تفسير القاسمي - ج ٢

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٢

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٢

استشكلوا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى أحد بعد صلاة الجمعة كما اتفقت عليه كلمة أهل السير ، فكيف المطابقة؟

فمنهم من أجاب بأنه المراد غدوة السبت ، وأنه كان في صباحه التبوؤ للمقاعد إلا أنه لا يساعده (من أهلك) لأنه لم يكن وقتئذ أهله معه.

ومنهم من قال : المراد غدوة الجمعة أي : اذكر إذ غدوت من أهلك صبيحة الجمعة إلى أصحابك في مسجدك تستشيرهم في أمر المشركين ، ثم قال : وبنى من (غدوت) حالا إعلاما بأن الشروع في السبب شروع في مسببه ، فقال (تبوئ المؤمنين) أي صبيحة يوم السبت.

وكان يخطر لي أن الأقرب جعل الغدوّ بمعنى الخروج غير مقيد بالبكرة ، وكثيرا ما يستعمل كذلك.

ثم رأيت في فتح البيان ما استظهرته فحمدت الله على الموافقة ونصه : وعبر عن الخروج بالغدوّ الذي هو الخروج غدوة مع كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج بعد صلاة الجمعة ، لأنه قد يعبر بالغدوة والرواح عن الخروج والدخول من غير اعتبار أصل معناهما ، كما يقال (أضحى) وإن لم يكن في وقت الضحى ـ انتهى ـ

قال البقاعيّ : ولما كان رجوع عبد الله بن أبيّ المنافق ، كما يأتي في صريح الذكر آخر القصة ، من الأدلة على أن المنافقين ، فضلا عن المصارحين بالمصارمة ، متصفون بإخبار الله تعالى عنهم من العداوة والبغضاء ، مع أنه كان سببا في هم الطائفتين من الأنصار بالفشل ـ كان إيلاء هذه القصة للنهي عن اتخاذ بطانة السوء الذين لا يقصرون عن فساد ، في غاية المناسبة. ولذلك افتتحها سبحانه بقوله مبدلا من (إذ غدوت) دليلا على ما قبله من أن بطانة السوء لا يألونهم خبالا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٢٢)

(إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ) أي بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس (أَنْ تَفْشَلا) أي تكسلا وتجبنا وتضعفا لرجوع المنافقين عن نصرهم وولايتهم فعصمهما الله ، فمضيا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاللهُ وَلِيُّهُما) ناصرهما ، ومتولي أمرهما ، فأمدهما بالتوفيق والعصمة ، (وَعَلَى اللهِ) وحده دون ما عداه استقلالا أو اشتراكا (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) في جميع أمورهم ، فإنه حسبهم. و (التوكل : تفعل)

٤٠١

من وكل أمره إلى فلان إذا اعتمد في كفايته عليه ، ولم يتوله بنفسه. وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي أن يدفع الإنسان ما يعرض له من مكروه وآفة بالتوكل على الله ، وأن يصرف الجزع عن نفسه بذلك التوكل. روى الشيخان (١) عن جابر رضي الله عنه قال : فينا نزلت. (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما) ـ قال : نحن الطائفتان : بنو حارثة وبنو سلمة ، وما نحب أنها لم تنزل لقوله تعالى : والله وليهما. أي لفرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية. وإن تلك الهمّة ما أخرجتهم عن ولاية الله تعالى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٢٣)

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لما ذكر تعالى قصة أحد أتبعها بذكر قصة بدر. وذلك لأن المسلمين يوم بدر كانوا في غاية الضعف عددا وعددا ، والكفار كانوا في غاية الشدة والقوة. ثم إنه تعالى نصر المسلمين على الكافرين ، فصار ذلك من أقوى الدلائل على أن ثمرة التوكل عليه تعالى والصبر والتقوى هو النصر والمعونة والتأييد. و (بدر) موضع بين الحرمين ، إلى المدينة أقرب ، يقال هو منها على ثمانية وعشرين فرسخا. أو اسم بئر هناك حفرها رجل اسمه يدر ، وقوله (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي راجين أن تشكروا ما أنعم به عليكم بتقواكم من نصرته. وقد أشير في مواضع من التنزيل إلى غزوة بدر ، وكانت في شهر رمضان ، السنة الثانية من الهجرة ، وكان سببها أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغه أن عيرا لقريش فيها أموال عظيمة مقبلة من الشام إلى مكة. معها ثلاثون أو أربعون رجلا من قريش ، عميدهم أبو سفيان ، ومعه عمرو بن العاص ، ومخرمة بن نوفل. فندب صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هذه العير. وأمر من كان ظهره حاضرا بالخروج. ولم يحتفل في الحشد. لأنه لم يظن قتالا. وخرج مسرعا في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، لم يكن معهم من الخيل إلا فرسان ، وكان معهم سبعون بعيرا يعتقبونها. واتصل خروجه بأبي سفيان ، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاريّ ، وبعثه إلى أهل مكة يستنفرهم لعيرهم. فنفروا وأوعبوا ، وخرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم لثمان خلون من رمضان ، واستخلف على الصلاة عمرو بن أم مكتوم ، وردّ

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : التفسير ، ٣ ـ سورة آل عمران ، ٨ ـ باب (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا).

ومسلم في : فضائل الصحابة ، حديث ١٧١.

٤٠٢

أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة ، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير ، ودفع إلى عليّ راية ، وإلى رجل من الأنصار راية أخرى ، يقال كانتا سوداوين. وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة. وراية الأنصار يومئذ مع سعد بن معاذ ، فسلكوا نقب المدينة إلى ذي الحليفة ، ثم انتهوا إلى صخيرات يمام ، ثم إلى بئر الروحاء ، ثم رجعوا ذات اليمين عن الطريق إلى الصفراء ، وبعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبلها بسبس بن عمرو وعديّ بن أبي الزغباء إلى بدر يتجسسان أخبار أبي سفيان وعيره ، ثم تنكب عن الصفراء يمينا ، وخرج على وادي دقران ، فبلغه خروج قريش ونفيرهم ، فاستشار أصحابه فتكلم المهاجرون ، وأحسنوا ، وهو يريد ما يقول الأنصار ، وفهموا ذلك ، فتكلم سعد بن معاذ ، وكان فيما قال : لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ، فسر بنا يا رسول الله على بركة الله. فسرّ بذلك وقال : سيروا وأبشروا ، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين. ثم ارتحلوا من دقران إلى قريب من بدر ، وبعث عليّا والزبير وسعدا في نفر يلتمسون الخبر. فأصابوا غلامين لقريش ، فأتوا بهما ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم يصلي ، وقالوا : نحن سقاة قريش ، فكذبوهما ، كراهية في الخبر ، ورجاء أن يكونا من العير للغنيمة وقلة المؤنة ، فجعلوا يضربونهما فيقولان : نحن من العير. فسلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنكر عليهم ، وقال للغلامين : أخبراني أين قريش؟ فأخبراه أنهم وراء الكثيب ، وأنهم ينحرون يوما عشرا من الإبل ويوما تسعا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : القوم ما بين التسعمائة والألف. وقد كان بسبس وعديّ مضيا يتجسسان ولا خبر ، حتى نزلا وأناخا قرب الماء ، واستقيا في شن لهما ، ومجدي بن عمرو من جهينة بقربهما. فسمع عديّ جارية من جواري الحي تقول لصاحبتها : العير تأتي غدا أو بعد غد ، وأعمل لهم وأقضيك الذي لك ، وجاءت إلى مجدي بن عمرو ، فصدقها. فرجع بسبس وعديّ بالخبر. وجاء أبو سفيان بعدهما بتجسس الخبر. فقال لمجدي : هل أحسست أحدا؟ فقال : راكبين أناخا يميلان لهذا التل ، فاستقيا الماء ونهضا. فأتى أبو سفيان مناخهما ، وفتت من أبعار رواحلهما. فقال : هذه ، والله ، علائف يثرب. فرجع سريعا وقد حذر ، وتنكب بالعير إلى طريق الساحل فنجا. وأوصى إلى قريش بأنا قد نجونا بالعير فارجعوا. فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر ، ونقيم به ثلاثا ، وتهابنا العرب أبدا ، ورجع الأخنس بن شريق بجميع بني زهرة ، وكان حليفهم ومطاعا فيهم وقال : إنما خرجتم تمنعون أموالكم وقد نجت ، فارجعوا. وكان بنو عديّ لم ينفروا مع القوم ، فلم يشهد بدرا من قريش عدويّ ولا زهريّ. وسبق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريشا إلى ماء بدر ، وثبطهم عنه مطر نزل وبله مما يليهم ، وأصاب مما يلي المسلمين

٤٠٣

دهس الوادي ، وأعانهم على السير. فنزل صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة ، فقال له الحباب بن المنذر : الله أنزلك بهذا المنزل فلا نتحول عنه ، أم قصدت الحرب والمكيدة؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا بل هو الرأي والحرب. فقال : يا رسول الله! ليس هذا بمنزل ، وإنما نأتي أدنى ماء من القوم ، فننزله ونبني عليه حوضا ، ونملؤه ونعوّر القلب كلها ، فنكون قد منعناهم الماء ، فاستحسنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم بنوا عريشا على تل مشرف على المعركة يكون فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يأتيه النصر من ربه ، ومشى يريهم مصارع القوم واحدا واحدا. ولما نزل قريش مما يليهم بعثوا عمير بن وهب الجمحيّ يحزر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحزرهم وانصرف وخبرهم الخبر. ورام حكيم بن حزام وعتبة بن ربيعة أن يرجعا بقريش ، ولا يكون الحرب ، فأبى أبو جهل ، وساعده المشركون ، وتواقفت الفئتان ، وعدل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصفوف بيده ، ورجع إلى العريش ، ومعه أبو بكر وحده ، وطفق يدعو ويلح ، وأبو بكر يقاوله. ويقول في دعائه : اللهم! إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ، اللهم! أنجز لي ما وعدتني. وسعد بن معاذ وقوم معه من الأنصار على باب العريش يحمونه ، وأخفق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم انتبه ، فقال : أبشر يا أبا بكر! فقد أتى نصر الله. ثم خرج يحرض الناس. ورمى في وجوه القوم بحفنة من حصى وهو يقول : شاهت الوجوه. ثم تزاحفوا. فخرج عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد يطلبون البراز ، فخرج إليهم عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب وعليّ بن أبي طالب ، فقتل حمزة وعليّ شيبة والوليد ، وضرب عتبة عبيدة ، فقطع رجله فمات ، وجاء حمزة وعليّ إلى عتبة فقتلاه ، وقد كان برز إليهم عوف ومعاذ ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة من الأنصار فأبوا إلا قومهم. وجال القوم جولة. فهزم المشركون. وقتل منهم يومئذ سبعون رجلا. وأسر سبعون. واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا. ثم انجلت الحرب ، وانصرف إلى المدينة ، وقسم الغنائم في الصفراء ، ودخل المدينة لثمان بقين من رمضان. وبسط القصة في السير. ومن أبدعها سياقا وفقها (زاد المعاد) فليرجع إليه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) (١٢٤)

(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ) لتقويتكم ونصركم ودفع

٤٠٤

أعدائكم (بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) من سمائه لقتال أعدائه. وقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (١٢٥)

(بَلى) إما من تتمة مقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمؤمنين أو ابتداء خطاب من الله تعالى تأييدا لقول نبيه وزيادة على ما وعدهم تكرما وفضلا. أي : نعم يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف ولكنه يزيدكم (إِنْ تَصْبِرُوا) على قتالهم (وَتَتَّقُوا) الفرار عنهم (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) أي ساعتهم هذه فلا تنزعجوا بمفاجأتهم (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم (مُسَوِّمِينَ) بكسر الواو أي معلمين أنفسهم بأداة الحرب على عادة الفرسان يوم اللقاء ليعرفوا بها. وقرئ بفتح الواو أو معلّمين من قبله تعالى. روى البخاريّ (١) عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم بدر : هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب.

تنبيه :

وفي وعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمؤمنين بالإمداد بقوله (إِذْ تَقُولُ) وجهان :

الأول ـ أنه كان في يوم بدر ، فإن سياق ما قبله يدل عليه وهو قوله (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) ف (إذ) ظرف ل (نصركم) ، أي نصركم وقت قولك للمؤمنين وقد أظهروا العجز واستغاثوا ربهم. فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية ، على هذا الوجه ، وبين قوله في سورة الأنفال في قصة بدر : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال : ٩]؟

فالجواب : أن التنصيص على الألف هاهنا لا ينافي الثلاثة آلاف فما فوقها ، لقوله (مردفين) بمعنى يردفهم غيرهم ويتبعهم ألوف أخر مثلهم ، وذلك أنهم لما استغاثوا أمدهم بألف ثم أمدهم بتمام ثلاثة آلاف ، ثم أمدهم بتمام خمسة آلاف لما صبروا واتقوا ، وكان هذا التدريج ومتابعة الإمداد أحسن موقعا وأقوى لتقويتهم ، وأسرها من أن يأتي مرة واحدة ، وهو بمنزلة متابعة الوحي ، ونزوله مرة بعد مرة. قال الربيع بن أنس : أمد الله المسلمين بألف ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : المغازي ، ١١ ـ باب شهود الملائكة بدرا ، حديث ١٨٥٥.

٤٠٥

آلاف ، ومما يؤيد هذا الوجه أن سياق بدر في الأنفال من قوله تعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ...) [الأنفال : ٧] ، الآيات شبيهة بهذا السياق هنا. كما يذوقه من تدبره.

الوجه الثاني : أن هذا الوعد كان يوم أحد ، فإن القصة في سياق أحد ، وإنما أدخل ذكر بدر اعتراضا في أثنائها ؛ ليذكرهم بنعمته عليهم ، لما نصرهم ببدر وهم أذلة ، وإنه كذلك هو قادر على نصرهم في سائر المواطن. ثم عاد إلى قصة أحد ، وأخبر عن قول رسوله لهم : (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ ...) الآية. ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بخمسة آلاف. فهذا من قول رسوله ، والإمداد الذي ببدر من قوله تعالى ، وهذا بخمسة آلاف. وإمداد بدر بألف ، وهذا معلق على شرط ، وذاك مطلق ، والقصة في هذه السورة هي قصة أحد مستوفاة مطولة ، وبدر ذكرت فيها اعتراضا. والقصة في الأنفال قصة بدر مستوفاة مطولة ، فالسياق هنا غير السياق في الأنفال ـ أشار لذلك ابن القيّم في (زاد المعاد).

وقد انتصر للوجه الأول العلامة أبو السعود ، وبين ضعف الثاني بأوجه وجيهة. فليرجع إليه.

ونقل الخازن عن ابن جرير أنه قال : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر عن نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال للمؤمنين : (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ)؟ فوعدهم الله بثلاثة آلاف من الملائكة مددا لهم ، ثم وعدهم بعد الثلاثة الآلاف ، خمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا الله.

ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة آلاف ولا بالخمسة آلاف ، ولا على أنهم لم يمدّوا بهم. وقد يجوز أن يكون الله عزوجل أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أنه أمدهم. وقد يجوز أن يكون لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك. ولا خبر عندنا صحّ من الوجه الذي يثبت أنهم أمدّوا بالثلاثة الآلاف. ولا بالخمسة الآلاف.

وغير جائز ، أن يقال في ذلك قول إلا بخبر تقوم به الحجة. ولا خبر به كذلك ، فنسلم لأحد الفريقين قوله.

غير أن في القرآن دلالة على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة وذلك قوله : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال : ٩].

٤٠٦

فأما في يوم أحد فالدلالة على أنهم لم يمدّوا أبين منها في أنهم أمدوا. وذلك أنهم لو أمدوا ، لم يهزموا ، وينال منهم ما نيل منهم.

فالصواب فيه من القول أن يقال كما قال تعالى ذكره.

(هذا هو نص ابن جرير. صفحة ١٨٠ ـ ١٨١ من الجزء السابع (طبعة المعارف).

فإن قلت : فما تصنع بحديث سعد بن أبي وقاص المرويّ في الصحيحين أنه قال (١) رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه ، عليهما ثياب بيض ، كأشد القتال ، ما رأيتهما قبل ولا بعد ، يعني جبريل وميكائيل؟ قلت : إنما كان ذلك للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، لأنه صبر ولم يهزم كما انهزم أصحابه يوم أحد ـ انتهى.

فائدة :

الإمداد ، لغة الإعانة. والمراد هنا إعانة الجيش. وهل إعانة الملائكة للجيش بالقتال معهم للحديث السابق. ولحديث عائشة في الصحيحين (٢) قالت : لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل ، أتاه جبريل فقال : قد وضعت السلاح؟ والله ما وضعناه ، اخرج إليهم! قال : فإلى أين؟ قال : هاهنا ـ وأشار إلى بني قريظة ، فخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ـ أو هي بتكثير سواد المسلمين وتثبيت قلوبهم ، كما قال تعالى في الأنفال : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) [الأنفال : ١٢]. أو بهما معا وهو الظاهر. وقد سئل السبكيّ عن الحكمة في قتال الملائكة ، مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه ، فأجاب بأن ذلك لإرادة أن يكون الفضل للنبيّ وأصحابه ، وتكون الملائكة مددا على عادة مدد الجيوش ، رعاية لصورة الأسباب التي أجراها الله تعالى في عباده. والله فاعل الجميع ـ انتهى ـ

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : المغازيّ ، ١٨ ـ باب (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ، حديث ١٨٧٣.

ومسلم في : الفضائل ، حديث ٤٦ و ٤٧.

(٢) أخرجه البخاريّ في : المغازي ، ٣٠ ـ باب مرجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم ، حديث ٣٠٨.

ومسلم في : الجهاد والسير ، حديث ٦٥.

٤٠٧

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (١٢٦)

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) أي ما جعل الإمداد بالملائكة إلا لتستبشروا به فتزداد قوة قلوبكم وشجاعتكم ونجدتكم ونشاطكم (وَلِتَطْمَئِنَ) أي تسكن (قُلُوبُكُمْ بِهِ) أي فلا تجزع من كثرة عدوكم وقلة عددكم (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) وحده لا من الملائكة ولا من غيرهم ، فالأسباب الظاهرة بمعزل من التأثير ، وفيه توثيق للمؤمنين ، وعدم إقناط من النصر عند فقدان أسبابه وأماراته (الْعَزِيزِ) أي الذي لا يغالب في حكمه (الْحَكِيمِ) الذي يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه حكمته الباهرة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) (١٢٧)

(لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ليهلك وينقص طائفة منهم بالقتل والأسر ، كما كان يوم بدر ، من قتل سبعين وأسر سبعين منهم ، واللام متعلقة ، إما بقوله تعالى : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ). وما بينهما تحقيق لحقيقته ، وبيان لكيفية وقوعه ـ إما بما تعلق به الخبر في قوله تعالى : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ). من الثبوت والاستقرار (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) أي يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة تقويه للمؤمنين (فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) أي فيرجعوا منقطعي الآمال. وإنما أوقع بين المعطوف والمعطوف عليه في أثناء الكلام قوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) (١٢٨)

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) اعتراضا لئلا يغفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيرى لنفسه تأثيرا في بعض هذه الأمور فيحتجب عن التوحيد ، أي ليس لك من أمرهم شيء ، كيفما كان ، ما أنت إلا بشر مأمور بالإنذار. إن عليك إلا البلاغ ، إنما أمرهم إلى الله ـ أفاده القاشانيّ ـ وفي الاعتراض تخفيف من حزنه لكفرهم ، وحرصه على هداهم ، كما قال : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ). وقوله تعالى : (أَوْ يَتُوبَ

٤٠٨

عَلَيْهِمْ). أي مما هم فيه من الكفر فيهديهم للإسلام بعد الضلالة (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) أي في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) أي يستحقون ذلك لاستمرارهم على العناد.

روى البخاريّ (١) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أراد أن يدعوا على أحد أو يدعوا لأحد ، قنت بعد الركوع ، فربما قال ، إذا قال سمع الله لمن حمده : اللهم! ربنا ولك الحمد : اللهم! أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة ، اللهم! اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف ، يجهر بذلك ، وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر : اللهم العن فلانا وفلانا (لأحياء من العرب) حتى أنزل الله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ...) الآية.

وقد أسند ما علقه عن ابن عمر (٢) أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر ، يقول : اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا. بعد ما يقول : سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد. فأنزل الله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ...) الآية ـ ورواه الإمام أحمد عن ابن عمر أيضا ولفظه : اللهم! العن فلانا وفلانا. اللهم العن الحارث بن هشام. اللهم العن سهيل بن عمرو. اللهم العن صفوان ابن أمية. فنزلت هذه الآية : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ...) الآية ، فيتوب عليهم كلهم.

وقال الإمام أحمد (٣) حدثنا هشيم حدثنا حميد عن أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه ، فقال : كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم عزوجل ، فأنزل الله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ). الآية ـ انفرد به مسلم. ورواه البخاريّ تعليقا. وقد تقدم لنا في مقدمة التفسير تحقيق معنى سبب النزول ، وأن الآية قد تذكر استشهادا في مقام ، لكونها مما تشمله. فيطلق الراوي عليها النزول فيه ، ولا يكون قصده أن هذا كان سببا لنزولها. والحكمة في منعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدعاء عليهم ظهرت من توبتهم أخيرا. والإلحاح في الدعاء مظنة الإجابة ، لا سيما من أشرف

__________________

(١) أخرجه في : التفسير ، ٣ ـ سورة آل عمران ، ٩ ـ باب (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) ، حديث ٤٨٣.

(٢) أخرجه في : التفسير ، ٣ ـ سورة آل عمران ، ٩ ـ باب (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) ، حديث ١٨٧٥.

(٣) أخرجه الإمام أحمد في المسند بالصفحة ٩٩ ج ٣.

٤٠٩

خلقه. فاقتضت حكمته تعالى إمهالهم إلى أن يتوبوا لسابق علمه فيهم. وفيه طلب التفويض في الأمور الملمة ، لما في طيّها من الأسرار الإلهية.

لطيفة :

قوله تعالى : (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ). منصوب بإضمار (أن) في حكم اسم معطوف ب (أو) على (الأمر) أو على (شيء) ، أي ليس لك من أمرهم شيء ، أو من التوبة عليهم ، أو من تعذيبهم ، أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم.

أقول : جعل (أَوْ يَتُوبَ) منصوبا بالعطف على (يكبتهم) ـ بعيد جدا. وإن قدمه بعض المفسرين على الوجه المتقدم. وذلك لأن قوله تعالى (لَيْسَ لَكَ) كلام مستأنف على ما صرحت به الروايات في سبب النزول. وهي المرجع في التأويل ـ والله أعلم ـ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٢٩)

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تقرير لما قبله من قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) ، أي له ما فيهما ملكا وأمرا (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) فيحكم في خلقه بما يشاء ، لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تذييل مقرر لمضمون قوله : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) ، مع زيادة. وفي تخصيص التذييل به دون قرينة ، من الاعتناء بشأن المغفرة والرحمة ما لا يخفى ـ أفاده أبو السعود ـ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٣٠)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) هذا نهي عن الربا مع التوبيخ بما كانوا عليه في الجاهلية من تضعيفه ، كان الرجل منهم إذا بلغ الدّين محله يقول : إما أن تقضي حقي أو تربي وأزيد في الأجل. وفي ندائهم باسم (الإيمان) إشعار بأن من مقتضى الإيمان وتصديقه ترك الربا. وقد تقدم في البقرة من المبالغة في النهي عنه ما يروع من له أدنى تقوى. يوجب ، لمن لم يتركه وما يقاربه ، الضمان

٤١٠

بالخذلان في كل زمان : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة : ٢٧٩]. (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ ، فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة : ٨٦]. وقوله (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) أي زيادات متكررة ، وليس لتقييد النهي به ، لما هو معلوم من تحريمه على كل حال ، بل لمراعاة عادتهم كما بيّنا. ومحله النصب على الحالية من الربا. وقرئ (ضعفة) (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما تنهون عنه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بإيفاء حقوقكم وصونكم عن أعدائكم ، كما صنتم حقوق الأشياء. ومما يعلم به حكمة نظم هذه الآية في سلك قصة أحد ، ما رواه أبو داود (١) عن أبي هريرة أن عمرو بن أقيش رضي الله عنه كان له ربا في الجاهلية ، فكره أن يسلم حتى يأخذه ، فجاء يوم أحد ، فقال : أين بنو عمي؟ قالوا بأحد. قال : أين فلان؟ قالوا : بأحد. قال : فأين فلان؟ قالوا : بأحد. فلبس لأمته ، وركب فرسه ، ثم توجه قبلهم ، فلما رآه المسلمون قالوا : إليك عنا يا عمرو! قال : إني قد آمنت ، فقاتل حتى جرح ، فحمل إلى أهله جريحا ، فجاءه سعد بن معاذ رضي الله عنه ، فقال لأخته : سليه : حمية لقومك وغضبا لهم أم غضبا لله عزوجل؟ فقال : بل غضبا لله عزوجل ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمات ، فدخل الجنة ، وما صلى لله عزوجل صلاة.

قال الدينوريّ : وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول : حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل قط! فيسكت الناس ، فيقول أبو هريرة : هو أخو بني عبد الأشهل.

وعند ابن إسحاق : فذكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنه لمن أهل الجنة ـ هذا ملخص ما أورده البقاعيّ رحمه‌الله تعالى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (١٣١)

(وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) بالتحرز عن متابعتهم في الربا ونحوه. روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه كان يقول : هي أخوف آية في القرآن ، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٣٢)

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) أي في ترك الربا ونحوه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : الجهاد ، ٣٧ ـ باب فيمن يسلم ويقتل مكانه في سبيل الله عزوجل ، حديث ٢٥٣٧.

٤١١

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (١٣٣)

(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) أي إلى ما يؤدي إليهما من الاستغفار والتوبة والأعمال الصالحة. وقوله (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي كعرضهما ، كما قال في سورة الحديد : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد : ٢١]. وفي العرض وجهان :

الأول ـ أنه على حقيقته. وتخصيصه بالذكر تنبيها على اتساع طولها. فإن العرض في العادة أدنى من الطول ، كما قال تعالى في صفة فرض الجنة : (بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) [الرحمن : ٥٤]. أي فما ظنك بظاهرها؟ فكذا هنا.

والثاني ـ أنه مجاز عن السعة والبسطة. قال القفال : ليس المراد بالعرض هاهنا ما هو خلاف الطول ، بل هو عبارة عن السعة ، كما تقول العرب : بلاد عريضة ، ويقال : هذه دعوى عريضة أي واسعة عظيمة. والأصل فيه أن ما اتسع عرضه لم يضق وما ضاق عرضه دق ، فجعل العرض كناية عن السعة. وقال الزمخشريّ : المراد وصفها بالسعة والبسطة. فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه تعالى وأبسطه ـ والله أعلم. (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٣٤)

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ) أي في حال الرخاء واليسر (وَالضَّرَّاءِ) أي في حال الضيقة والعسر. وإنما افتتح بذكر الإنفاق لأنه أشق شيء على النفس ، فمخالفتها فيه منقبة شامخة (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) أي الممسكين عليه في نفوسهم ، الكافّين عن إمضائه مع القدرة عليه ، اتقاء التعدي فيه إلى ما وراء حقه.

روى الإمام أحمد (١) عن جارية بن قدامة السعديّ أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله قل لي قولا ينفعني وأقلل عليّ لعلّي أعيه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣ / ٤٨٤.

٤١٢

لا تغضب. فأعاد عليه. حتى أعاد عليه مرارا. كل ذلك يقول : لا تغضب ـ انفرد به أحمد ـ وروى من طريق آخر أن رجلا قال : يا رسول الله أوصني ، قال : لا تغضب. قال الرجل : ففكرت حين قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قال ، فإذا الغضب يجمع الشركله (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) أي ظلمهم لهم ، ولو كانوا قد قتلوا منهم ، فلا يؤاخذون أحدا بما يجني عليهم ، ولا يبقى في أنفسهم موجدة ، كما قال تعالى : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى : ٣٧]. قال القفال رحمه‌الله : يحتمل أن يكون هذا راجعا إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا ، فنهى المؤمنون عن ذلك ، وندبوا إلى العفو عن المعسرين. قال تعالى عقيب قصة الربا والتداين : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ، وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٨٠]. ويحتمل أن يكون كما قال تعالى في الدية : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) [البقرة : ١٧٨]. إلى قوله : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ). ويحتمل أن يكون هذا بسبب غضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين مثلوا بحمزة وقال : لأمثلنّ بهم. فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه والكف عن فعل ما ذكر أنه يفعله من المثلة ، فكان تركه فعل ذلك عفوا. قال تعالى في هذه القصة : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) [النحل : ١٢٦] ـ انتهى ـ وظاهر أن عموم الآية مما يشمل كل ما ذكر. إذ لا تعيين (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) اللام إما للجنس ، وهم داخلون فيه دخولا أوليا. وإما للعهد ، عبر عنهم بالمحسنين إيذانا بأن النعوت المعدودة من باب الإحسان الذي هو الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفيّ المستلزم لحسنها الذاتيّ. وقد فسره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (١) : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك. والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها ـ أفاده أبو السعود ـ.

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الإيمان ، ٣٧ ـ باب سؤال جبريل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان. ونصه : عن أبي هريرة قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بارزا يوما للناس. فأتاه جبريل فقال : ما الإيمان؟ قال «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله ، وتؤمن بالبعث» قال : ما الإسلام؟ قال «أن تعبد الله ولا تشرك به. وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان» قال : ما الإحسان؟ قال «أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك» قال : متى الساعة؟ قال «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. وسأخبرك عن أشراطها : إذا ولدت الأمة ربتها. وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان. في خمس لا يعلمهن إلا الله». ثم تلا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ..) الآية. ثم أدبر. فقال «ردوه» فلم يروا شيئا. قال «هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم».

٤١٣

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١٣٥)

(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) من السيئات الكبار (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي بأي نوع من الذنوب (ذَكَرُوا اللهَ) أي تذكروا حقه وعهده فاستحيوه وخافوه (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) أي لأجلها بالتوبة والإنابة إليه تعالى.

قال البقاعيّ : ولما كان هذا مفهما أنه يغفر لهم لأنه غفار لمن تاب ، أتبعه بتحقيق ذلك ، ونفى القدرة عليه عن غيره ، مرغبا في الإقبال عليه بالاعتراض بين المتعاطفين بقوله (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ) أي يمحو آثارها حتى لا تذكر ولا يجازي عليها (إِلَّا اللهُ) أي الملك الأعلى. وقال أبو السعود (مَنْ) استفهام إنكاريّ. أي لا يغفر الذنوب أحد إلا الله ، خلا أن دلالة الاستفهام على الانتفاء أقوى وأبلغ لإيذانه بأنه كل أحد ممن له حظ من الخطاب يعرف ذلك الانتفاء ، فيسارع إلى الجواب به. والمراد به وصفه سبحانه بغاية سعة الرحمة وعموم المغفرة ، والجملة معترضة بين المعطوفين ، أو بين الحال وصاحبها لتقرير الاستغفار والحث عليه ، والإشعار بالوعد بالقبول.

وقال الزمخشريّ : في هذه الجملة وصف لذاته تعالى بسعة الرحمة ، وقرب المغفرة ، وأن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له ، وأنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه ، وأن عدله يوجب المغفرة للتائب ، لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه ، وجب العفو والتجاوز. وفيه تطييب لنفوس العباد ، وتنشيط للتوبة ، وبعث عليها ، وردع عن اليأس والقنوط ، وأن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجل ، وكرمه أعظم. والمعنى أنه وحده معه مصححات المغفرة ـ انتهى ـ.

وفي مسند الإمام أحمد (١) عن الأسود بن سريع رضي الله عنه أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتي بأسير ، فقال : اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عرف الحق لأهله. وفيه أيضا (٢) : عن أبي سعيد الخدريّ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣ / ٤٣٥.

(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣ / ٢٩.

٤١٤

يقول : إن إبليس قال لربه : بعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم! فقال الله : فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني.

وفيه أيضا (١) : عن عليّ رضي الله عنه قال : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني عنه غيري استحلفته ، فإذا حلف لي صدقته وإن أبا بكر رضي الله عليه حدثني ، وصدق أبو بكر ، أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما من رجل يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الوجوء ، ثم يصلي ركعتين ، فيستغفر الله عزوجل إلا غفر له ، ورواه أهل السنن وابن حبان في صحيحه وغيرهم ـ قال الترمذيّ : حديث حسن (وَلَمْ يُصِرُّوا) أي لم يقيموا (عَلى ما فَعَلُوا) أي ما فعلوه من الذنوب من غير استغفار (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) حال من فاعل (يصروا) أي لم يصروا على ما فعلوا وهم عالمون بقبحه ، والنهي عنه ، والوعيد عليه. والتقييد بذلك ، لما أنه قد يعذر من لا يعلم قبح القبيح. وقد روى أبو داود والترمذيّ (٢) والبزار وأبو يعلى عن مولى لأبي بكر الصديق رضي الله عنه عن أبي بكر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة ، وإسناده لا بأس به. قال ابن كثير : وقول عليّ بن المدينيّ والترمذيّ : ليس إسناد هذا الحديث بذاك ـ فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر ، ولكن جهالة مثله لا تضرّ لأنه تابعيّ كبير ، ويكفيه نسبته إلي أبي بكر ، فهو حديث حسن ـ والله أعلم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (١٣٦)

(أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما مر من الصفات الحميدة (جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي ستر لذنوبهم (وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من أنواع المشروبات (خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) المخصوص بالمدح

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم ٢.

ورواه الترمذيّ في : الصلاة ، ١٨١ ـ باب ما جاء في الصلاة عند التوبة.

(٢) أخرجه أبو داود في : الوتر ، ٢٦ ـ باب في الاستغفار ، حديث ١٥١٤ والترمذيّ في : الدعوات ، ١٠٦ ـ باب حدثنا حسين بن يزيد الكوفيّ.

٤١٥

محذوف ، أي ذلك. يعني ما ذكر من المغفرة والجنات. ثم عاد التنزيل إلى تفصيل بقية قصد أحد ، بعد تمهيده مبادئ الرشد والصلاح بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (١٣٧)

(قَدْ خَلَتْ) أي مضت (مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) أي وقائع من أنواع المؤاخذات والبلايا للأمم المكذبين (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) التي فيها ديارهم الخربة وآثار إهلاكهم (فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي وقيسوا بهم عاقبة اللاحقين بهم في الهلاك والاستئصال. والأمر بالسير والنظر. لما أن لمشاهدة آثار المتقدمين أثرا في الاعتبار والروعة ، أقوى من أثر السماع.

القول في تأويل قوله تعالى :

(هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (١٣٨)

(هذا) أي القرآن أو ما تقدم من مؤاخذة المذكورين (بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ) أي تخويف نافع (لِلْمُتَّقِينَ) ثم شجع قلوب المؤمنين وسلاهم عما أصابهم بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٣٩)

(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي لا تضعفوا عن الجهاد بما نالكم من الجراح ، ولا تحزنوا على من قتل منكم ، والحال أنكم الأعلون الغالبون دون عدوكم ، فإن مصير أمرهم إلى الدمار حسبما شاهدتم من عاقبة أسلافهم ، فهو تصريح بالوعد بالنصر بعد الإشعار به فيما سبق ، وقوله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) متعلق بالنهي أو ب (الأعلون). وجوابه محذوف لدلالة ما تعلق به عليه. أي إن كنتم مؤمنين ، فلا تهنوا ولا تحزنوا ، فإن الإيمان يوجب قوة القلب ، والثقة بصنع الله تعالى ، وعدم المبالاة بأعدائه. أو إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون ، فإن الإيمان يقتضي العلو لا محالة ـ أفاده أبو السعود ـ.

٤١٦

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (١٤٠)

(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) بالفتح والضم قراءتان ، وهما لغتان ، كالضّعف والضّعف ، أي إن أصابكم يوم أحد جراح (فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) أي يوم بدر ولم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى ، لأنكم موعودون بالنصر دونهم ، أي فقد استويتم في الألم ، وتباينتم في الرجاء والثواب ، كما قال : (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) [النساء : ١٠٤]. فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم ، فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان ، وأنتم أصبتم في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته. وقيل : كلا المسّين كان يوم أحد ، فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ) أي أيام هذه الحياة الدنيا (نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) أي نصرفها بينهم ، نديل تارة لهؤلاء ، وتارة لهؤلاء. فهي عرض حاضر ، يقسمها بين أوليائه وأعدائه. بخلاف الآخرة ، فإن عرضها ونصرها ورجاءها خالص للذين آمنوا.

قال ابن القيم قدس الله سره (في ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد) :

ومنها أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة ويدال عليهم أخرى ، لكن تكون لهم العاقبة. فإنهم لو انتصروا دائما دخل معهم المسلمون وغيرهم ، ولم يميز الصادق من غيره. ولو انتصر عليهم دائما لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة. فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق وما جاءوا به ، ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة ـ انتهى ـ وقوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) قال ابن القيم : حكمة أخرى وهي أن يتميز المؤمنون من المنافقين فيعلمهم علم رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومين في غيبه ، وذلك العلم الغيبيّ لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب ، وإنما يترتبان على المعلوم إذا صار مشاهدا واقعا في الحس.

لطيفة :

في الآية وجهان :

أحدهما : أن يكون المعلل محذوفا معناه : (وَلِيَعْلَمَ ..) إلخ فعلنا ذلك.

٤١٧

الثاني : أن تكون العلة محذوفة وهذا عطف عليه معناه : وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت ، وليعلم الله. وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ليسليهم عما جرى عليهم وليبصّرهم أن العبد يسوؤه ما يجري عليه من المصائب ، ولا يشعر أن لله في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه ـ أفاده الزمخشري ـ

تنبيه :

في هذه الآية بحث مشهور ، وذلك بأن ظاهرها مشعر بأنه تعالى إنما فعل ذلك ليكتسب هذا العلم ، ومعلوم أن ذلك محال على الله تعالى ، ونظيرها في الإشكال قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ ..) [آل عمران : ١٤٢] إلخ. وقوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [العنكبوت : ٣] وقوله : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى ..) [الكهف : ١٢] وقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [محمد : ٣١]. وقوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) [البقرة : ١٤٣].

قال الرازيّ : وقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآيات على أن الله تعالى لا يعلم حدوث الحوادث إلا عند وقوعها فقال : كل هذه الآيات دالة على أنه تعالى إنما صار عالما بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها.

ولما كانت الدلائل القطعية دالة على أزلية علمه جل اسمه ، أجاب عن ذلك العلماء بأجوبة :

منها ـ أن هذا من باب التمثيل. فالتقدير في هذه الآية : ليعاملكم معاملة من يريد أن يعلم المخلصين الثابتين على الإيمان من غيرهم.

ومنها ـ أن العلم فيها مجاز عن التمييز بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب أي ليميز الثابتين على الإيمان من غيرهم.

ومنها ـ أن العلم على حقيقته. إلا أنه معتبر من حيث تعلقه بالمعلوم من حيث إنه واقع موجود بالفعل ، أي ليعلم الثابت واقعا منهم كما كان يعلم أنه سيقع لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد ، وهذا ما اعتمده ابن القيّم كما نقلناه أولا.

ومنها ـ أن الكلام على حذف مضاف. أي ليعلم أولياء الله ، فأضاف إلى نفسه تفخيما ـ والله أعلم.

٤١٨

ثم ذكر حكمة أخرى وهي اتخاذه سبحانه منهم شهداء بقوله (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) أي وليكرم ناسا منكم بالشهادة ليكونوا مثالا لغيرهم في تضحية النفس شهادة للحق ، واستماتة دونه ، وإعلاء لكلمته ، وهو تعالى يحب الشهداء من عباده ، وقد أعدّ لهم أعلى المنازل وأفضلها ، وقد اتخذهم لنفسه ، فلا بد أن ينيلهم درجة الشهادة. وفي لفظ (الاتخاذ) المنبئ عن الاصطفاء والتقريب ، من تشريفهم وتفخيم شأنهم ما لا يخفى وقوله (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) قال ابن القيّم : تنبيه لطيف الموقع جدا على أن كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخزلوا عن نبيه يوم أحد فلم يشهدوه ، ولم يتخذ منهم شهداء ، لأنه لم يحبهم ، فأركسهم وردهم ليحرمهم ما خص به المؤمنون في ذلك اليوم ، وما أعطاه من استشهد منهم ، فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التي وفق لها أولياءه وحزبه. انتهى ـ.

فالتعريض بالمنافقين. ويحتمل أن يكون بالكفرة الذين أديل لهم ، تنبيها على أن ذلك ليس بطريق النصرة لهم ، بل لما ذكر من الفوائد العائدة إلى المؤمنين. ثم ذكر حكمة أخرى فيما أصابهم ذلك اليوم بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) (١٤١)

(وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي لينقّيهم ويخلصهم من الذنوب ومن آفات النفوس. وأيضا فإنه خلصهم ومحصهم من المنافقين ، فتميزوا منهم. فحصل لهم تمحيصان : تمحيص من نفوسهم ، وتمحيص ممن كان يظهر أنه منهم وهو عدوّ. ثم ذكر حكمة أخرى وهي محق الكافرين بقوله (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) أي يهلكهم ، فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا. فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ، إذ جرت سنة الله تعالى ، إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم ، قيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم. ومن أعظمها ، بعد كفرهم ، بغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسليط عليهم. والمحق ذهاب الشيء بالكلية حتى لا يرى منه شيء ، وقد محق الله الذي حاربوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، وأصرّوا على الكفر جميعا ، ثم أنكر تعالى عليهم حسبانهم وظنهم أنهم يدخلون الجنة بدون الجهاد في سبيله والصبر على أذى أعدائه ، وأن هذا ممتنع بحيث ينكر على من ظنه وحسبه فقال :

٤١٩

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (١٤٢)

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) أي ولما يقع ذلك منكم فيعلمه ، فإنه لو وقع لعلمه فجازاكم عليه بالجنة ، فيكون الجزاء على الواقع المعلوم ، لا على مجرد العلم ، فإن الله لا يجزي العبد على مجرد علمه فيه دون أن يقع معلومه ـ أفاده ابن القيم ـ

وفي الكشاف (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) بمعنى ولما تجاهدوا لأن العلم متعلق بالمعلوم ، فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقه ، لأنه منتف بانتفائه ، يقول الرجل : ما علم الله في فلان خيرا ، يريد ما فيه خير حتى علمه ، و (لما) بمعنى (لم) ، إلا أن فيها ضربا من التوقع ، فدل على نفي الجهاد فيما مضى ، وعلى توقعه فيما يستقبل ، وتقول : وعدني أن يفعل كذا ولما. تريد. ولما يفعل ، وأنا أتوقع فعله.

لطيفة :

قال أبو مسلم في (أَمْ حَسِبْتُمْ) : إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت. وتلخيصه : لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد ، وهو كقوله : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت : ١ ـ ٢]. وافتتح الكلام بذكر (أم) التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين ، يشك في أحدهما لا بعينه. يقولون : أزيدا ضربت أم عمرا؟ مع تيقن وقوع الضرب بأحدهما. قال : وعادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيدا ، فلما قال (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا) كأنه قال : أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر. وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة ، وأوجب الصبر على تحمل متاعبها ، وبيّن وجوه المصالح فيها في الدين وفي الدنيا ، فلما كان كذلك ، فمن البعيد أن يصل الإنسان إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه الطاعة ـ انتهى ـ.

ثم وبخهم على هزيمتهم من أمر كانوا يتمنونه ويودون لقاءه ، فقال :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (١٤٣)

(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) أي الحرب ، فإنها من مبادئه ، أو الموت على

٤٢٠