تفسير القاسمي - ج ٢

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٢

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٢

قصة (١) تحاكم اليهود إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما زنى منهم اثنان ، فحكم عليهما بالرجم ، فأبوا وقالوا : لا نجد في كتابنا إلا التحميم ، فجيء بالتوراة فوجد فيها الرجم ، فرجما ، فغضبوا فشنع عليهم بهذه الآية. والله أعلم.

قال بعض المفسرين : وللآية ثمرتان :

الأولى : أن من دعى إلى كتاب الله وإلى ما فيه من شرع وجب عليه الإجابة. وقد قال العلماء رضي الله عنهم : يستحب أن يقول سمعا وطاعة ، لقوله تعالى : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور : ٥١].

الثمرة الثانية : أن الإسلام ليس بشرط في الإحصان ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجم اليهوديين ، ونزلت الآية مقررة له. انتهى ـ أي على القول بذلك ، والله أعلم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٤)

(ذلِكَ) إشارة إلى التولي والإعراض (بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من قولهم ذلك. وفي التعبير بالغرور والافتراء إعلام بأن ما حدّثوا به أنفسهم وسهلوه عليها تعلل بباطل وتطمّع بما لا يكون. ثم رد قولهم المذكور ، وأبطل ما غرهم باستعظام ما أعدّ لهم ، وتهويله ، وأنهم يقعون فيما لا حيلة لهم في دفعه بقوله :

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : التفسير ، ٣ ـ سورة آل عمران ، ٦ ـ باب (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). ونصه : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن اليهود جاءوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا. فقال لهم «كيف تفعلون بمن زنى منكم؟» قالوا : نحممهما ونضربهما. فقال «لا تجدون في التوراة الرجم؟» فقالوا : لا نجد فيها شيئا. فقال لهم عبد الله بن سلام : كذبتم. (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). فوضع مدراسها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم. فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها. ولا يقرأ آية الرجم. فنزع يده عن آية الرجم. فقال : ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا هي آية الرجم. فأمر بهما فرجما قريبا من حيث موضع الجنائز عند المسجد. فرأيت صاحبها يجنأ عليها ، يقيها الحجارة.

٣٠١

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٥)

(فَكَيْفَ) يصنعون ، وكيف تكون حالتهم (إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ) أي في يوم (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك ، وهو يوم القيامة (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي جزاء ما عملت من خير أو شر (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الضمير لكل نفس على المعنى. لأنه في معني كل إنسان. أي لا يظلمون بزيادة عذاب ، أو بنقص ثواب. ثم علّم تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف يدعوه ويمجده بقوله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٦)

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) أي مالك جنس الملك على الإطلاق ملكا حقيقيا بحيث تتصرف فيه كيفما تشاء. إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة. وتعذيبا وإثابة. من غير مشارك ولا ممانع (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) بيان لبعض وجوه التصرف الذي تستدعيه مالكية الملك ، وتحقيق لاختصاصها به تعالى حقيقة ، وكون مالكية غيره بطريق المجاز ، كما ينبئ عنه إيثار (الإيتاء) الذي هو مجرد الإعطاء على (التمليك) المؤذن بثبوت المالكية حقيقة ـ أفاده أبو السعود ـ وفي التعبير ب (من) العامة للعقلاء إشعار بمنال الملك من لم يكن من أهله ، وأخص الناس بالبعد منه العرب ، ففيه إشعار بأن الله ينوّل ملك فارس والروم العرب ، كما وقع منه ما وقع ، وينتهي منه ما بقي ، إلى من نال الملك بسببها وعن الاستناد إليها ، من سائر الأمم الذي دخلوا في هذه الأمة من قبائل الأعاجم ، وصنوف أهل الأقطار ، حتى ينتهي الأمر إلى أن يسلب الله الملك جميع أهل الأرض بظهور ملك يوم الدين ـ كذا في البقاعيّ ـ (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢٧)

٣٠٢

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي تدخل أحدهما في الآخر ، إما بالتعقيب أو بالزيادة والنقص (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) كالحيوان من النطف والنطف منه ، والبيض من الطير وعكسه. وقيل : إخراج المؤمن من الكافر وبالعكس. قال القفال : والكلمة محتملة للكل ، أما الكفر والإيمان فقال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١٢٢]. يريد كان كافرا فهديناه ، فجعل الموت كفرا والحياة إيمانا ، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء ، وجعلها قبل ذلك ميتة ، فقال : (يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [الروم : ٥٠]. وقال : (فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [فاطر : ٩]. وقال : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : ٢٨]. (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي رزقا واسعا غير محدود.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٢٨)

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) جمع وليّ ، ومعانيه كثيرة ، منها المحب والصديق والنصير. قال الزمخشريّ : نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر. وقد كرر ذلك في القرآن : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة : ٥١]. (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) [المائدة : ٥١]. (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ...) [المجادلة : ٢٢] الآية ، ـ والمحبة في الله ، والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان. وقوله تعالى : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) حال. أي متجاوزين المؤمنين إليهم استقلالا أو اشتراكا ، وفيه إشارة إلى أنهم الأحقاء بالموالاة وأن في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) أي ومن يوال الكفرة فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية ، يعني أنه منسلخ من ولاية الله رأسا. وهذا أمر معقول ، فإن موالاة الوليّ وموالاة عدوه متنافيان ، قال :

تود عدوّي ثم تزعم أنني

صديقك. ليس النوك عنك بعازب

 ـ أفاده الزمخشريّ ـ (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) أي تخافوا منهم محذورا ،

٣٠٣

فأظهروا معهم الموالاة باللسان دون القلب لدفعه ، كما قال البخاريّ عن أبي الدرداء أنه قال (١) : إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم. وأصل (تُقاةً) وقية ، ثم أبدلت الواو تاء ، كتخمة وتهمة وقلبت الياء ألفا. وفي المحكم : تقاة يجوز أن يكون مصدرا وأن يكون جمعا ، والمصدر أجود ، لأن في القراءة الأخرى : تقية.

تنبيه :

قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية الكريمة تحريم موالاة الكفار ، لأن الله تعالى نهى عنها بقوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) ، ثم استثنى تعالى (التقية) فرخص في موالاتهم لأجلها. فتجوز معاشرة ظاهرة ، والقلب مطمئن بالعداوة لهم والبغضاء وانتظار زوال المانع. وقد قال الحاكم : في الآية دلالة على جواز إظهار تعظيم الظلمة ، اتقاء لشرهم. قال : وإنما يحسن بالمعاريض التي ليست بكذب ، وقال الصادق : التقية واجبة ، وإني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فأستتر عنه بالسارية لئلا يراني. وعن الحسن : تقية باللسان ، والقلب مطمئن بالإيمان.

واعلم أن الموالاة ، التي هي المباطنة والمشاورة وإفضاء الأسرار للكفار ، لا تجوز ، فإن قيل : قد جوز كثير من العلماء نكاح الكافرة ، وفي ذلك من الخلطة والمباطنة بالمرأة ما ليس بخاف ، فجواب ذلك : أن المراد موالاتهم في أمر الدين ، وفيما فيه تعظيم لهم. فإن قيل. في سبب نزول الآية أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم منع عبادة بن الصامت عن الاستعانة باليهود على قريش ، وقد حالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهود على حرب قريش ، وفي هذا دلالة على جواز الاستعانة بهم ، وقد ذكر الراضي بالله أنه يجوز الاستعانة بالفسّاق على حرب المبطلين. قال : وقد حالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهود على حرب قريش وغيرها إلى أن نقضوه يوم الأحزاب. وحدّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحلف بينه وبين خزاعة. قال الراضي بالله : وهو ظاهر عن آبائنا عليهم‌السلام ، وقد استعان عليّ عليه‌السلام بقتلة عثمان. ولعل الجواب ـ والله أعلم ـ أن الاستعانة جائزة مع الحاجة إليها. ويحمل على هذا استعانة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لليهود. وممنوعة مع عدم الحاجة ، أو خشية مضرة منهم. وعليه يحمل حديث عبادة بن الصامت. فصارت الموالاة المحظورة

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الأدب ، ٨٢ ـ باب المداراة مع الناس ونصه : ويذكر عن أبي الدرداء : إنا لنكشر في وجوه قوم ، وإن قلوبنا لتلعنهم.

٣٠٤

تكون بالمعاداة بالقلب للمؤمنين والمودة للكفار على كفرهم ، ولا لبس في تحريم ذلك ، ولا يدخله استثناء والموالاة بإظهار التعظيم وحسن المخاللة والمصادقة بإظهار الأسرار ونحو ذلك ، فلا لبس في تحريم ذلك ولا يدخله استثناء. والموالاة بإظهار التعظيم وحسن المخاللة والمشاورة فيما لا يضر المسلمين ، فظاهر كلام الزمخشريّ أنه لا يجوز إلا للتقية. فحصل من هذا أن الموالي للكافر والفاسق عاص ، ولكن أين تبلغ معصيته؟ يحتاج إلى تفصيل : إن كانت الموالاة بمعنى الموادة ، وهي أن يوده لمعصيته كان ذلك كالرضا بالمعصية. وإن كانت الموالاة كفرا. كفر. وإن كانت فسقا ، فسق. وإن كانت لا توجب كفرا ولا فسقا ، لم يكفر ولم يفسق. وإن كانت الموالاة بمعنى المحالفة والمناصرة ، فإن كانت محالفة على أمر مباح أو واجب ، كأن يدفع المؤمنون عن أهل الذمة من يتعرض لهم. ويخالفونهم على ذلك ، فهذا لا حرج فيه بل هو واجب. وإن كانت على أمر محظور كأن يحالفوهم على أخذ أموال المسلمين والتحكم عليهم ، فهذه معصية بلا إشكال ، وكذلك إذا كانت بمعنى أنه يظهر سر المسلمين ويحبّ سلامة الكافرين لا لكفرهم بل ليد لهم عليه أو لقرابة أو نحو ذلك ، فهذا معصية بلا إشكال. لكن لا تبلغ حدها الكفر لأنه لم يرو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكم بكفر حاطب بن أبي بلتعة.

وقال الراضي بالله : إن مناصرة الكفار على المسلمين توجب الكفر. لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للعباس : ظاهرك علينا. وقد اعتذر بأنه خرج مكرها. وأما مجرد الإحسان إلى الكافر فجائز لا ليستعين به على المسلمين ، ولا لإيناسه. وكذلك أن يضيق لضيقه في قضية معينة لأمر مباح فجائز ، كما كان من ضيق المسلمين من غلب فارس الروم. فصار تحقيق المذهب أن الذي يوجب الكفر من الموالاة أن يحصل من الموالي الرضا بالكفر. والذي يوجب الفسق أن يحصل الرضا بالفسق. إن قيل : فما حكم من يجند مع الظلمة ليستعينوا به على الجبايات وأنواع الظلم؟ قلنا : عاص بلا إشكال ، وفاسق بلا إشكال لأنه صار من جملتهم. وفسقهم معلوم. فإن قيل : فإن تجند معهم لحرب إمام المسلمين؟ قلنا : صار باغيا ، وحصل فسقه من جهة البغي والظلم. فإن قيل : حكي عن المهديّ عليّ بن محمد عليه‌السلام أنه كفّر من تجند مع سلطان اليمن وقضى بردته ، قلنا : هذا يحتاج إلى بيان وجه التكفير بدليل قطعيّ ، وإن ساغ أن نقول ذلك اصطلاح لأمر الإمام كما رد الهادي عليه‌السلام شهادة من امتنع من بيعة الإمام كان ذلك محتملا ـ انتهى كلامه رحمه‌الله.

ومن هذه الآية استنبط الأئمة مشروعية التقية عند الخوف ، وقد نقل الإجماع

٣٠٥

على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه (إيثار الحق على الخلق) فقال ما نصه :

وزاد الحق غموضا وخفاء أمران :

أحدهما : خوف العارفين ، مع قلتهم ، من علماء السوء وسلاطين الجور ، وشياطين الخلق ، مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن وإجماع أهل الإسلام. وما زال الخوف مانعا من إظهار الحق ، ولا برح المحق عدوّا لأكثر الخلق. وقد صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في ذلك العصر الأول : حفظت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) وعاءين فأما أحدهما فبثثته في الناس ، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. وما زال الأمر في ذلك يتفاحش. وقد صرح الغزاليّ بذلك في خطبة (المقصد الأسنى) ولوّح بمخالفته أصحابه فيها كما صرح بذلك في شرح (الرحمن الرحيم) فأثبت حكمة الله ورحمته ، وجوّد الكلام في ذلك ، وظن أنهم لا يفهمون المخالفة ، لأن شرح هذين الاسمين ليس هو موضع هذه المسألة ، ولذلك طوى ذلك ، وأضرب عنه في موضعه ، وهو اسم الضار كما يعرف ذلك أذكياء النظار.

وأشار إلى التقية الجوينيّ في مقدمات (البرهان) في مسألة قدم القرآن. والرازيّ في كتابه المسمّى (بالأربعين في أصول الدين) ـ إلى آخر ما ساقه المرتضى فانظره.

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أي ذاته المقدسة ، فلا تتعرضوا لسخطه بمخالفة أحكامه ، وموالاة أعدائه ، وهو تهديد عظيم مشعر بتناهي المنهيّ في القبح. وذكر النفس ، ليعلم أن المحذر منه عقاب يصدر منه تعالى ، فلا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي المنقلب والمرجع ليجازي كل عامل بعمله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٩)

(قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) هذا توعد. وأراد إخفاء مودة الكفار وموالاتهم

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : العلم ، ٤٢ ـ باب حفظ العلم ، حديث ١٠٣.

٣٠٦

وإظهارها. أو تكذيب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أو الكفر. وفي هذه الآية تنبيه منه تعالى لعباده على خوفه وخشيته لئلا يرتكبوا ما نهى عنه ، فإنه عالم بجميع أمورهم وقادر على معاجلتهم بالعقوبة ، وإن أنظر من أنظر منهم فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر ، ولهذا قال بعد هذا :

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣٠)

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) بصور تناسبه ، أو في صحف الملائكة ، أو المعنى جزاء ما عملت (وَ) تجد (ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ) أي عملها السوء (أَمَداً بَعِيداً) أي غاية بعيدة لا يصل أحدهما إلى الآخر ، و (تود) في موضع الحال. والتقدير : وتجد ما عملت من سوء محضرا ، وادّة ذلك (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) كرره ليكون على بال منهم لا يغفلون عنه كذا في الكشاف ـ.

وقال أبو السعود : تكرير لما سبق وإعادة له ، لكن لا للتأكيد فقط ، بل لإفادة ما يفيده قوله عزوجل (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) من أن تحذيره تعالى من رأفته بهم ، ورحمته الواسعة ، أو أن رأفته بهم لا تمنع تحقيق ما حذرهموه من عقابه ، وأن تحذيره ليس مبنيّا على تناسي صفة الرأفة ، بل هو متحقق مع تحققها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣١)

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال ابن كثير : هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله ، وليس هو على الطريقة المحمدية ، فإنه كاذب في دعواه تلك ، حتى يتبع الشرع المحمديّ في جميع أقواله وأفعاله ، كما ثبت في الصحيح (١) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : من

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الاعتصام ، ٢٠ ـ باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول من غير علم فحكمه مردود ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ....

٣٠٧

عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٣٢)

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن الطاعة (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣٣)

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى) أي اختار بالنبوة (آدَمَ) فخلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وعلمه أسماء كل شيء ، وأسكنه الجنة ، ثم أهبطه منها لما له في ذلك من الحكمة (وَ) اصطفى (نُوحاً) فجعله أول رسول إلى أهل الأرض ، لما عبد الناس الأوثان وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ونجى من اتبعه في السفينة وأغرق من عصاه (وَ) اصطفى (آلَ إِبْراهِيمَ) أي عشيرته وذوي قرباه ، وهم إسماعيل وإسحاق والأنبياء من أولادهما الذين من جملتهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما اصطفاء نفسه عليه الصلاة والسلام فمفهوم من اصطفائهم بطريق الأولوية. وعدم التصريح به للإيذان بالغنى عنه لكمال شهرة أمره في الخلة ، وكونه إمام الأنبياء وقدوة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وكون اصطفاء آله بدعوته بقوله : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩] ، ـ الآية ـ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : أنا دعوة أبي إبراهيم (وَ) اصطفى (آلَ عِمْرانَ) إذ جعل فيهم عيسى عليه الصلاة والسلام الذي أوتي البينات وأيد بروح القدس ، والمراد بعمران هذا والد مريم أم عيسى عليهما‌السلام (عَلَى الْعالَمِينَ) أي عالمي زمانهم. أي اصطفى كل واحد منهم على عالمي زمانه. قال السيوطيّ في (الإكليل) : يستدل بهذه الآية على تفضيل الأنبياء على الملائكة لدخولهم في العالمين.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٣٤)

(ذُرِّيَّةً) أي نسلا. نصب على البدلية من الآلين ، أو على الحالية منهما.

٣٠٨

لطيفة :

الذرية مثلثة ، ولم تسمع إلا غير مهموزة. اسم لنسل الثقلين. وقد تطلق على الآباء والأصول أيضا. قال الله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [يس : ٤١].

قال الصاغانيّ : وفي اشتقاقها وجهان : أحدهما أنها من الذرء ووزنها فعولة أو فعيلة ، والثاني : أنها من الذرّ بمعنى التفريق لأن الله ذرهم في الأرض ووزنها فعلية أو فعولة أيضا. وأصلها ذرورة فقلبت الراء الثالثة ياء كما في تقضت العقاب. كذا في القاموس وشرحه.

(بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) في محل النصب على أنه صفة لذرية. أي اصطفى الآلين حال كونهم ذرية متسلسلة البعض من البعض في وراثة الاصطفاء (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوال العباد (عَلِيمٌ) بضمائرهم وأفعالهم. وإنما يصطفي من خلقه من يعلم استقامته قولا وفعلا. ونظيره قوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤]. وقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) [الأنبياء : ٩٠].

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٣٥)

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) في حيز النصب على المفعولية ، بفعل مقدر على طريقة الاستئناف لتقرير اصطفاء آل عمران ، وبيان كيفيته. أي اذكر لهم وقت قولها إلخ. وامرأة عمران هذه هي أم مريم عليها‌السلام.

فائدة :

قال العلامة النوريّ في (غبث النفع) : (امرأت عمران) رسمت بالتاء ، وكل ما في كتاب الله جلّ ذكره من لفظ (امرأة) فبالهاء. سبعة مواضع ، هذا الأول ، والثاني والثالث بيوسف (امرأت العزيز تراود) (امرأت العزيز الآن) والرابع بالقصص (امرأت فرعون) الخامس والسادس والسابع بالتحريم (امرأت نوح وامرأت لوط وامرأت فرعون) فلو وقف عليها ، فالمكيّ والنحويان يقفون بالهاء ، والباقون بالتاء ـ انتهى.

٣٠٩

(رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) أي مخلصا للعبادة (عن الشعبيّ) أو خادما يخدم في متعبداتك ، حرره جعله نذيرا في خدمة المعبد ما عاش ، لا يسعه تركه في دينه (عن الزجاج). وفي الآية دلالة على صحة نذر الأم بولدها ، وأن للأم الانتفاع بالولد الصغير لمنافع نفسها ، لذلك جعلته للغير. والمعنى : نذرته وقفا على طاعتك ، لا أشغله بشيء من أموري. قال أبو منصور في (التأويلات) : جعلت ما في بطنها لله خالصا لم تطلب منه الاستئناس به ولا ما يطمع الناس من أولادهم ، وذلك من الصفوة التي ذكر عزوجل. وهكذا الواجب على كل أحد إذا طلب ولدا أن يطلب للوجه الذي طلبت امرأة عمران وزكريا حيث قال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) [آل عمران : ٣٨] ، وما سأل إبراهيم (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات : ١٠٠] ، وكقوله : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) [الفرقان : ٧٤] ، هكذا الواجب أن يطلب الولد ، لا ما يطلبون من الاستئناس والاستنصار والاستعانة بأمر المعاش بهم ـ انتهى ـ. (فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي تقبل مني قرباني وما جعلت لك خالصا ، والتقبل أخذ الشيء على وجه الرضا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٣٦)

(فَلَمَّا وَضَعَتْها) الضمير لما في بطني ، وإنما أنث على المعنى ، لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله ، أو على تأويل النفس أو النسمة (قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) أي وكنت رجوت أن يكون ذكرا ، وإنما تحسرت أو اعتذرت إذ جهلت قدرها (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) قرئ في السبع بسكون التاء وضمها ، فعلى القراءة الأولى تكون الجملة المعترضة من كلامه تعالى إما لدفع ما يتراءى من أن قولها (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) قصدت بها إعلام الله تعالى عن أن يحتاج إلى إعلامها ، فأزيلت الشبهة بقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) هذا ما يتراءى لي. وإما لما ذكروه من أن الاعتراض تعظيم من جهته تعالى لموضوعها ، وتفخيم لشأنه ، وتجهيل لها بقدره ، أي والله أعلم بالنفس التي وضعتها ، وما علق بها من عظائم الأمور ، وجعلها وابنها آية للعالمين ، وهي غافلة عن ذلك. وعلى القراءة الثانية أعني ضم التاء ، فالاعتراض من كلامها. إما للوجه الأول من الوجهين السابقين كما استظهرته ، أو لما ذكروه من

٣١٠

قصد الاعتذار إلى الله تعالى حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته ، أو تسلية نفسها على معنى : لعل لله تعالى فيه سرّا وحكمة ، ولعل هذه الأنثى خير من الذكر (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) جملة معترضة أيضا ، إما من كلامه تعالى قصد به معذرتها في التحسر والتحزن ببيان فضل الذكر على الأنثى ، ولذا جبلت النفوس على الرغبة فيه دونها لا سيما في هذا المقام أعني مقام قصد إخلاص النذير للعبادة. فإن الذكر يفضلها من وجوه منها : أن الذكر يصح أن يستمر على خدمة موضع العبادة ولا يصح ذلك في الأنثى لمكان الحيض فيه وسائر عوارض النسوان. ومنها : أن الذكر يصلح لقوّته وشدته للخدمة دون الأنثى فإنها ضعيفة لا تقوى على الخدمة. ومنها : أن الذكر لا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس وليس كذلك الأنثى. ومنها : أن الذكر لا يلحقه من التهمة عند الاختلاط ما يلحق الأنثى. فهذه الوجوه تقتضي فضل الذكر على الأنثى في هذا المقام. واللام في (الذكر والأنثى) على هذا الملحظ ، للجنس ـ كذا ظهر لي ـ وعلى قولهم اللام للعهد فيهما أي ليس الذكر الذي طلبته وتخيلت فيه كمالا ، قصاراه أن يكون كواحد من الأحبار ، كالأنثى التي وهبت لها. فإن دائرة علمها وأمنيتها لا تكاد تحيط بما فيها من جلائل الأمور. هذا ، وإما أن تكون هذه الجملة من كلامها ، والقصد حينئذ تأكيد الاعتذار ببيان أن الذكر ليس كالأنثى في الفضيلة والمزية ، وصلاحية خدمة المتعبدات ، فإنهنّ بمعزل عن ذلك ، فاللام للجنس.

لطيفة :

قيل : قياس كونه من قولها أن يكون (وليست الأنثى كالذكر) فإن مقصودها تنقيص الأنثى بالنسبة إلى الذكر. والعادة في مثله أن ينفي عن الناقص شبهة بالكامل ، لا العكس. قال الناصر في (الانتصاف) وقد وجد الأمر في ذلك مختلفا فلم يثبت عين ما قيل. ألا ترى إلى قوله تعالى : (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) [الأحزاب : ٣٢] ، فنفى عن الكامل شبه الناقص ، مع أن الكمال لأزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثابت بالنسبة إلى عموم النساء ، وعلى ذلك جاءت عبارة امرأة عمران ، والله أعلم. ومنه أيضا : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل : ١٧]. انتهى.

(وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) قال المفسرون : هي في لغتهم بمعنى العابدة ، سمتها بذلك رجاء وتفاؤلا أن يكون فعلها مطابقا لاسمها. لكن رأيت في تأويل الأسماء الموجودة في التوراة والإنجيل أن مريم معناه مرارة أو مر البحر. فلينظر. قال السيوطيّ

٣١١

في (الإكليل) : في الآية دليل على جواز تسمية الأطفال يوم الولادة وأنه لا يتعين يوم السابع. ، لأنه إنما قالت هذا بأثر الوضع ، كما فيها مشروعية التسمية للأم ، وأنها لا تختص بالأب. ثم طلبت عصمتها فقالت : (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ) أي أجيرها بحفظك (وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) أي المطرود لمخالفتك ، فلا تجعل عليها وعلى ذريتها له سلطانا يكون سببا لطردهما.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٧)

(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) أي قبلها أو تكفل بها. ولم يقل (بتقبّل) ، للجمع بين الأمرين : التقبل الذي هو الترقي في القبول ، والقبول الذي يقتضي الرضا والإثابة. قال المهايميّ : بقبول حسن يجعلها فوق كثير من الأولياء (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) بجعل ذريتها من كبار الأنبياء ـ انتهى ـ وقال الزمخشريّ : نباتها مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها ، أي كالصلاح والسداد والعفة والطاعة (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) أي ضمها إليه ، وقرئ بالتشديد. ونصب زكريا ممدودا أو مقصورا والفاعل الله. أي جعله كافلا لها وضامنا لمصالحها ، وقائما بتدبير أمورها. وقد روي أن أمها أخذتها وحملتها إلى المسجد ، ووضعتها عند الأحبار وقالت : دونكم هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها إذ كانت بنت إمامهم ، وصاحب قربانهم ، وأحبّ كلّ أن يحظى بتربيتها ، فقال لهم زكريا : أنا أحق بها. عندي خالتها ، فأبوا إلا القرعة ، وانطلقوا إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم ، على أن ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها ، فطفا قلم زكريا ، ورسبت أقلامهم ، وإليه الإشارة بقوله تعالى في آية أخرى : (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) [آل عمران : ٤٤]. فأخذها زكريا وربّاها في حجر خالتها ، حتى إذا نشأت وبلغت مبالغ النساء ، انزوت في محرابها تتعبد فيه وصارت بحيث (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

في الآية مسائل :

الأولى ـ في معنى المحراب : في القاموس وشرحه ما نصه : والمحراب : الغرفة

٣١٢

والموضع العالي ، نقله الهرويّ في غريبه عن الأصمعيّ ، قال وضاح اليمن :

ربة محراب إذا جئتها

لم ألقها أو أرتقي سلّما

وقال أبو عبيدة : المحراب سيد المجالس ومقدمها وأشرفها. قال : وكذلك هو من المساجد وعن الأصمعيّ : العرب تسمي القصر محرابا لشرفه. وقال الأزهريّ : المحراب عند العامة الذي يفهمه الناس مقام الإمام من المسجد. قال ابن الأنباريّ : سمي محراب المسجد لانفراد الإمام فيه ، وبعده من القوم. ومنه يقال : فلان حرب لفلان إذا كان بينهما بعد وتباغض. وفي المصباح : ويقال هو مأخوذ من المحاربة لأن المصلي يحارب الشيطان ويحارب نفسه بإحضار قلبه ، ثم قال : ومحاريب بني إسرائيل هي مساجدهم التي كانوا يجلسون فيها. انتهى.

الثانية ـ في الآية دليل على وقوع الكرامة لأولياء الله تعالى ، كما وجد ، عند خبيب (١) بن عديّ الأنصاري رضي الله عنه المستشهد بمكة ، قطف عنب. كما في البخاريّ. وفي الكتاب والسنة لهذا نظائر كثيرة ، ومن اللطائف هنا ما نقله الإمام الشعرانيّ في (اليواقيت) عن العارف أبي الحسن الشاذليّ قدس‌سره أنه قال : إن مريم عليها‌السلام كان يتعرف إليها في بدايتها بخرق العوائد بغير سبب تقوية لإيمانها وتكميلا ليقينها ، فكانت كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا. فلما قوي إيمانها ويقينها ردت إلى السبب لعدم وقوفها معه ، فقيل لها : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) ، انتهى.

الثالثة ـ قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ) إلخ تعليل لكونه من عند الله. إما من تمام كلامها فيكون في محل نصب. وإما من كلامه عزوجل فهو مستأنف. ومعنى (بغير حساب) أي بغير تقدير لكثرته. وإما بغير استحقاق تفضلا منه تعالى.

الرابعة ـ زكريا المنوه به هنا هو والد يحيى عليهما‌السلام. ومعنى زكريا تذكار الرب كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) (٣٨)

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الجهاد ، ١٧٠ ـ باب هل يستأسر الرجل.

٣١٣

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) كلام مستأنف ، وقصة مستقلة ، سيقت في تضاعيف حكاية مريم. لما بينهما من قوة الارتباط ، وشدة الاشتباك ، مع ما في إيرادها من تقرير ما سيقت له حكايتها من بان اصطفاء آل عمران. فإن فضائل بعض الأقرباء أدلة على فضائل الآخرين. وهنا ظرف مكان ، أي في ذلك المكان ، حيث هو عند مريم في المحراب ، أو ظرف زمان أي في ذلك الوقت ، إذ يستعار (هنا وثمت وحيث) للزمان ، دعا زكريا ربه لما رأى كرامة مريم على الله ومنزلتها منه تعالى رغب في أن يكون له من زوجته ولد مثل ولد أختها في النجابة والكرامة على الله تعالى. وإن كانت عاقرا عجوزا ـ كذا في أبي السعود ـ والذرية هنا الولد ، قال الزمخشريّ : تقع على الواحد والجمع ، وقد سبق الكلام عليها قريبا عند قوله تعالى (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) قوله (طَيِّبَةً) بمعنى مطيعة لك ، لأن ذلك طلبة أهل الخصوص كما سبق إيضاحه في آية (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ....) إلخ. وقوله تعالى (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) أي مجيبه ، وقد أجابه الحق تعالى ، فأرسل إليه الملائكة مبشرة كما قال تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (٣٩)

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ) أي على ألسنتنا (بِيَحْيى) وقد قرئ في السبع بكسر إن وفتحها ، ولفظ (يحيى) معرّب عن (يوحنا) اسمه في العبرانية. ومعنى يوحنا نعمة الرب. كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) أي بنبيّ خلق بكلمة (كن) من غير أب. يرسله الله إلى عباده فيصدقه هو. وذلك عيسى عليه‌السلام (وَسَيِّداً) أي يسود قومه ويفوقهم (وَحَصُوراً) أي لا يقرب النساء حصرا لنفسه أي منعا لها عن الشهوات عفة وزهدا واجتهادا في الطاعة (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ناشئا منهم لأنه من أصلابهم. أو كائنا من جملتهم. كقوله : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [البقرة : ١٣٠]. ولما تحقق زكريا عليه‌السلام هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر.

٣١٤

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (٤٠)

(قالَ رَبِّ أَنَّى) أي كيف أو من أين (يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) أي أدركني الكبر الكامل المانع من الولادة فأضعفني (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) أي ذات عقر ، فهو على النسب ، وهو في المعنى مفعول أي معقورة ، ولذلك لم يلحق تاء التأنيث (قالَ كَذلِكَ) يكون لك الولد على الحال التي أنت وزوجتك عليها لأن الله تعالى لا يحتاج إلى سبب بل (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر. وفي إعراب (كَذلِكَ) أوجه. منها : أنه خبر لمحذوف أي الأمر كذلك. وقوله تعالى : (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) بيان له. ومنها أن الكاف في محل النصب على أنها في الأصل نعت لمصدر محذوف. أي الله يفعل ما يشاء فعلا من ذلك الصنع العجيب الذي هو خلق الولد من شيخ فان وعجوز عاقر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٤١)

(قالَ) زكريا (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي علامة أعرف بها حصول الحمل. وإنما سألها لكون العلوق أمرا خفيّا لا يوقف عليه. فأراد أن يعلمه الله به من أوله ليتلقى تلك النعمة بالشكر من أولها ولا يؤخره إلى أن يظهر ظهورا معتادا (قالَ) الله تعالى (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) أي أن لا تقدر على تكليمهم (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) أي إشارة بيد أو رأس. وإما جعلت آيته ذلك لتخليص المدة لذكره تعالى شكرا على ما أنعم به عليه. وقيل : كان ذلك عقوبة منه تعالى بسبب سؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه ـ حكاه القرطبيّ عن أكثر المفسرين ـ (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) أي ذكرا كثيرا (وَسَبِّحْ) أي وسبحه (بِالْعَشِيِ) وهو آخر النهار. ويقع العشي أيضا على ما بين الزوال والغروب (وَالْإِبْكارِ) وهو الغدوة أو من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس. قال السيوطيّ في (الإكليل) : في الآية الحث على ذكر الله تعالى وهو من شعب الإيمان. قال محمد بن كعب : لو رخص الله لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا لأنه منعه من الكلام وأمره بالذكر ـ أخرجه ابن أبي حاتم ـ.

٣١٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (٤٢)

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ) شروع في تتمة فضائل آل عمران. قال المهايميّ : فيه إشارة إلى جواز تكليم الملائكة الوليّ ، ويفارق النبيّ في دعوى النبوة (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) بالتقريب والمحبة (وَطَهَّرَكِ) عن الرذائل ليدوم انجذابك إليه (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) بالتفضيل وبما أظهره من قدرته العظيمة حيث خلق منك ولدا من غير أب ، ولم يكن ذلك لأحد من النساء. وفي (الإكليل) : استدل بهذه الآية من قال بنبوة مريم. كما استدل بها من فضلها على بنات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأزواجه. وجوابه : أن المراد عالمي زمانها ـ قاله السدّيّ ـ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣)

(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أي اعبديه شكرا على اصطفائه (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي لتزدادي بكثرة السجود والصلاة قربا. قال البقاعيّ : الظاهر أن المراد بالسجود هنا ظاهره ، وبالركوع الصلاة نفسها ، فكأنه قيل : واسجدي مصلية ، ولتكن صلاتك مع المصلين ، أي في جماعة ، فإنك في عداد الرجال لما خصصت به من الكمال. ثم قال : وإنما قلت هذا لأني تتبعت التوراة فلم أره ذكر فيها الركوع في صلاة إبراهيم ولا من بعده من الأنبياء عليهم‌السلام ، ولا أتباعهم إلا في موضع واحد ، لا يحسن جعله فيه على ظاهره. ورأيته ذكر الصلاة فيها على ثلاثة أنحاء : الأول ـ إطلاق لفظها من غير بيان كيفية ، والثاني ـ إطلاق لفظ السجود مجردا ، والثالث ـ إطلاقه مقرونا بركوع أو حبو أو خرور على الوجه. ونحو ذلك. ثم ساق البقاعيّ ما وقع من النصوص في ذلك. وقال بعد : فالذي فهمته من هذه الأماكن وغيرها أن الصلاة عندهم تطلق على الدعاء وعلى فعل هو مجرد السجود ، فإن ذكر معه ما يدل على وضع الوجه على الأرض فذاك ، وحينئذ يسمى صلاة. وإلا كان المراد به مطلق الانحناء للتعظيم. وذلك موافق للغة ، قال في القاموس : سجد خضع ، والخضوع التطامن ، وأما المكان الذي ذكر فيه الركوع فالظاهر أن معناه فعل الشعب كله ساجدا لله ، لأن الركوع يطلق في اللغة على معان ، منها الصلاة يقال : ركع أي صلى ،

٣١٦

وركع إذا انحنى كثيرا ، ولا يصح حمل الركوع على ظاهره لأنه لا يمكن في حال السجود ، وإن ارتكب فيه تأويل لم يكن تأويل مما ذكرته في الركوع ـ والله أعلم ـ واحتججت باللغة لأن مترجم نسخة التوراة ، التي وقعت لي ، في عداد البلغاء ، يعرف ذلك من تأمل مواقع ترجمته لها. على أن سألت عن صلاة اليهود الآن فأخبرت أنه ليس فيها ركوع ، ثم رأيت البغويّ صرح في قوله تعالى (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة : ٤٣]. بأن صلاتهم لا ركوع فيها ، وكذا ابن عطية وغيرهما. انتهى كلام البقاعيّ.

لطيفة :

قال السيوطيّ في (الإكليل) : في الآية دليل على أن الجماعة مطلوبة في الصلاة ، وعلى أن المرأة تندب لها الجماعة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٤٤)

(ذلِكَ) إشارة إلى ما سبق (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي الأنباء المغيبة عنك (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) مطابقا لما في كتابهم. وتذكير الضمير في (نُوحِيهِ) بجعل مرجعه ذلك (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) أي وما كنت معاينا لفعلهم وما جرى من أمرهم في شأن مريم إذ يلقون أقلامهم أي سهامهم التي جعلوا عليها علامات يعرف بها من يكفل مريم على جهة القرعة (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) بسببها تنافسا في كفالتها وقد روي عن قتادة وغيره أنهم ذهبوا إلى نهر الأردنّ واقترعوا هنالك على أن يلقوا أقلامهم. فأيهم ثبت في جرية الماء فهو كافلها. فألقوا أقلامهم ، فاحتملها الماء إلا قلم زكريا ، فإنه ثبت ، ويقال إنه ذهب صاعدا يشق جرية الماء ـ والله أعلم. قال أبو مسلم : معنى يلقون أقلامهم ، مما كانت الأمم تفعله من المساهمة عند التنازع فيطرحون منها ما يكتبون عليها أسماءهم ، فمن خرج له السهم سلم له الأمر ، وقد قال الله تعالى : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) [الصافات : ١٤١] ، وهو شبيه بأمر القداح التي تتقاسم بها العرب لحم الجزور. وإنما سميت هذه السهام أقلاما لأنها تقلم وتبرى ، وكل ما قطعت منه شيئا بعد شيء فقد قلمته ، ولهذا السبب يسمى ما يكتب به قلما. وقال السيوطيّ في (الإكليل) : هذه

٣١٧

الآية أصل في استعمال القرعة عند التنازع. وقال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية أنه يجوز التخاصم لطلب الفضل حتى يتميز واحد بمزية ، ودلت على أن التمييز يحصل بالقرعة في الأمر الملبس.

لطيفة :

قال الزمخشريّ : فإن قلت : لم نفيت المشاهدة ، وانتفاؤها معلوم بغير شبهة ، وترك نفي استماع الأنباء من حفاظها ، وهو موهوم؟ قلت : كان معلوما عندهم علما يقينا أنه ليس من أهل السماع والقراءة ، وكانوا منكرين للوحي ، فلم يبق إلا المشاهدة ، وهي في غاية الاستبعاد والاستحالة ، فنفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي ، مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة. ونحوه : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) [القصص : ٤٤] ، (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) [القصص : ٤٦] ، (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) [يوسف : ١٠٢] ، ـ انتهى ـ وبالجملة ، فالنفي تقرير وتحقيق لكون تلك الأنباء وحيا على طريقة التهكم بمنكريه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (٤٥)

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) شروع في قصة عيسى عليه‌السلام (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) أي بمولود يحصل بكلمة منه بلا واسطة أب (اسْمُهُ) ذكّر الضمير الراجع إلى الكلمة لكونها عبارة عن مذكر. أي اسمه الذي يميزه لقبا (الْمَسِيحُ) وعلما (عِيسَى) معرب يسوع بالسين المهملة كلمة يونانية معناها (مخلّص) ويرادفها (يشوع) بالمعجمة ، إلا أنها عبرانية كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل. وفيها أن المسيح بمعنى الممسوح أو المدهون. قال البقاعيّ : وأصل هذا الوصف أنه كان في شريعتهم من مسحه الإمام بدهن القدس كان طاهرا متأهلا للملك والعلم والولايات الفاضلة مباركا ، فدل سبحانه على أن عيسى عليه‌السلام ملازم للبركة الناشئة عن المسح وإن لم يمسح. انتهى. وإنما قال (ابْنُ مَرْيَمَ) مع كون الخطاب لها ، تنبيها على أنه يولد من غير أب ، فلا ينسب إلا إلى أمه ، وبذلك فضلت على نساء العالمين (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي سيدا ومعظما فيهما (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي من الله عزوجل.

٣١٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٤٦)

(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) في محل النصب على الحال (وَكَهْلاً) عطف عليه بمعنى ويكلم الناس ، حال كونه طفلا وكهلا ، كلام الأنبياء من غير تفاوت بين الحالتين وذلك لا شك أنه غاية في المعجز. وفي ذلك بشارة ببقائه إلى أن يصير كهلا. والمهد الموضع الذي يهيأ للصبيّ ويوطأ لينام فيه. والكهل من وخطه الشيب ، أو من جاوز الثلاثين إلى الأربعين أو الخمسين. قال ابن الأعرابيّ : يقال للغلام مراهق ، ثم محتلم ، ثم يقال : تخرج وجهه ، ثم اتصلت لحيته ، ثم مجتمع ، ثم كهل ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. قال الأزهريّ : وقيل له كهل حينئذ لانتهاء شبابه وكماله قوته. وقوله تعالى (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) قال ابن جرير : يعني من عدادهم وأوليائهم. لأن أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٧)

(قالَتْ) مخاطبة لله الذي بعث إليها الملائكة (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) أي لست بذات زوج (قالَ كَذلِكِ) أي على الحالة التي أنت عليها من عدم مس البشر (اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) ولا يحتاج إلى سبب ، ولا يعجزه شيء. وصرح هاهنا بقوله (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) ولم يقل (يَفْعَلُ) كما في قصة زكريا ، لما أن الخلق المنبئ عن الإحداث للمكوّن أنسب بهذا المقام لئلا يبقى لمبطل شبهة ، وأكد ذلك بقوله :

(إِذا قَضى أَمْراً) من الأمور أي أراد شيئا كما في قوله تعالى : (إِذا أَرادَ شَيْئاً) [يس : ٨٢] (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، من غير تأخر ولا حاجة إلى سبب كقوله : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠]. أي إنما نأمر مرة واحدة لا تثنية فيها فيكون ذلك الشيء سريعا كلمح البصر. وتقدم الكلام على هذه الآية في سورة البقرة.

٣١٩

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) (٤٨)

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ) أي الكتابة أو جنس الكتب الإلهية (وَالْحِكْمَةَ) أي تهذيب الأخلاق (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) إفرادهما بالذكر على تقدير كون المراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة ، لزيادة فضلهما وإنافتهما على غيرهما.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٤٩)

(وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) منصوب بمضمر يقود إليه المعنى ، معطوف على (يعلّمه) أي ويجعله رسولا إلى جميع الإسرائيليين. وقيل : معطوف على الأحوال السابقة (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) معمول ل (رسولا) لما فيه من معنى النطق. أي رسولا ناطقا بأني قد جئتكم (بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) التنوين للتفخيم دون الوحدة لظهور تعددها ، والجار متعلق بمحذوف وقع حالا أي متلبسا ومحتجا بآية (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ) الضمير للكاف أي في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير (فَيَكُونُ طَيْراً) حقيقيا ذا حياة (بِإِذْنِ اللهِ) أي أمره ، لا باستقلال مني (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) الذي ولد أعمى (وَالْأَبْرَصَ) المبتلى بالبرص وهو بياض يظهر في البشرة لفساد مزاج. وفي (الإكليل) : هذه الآية أصل لما يقوله الأطباء : إن الأكمه الذي ولد أعمى ، والأبرص لا يمكن برؤهما كإحياء الموتى (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) لا باستقلال مني. نفيا لتوهم الألوهية ، فهذه معجزات قاهرة فعلية (وَأُنَبِّئُكُمْ) أي أخبركم (بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) مما لم أعاينه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي دلالة (لَكُمْ) على صدقي في دعوى الرسالة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مصدقين بآيات الله. وقد ذكر في الإنجيل أنه عليه‌السلام ردّ بصر أعميين في كفر ناحوم ، وأعمى في بيت صيدا ، ورجل ولد أعمى في أورشليم ، وشفى عشرة مصابين بالبرص في السامرة ، وأبرأ أبرص في كفر ناحوم ، وأقام ابن الأرملة من الموت في بلدة نايين ، وأحيا ابنة جيروس في كفر ناحوم ، والعازر في بيت عينا.

٣٢٠