والسرور ، وتشاهد ما أعدّ الله لها من الكرامة ، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم ، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة ، فإن الإمام أحمد

__________________

(١) أخرجه في المسند ١ / ٢٦٦.

(٢) أخرجه مسلم في : الإمارة ، حديث ١٢١.

(٣) أخرجه في المسند ١ / ٢٦٦.

(٤) أخرجه في المسند ٣ / ٤٥٥.

٤٥٦

رحمه‌الله رواه عن محمد بن إدريس الشافعيّ رحمه‌الله عن مالك بن أنس الأصبحيّ رحمه‌الله عن الزهريّ عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجرة الجنة حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثه. قوله : يعلق أي يأكل. وفي هذا الحديث أن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة ، وأما أرواح الشهداء ، فكما تقدم ، في حواصل طير خضر ، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين ، فإنها تطير بأنفسها ، فنسأل الله الكريم المنان ، أن يميتنا على الإيمان ـ انتهى ـ.

تنبيه :

قال الواحديّ : الأصح في حياة الشهداء ، ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن أرواحهم في أجواف طير خضر ، وأنهم يرزقون ويأكلون ويتنعمون.

وقال البيضاويّ : الآية تدل على أن الإنسان غير الهيكل المحسوس ، بل هو جوهر مدرك بذاته ، لا يفنى بخراب البدن ، ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه ، ويؤيد ذلك قوله سبحانه وتعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها ...) [غافر : ٤٦] الآية ـ. وحديث : أرواح الشهداء في أجواف طير .. إلخ.

قال الشهاب : يعني ليس الإنسان مجرد البدن بدون النفس المجردة ، بل هو في الحقيقة النفس المجردة ، وإطلاقه على البدن لشدة التعلق بها ، وهو جوهر مدرك لذاته ، أي من غير احتياج إلى هذا البدن ، لوصفه بعد مفارقته بالتنعم ونحوه ـ انتهى.

وقال أبو السعود : في الآية دلالة على أن روح الإنسان جسم لطيف ، لا يفنى بخراب البدن ، ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه. ومن قال بتجريد النفوس البشرية يقول : المراد أن نفوس الشهداء تتمثل طيورا خضرا أو تتعلق بها فتلتذ بما ذكر ـ انتهى.

وقد أسلفنا في سورة البقرة ، في مثل هذه الآية ، زيادة على ذلك. فتذكر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١٧٠)

(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) يعني بما أعطاهم من الثواب والكرامة

٤٥٧

والإحسان الذين لا يغتم فيه بسلبه (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ) أي بإخوانهم المجاهدين الذين (لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) لم يقتلوا فيلحقوا بهم (مِنْ خَلْفِهِمْ) متعلق ب (يلحقوا) والمعنى : أنهم بقوا من بعدهم وهم قد تقدموهم. أو لم يلحقوا بهم : لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بدل من (الذين) ، بدل اشتمال مبين أن استبشارهم بحال إخوانهم لا بذواتهم ، والمعنى : ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين. وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة ، بشّرهم الله بذلك ، فهم مستبشرون به. وفي ذلك حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على الجد في الجهاد ، والرغبة في نيل منازل الشهداء.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٧١)

(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) أي يسرون بما أنعم الله عليهم ، وما تفضل عليهم من زيادة الكرامة ، وتوفير أجرهم عليهم.

قال أبو السعود : كرّر لبيان أن الاستبشار المذكور ليس بمجرد عدم الخوف والحزن ، بل به وبما يقارنه من نعمة عظيمة ، لا يقادر قدرها ، وهي ثواب أعمالهم. ثم قال : والمراد بالمؤمنين : إما الشهداء ، والتعبير عنهم بالمؤمنين للإيذان بسمو رتبة الإيمان ، وكونه مناطا لما نالوه من السعادة. وإما كافة أهل الإيمان من الشهداء وغيرهم ، ذكرت توفية أجورهم على إيمانهم ، وعدّت من جملة ما يستبشر به الشهداء بحكم الأخوة في الدين ـ انتهى ـ.

وقال ابن القيّم : إن الله تعالى عزّى نبيه وأولياءه عمن قتل منهم في سبيله أحسن تعزية وألطفها وأدعاها إلى الرضا بما قضاه لهم بقوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ ...) الآيات ـ فجمع لهم إلى الحياة الدائمة ، منزلة القرب منه ، وأنهم عنده ، وجريان الرزق المستمر عليهم ، وفرحهم بما آتاهم من فضله ، وهو فوق الرضا ، بل هو كمال الرضا ، واستباشرهم بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يتم سرورهم ونعيمهم ، واستبشارهم بما يجدد لهم كل وقت من نعمته وكرامته ، وذكرهم سبحانه في أثناء هذه المحنة بما هو أعظم مننه ، ونعمه عليهم ، التي قابلوا بها كل محنة تنالهم وبلية تلاشت في جنب هذه المنة والنعمة ، ولم يبق لها أثر البتة ، وهي منّته عليهم بإرسال رسول من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وينقذهم من

٤٥٨

الضلال ، الذي كانوا فيه قبل إرساله ، إلى الهدى ، ومن الشقاء إلى الفلاح ، ومن الظلمة إلى النور ، ومن الجهل إلى العلم. فكل بلية ومحنة تنال العبد بعد حصول هذا الخبر العظيم له ، أمر يسير جدا في جنب الخير الكثير. كما ينال الناس بأذى المطر ، في جنب ما يحصل لهم به من الخير. وأعلمهم أن سبب المصيبة من عند أنفسهم ، ليحذروا ، وأنها بقضائه وقدره ليوحدوه ويتكلوا عليه ، ولا يخافوا غيره. وأخبرهم بما له فيها من الحكم ، لئلا يتهموا في قضائه وقدره ، وليتعرف إليهم بأنواع صفاته وأسمائه. وسلّاهم بما أعطاهم مما هو أجل قدرا وأعظم خطرا مما فاتهم من النصر والغنيمة ، وعزّاهم عن قتلاهم بما نالوه من ثوابه وكرامته ، لينافسوا فيه ، ولا يحزنوا عليهم ، فله الحمد كما هو أهله ، وكما ينبغي لكرم وجهه ، وعز جلاله.

ثم قال ابن القيّم : ولما انقضت الحرب ، انكفأ المشركون ، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لإحراز الذراريّ والأموال ، فشق ذلك عليهم ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعليّ بن أبي طالب : اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون ، وماذا يريدون ، فإن هم جنبوا الخيل ، وامتطوا الإبل ، فإنهم يريدون مكة ، وإن كانوا ركبوا الخيل ، وساقوا الإبل ، فإنهم يريدون المدينة ، فوالذي نفسي بيده! لئن أرادوها لأسيرن إليهم ، ثم لأناجزهم فيها. قال عليّ : فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون ، فجنبوا الخيل ، وامتطوا الإبل ، ووجهوا مكة. ولما عزموا على الرجوع إلى مكة ، أشرف على المسلمين أبو سفيان ، ثم ناداهم : موعدكم الموسم ببدر. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قولوا نعم قد فعلنا. قال أبو سفيان : فذلكم الموعد. ثم انصرف هو وأصحابه. فلما كان في بعض الطريق ، تلاوموا فيما بينهم ، وقال بعضهم لبعض : لم تصنعوا شيئا! أصبتم شوكتهم وحدهم ، ثم تركتموهم ، وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم ، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم. فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنادى في الناس ، وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم ، وقال : لا يخرج معنا إلا من شهد القتال ، فقال له عبد الله ابن أبيّ : أركب معك ، قال : لا. فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد والخوف ، وقالوا : سمعا وطاعة. واستأذنه جابر بن عبد الله وقال : يا رسول الله! إني أحب أن لا تشهد مشهدا إلا كنت معك ، وإنما خلفني أبي على بناته فأذن لي أسير معك ، فأذن له ، فسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد ، وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعيّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلم. فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذله ، فلحقه بالروحاء ـ ولم يعلم بإسلامه ـ فقال : ما وراءك يا معبد؟ فقال : محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم ، وخرجوا في جمع لم يخرجوا مثله ، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم. فقال : ما تقول؟ فقال : ما أرى أن ترتحل

٤٥٩

حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة ، فقال أبو سفيان : والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم ، قال : فلا تفعل ، فإني لك ناصح. فرجعوا على أعقابهم إلى مكة ـ انتهى ـ وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٧٢)

(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي دعوة الله ورسوله إلى الخروج في طلب أبي سفيان إرهابا له (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) بأحد (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) بطاعته (وَاتَّقَوْا) مخالفته (أَجْرٌ عَظِيمٌ) روى البخاريّ (١) عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية قالت لعروة : يا ابن أختي! كان أبواك منهم : الزبير وأبو بكر رضي الله عنهما. لما أصاب نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أصابه يوم أحد ، وانصرف عنه المشركون ، خاف أن يرجعوا فقال : من يذهب في أثرهم؟ فانتدب منهم سبعون رجلا فيهم أبو بكر والزبير ، قال أبو هشام : ولما ثنى معبد أبا سفيان ومن معه ، كما تقدم ، مرّ بأبي سفيان ركب من عبد القيس ، فقال : أين تريدون؟ قالوا : نريد المدينة ؛ قال : ولم؟ قالوا : نريد الميرة ، قال : فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه ، وأحمل لكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتمونا؟ قالوا : نعم ، قال : فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد جمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم ، فمرّ الركب برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بحمراء الأسد ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه ، فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فأنزل الله تعالى في ذلك :

القول في تأويل قوله تعالى :

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (١٧٣)

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) أي الركب المستقبل لهم (إِنَّ النَّاسَ) أي أبا سفيان وأصحابه (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) أي الجموع ليستأصلوكم (فَاخْشَوْهُمْ) ولا تأتوهم (فَزادَهُمْ) أي ذلك القول (إِيماناً) أي تصديقا بالله ويقينا. والمعنى : أنهم لم

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : المغازي ، ٢٥ ـ باب (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ).

٤٦٠