تفسير القاسمي - ج ٢

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٢

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٢

أي اغفر لنا غفرانك. أو نسألك غفرانك ذنوبنا. وتقديم ذكر السمع والطاعة على طلب الغفران لما أن تقديم الوسيلة على المسؤول أدعى إلى الإجابة والقبول (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي الرجوع بالموت والبعث لا إلى غيرك ، وهو تذييل لما قبله مقرر للحاجة إلى المغفرة. لما أن الرجوع للحساب والجزاء.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٢٨٦)

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي لا يحملها إلا ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه.

قال الرازيّ : يحتمل أن يكون هذا ابتداء خبر من الله. ويحتمل أن يكون حكاية عن الرسول والمؤمنين بأنهم قالوا : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها). على نسق الكلام في قوله : (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا). وقالوا : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

ويؤيد ذلك ما أردفه من قوله : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا). فكأنه تعالى حكى عنهم طريقتهم في التمسك بالإيمان والعمل الصالح. وحكى عنهم في جملة ذلك أنهم وصفوا ربهم بأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها.

ثم قال الرازيّ : في كيفية النظم : إن قلنا : إن هذا من كلام المؤمنين ، فوجه النظم أنهم لما قالوا : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) فكأنهم قالوا : كيف لا نسمع ولا نطيع وأنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا. فإذا كان هو تعالى ، بحكم الرحمة الإلهية ، لا يطالبنا إلا بالشيء السهل الهيّن ، فكذلك نحن بحكم العبودية وجب أن نكون سامعين مطيعين. وإن قلنا : إن هذا من كلام الله تعالى ، فوجه النظم أنهم لما قالوا : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) ثم قالوا بعده : (غُفْرانَكَ رَبَّنا) ، دلّ ذلك على أن قولهم : (غُفْرانَكَ) ، طلب للمغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التقصير منهم على سبيل العمد. فلما كان قولهم (غفرانك) طلبا للمغفرة في ذلك التقصير ، لا جرم خفف الله تعالى ذلك عنهم. وقال : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها). والمعنى : أنكم إذا سمعتم وأطعتم ، وما تعمدتم التقصير ، فعند ذلك لو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة فلا تكونوا خائفين منه. فإن الله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا

٢٤١

وُسْعَها). وبالجملة فهذا إجابة لهم في دعائهم في قولهم : غفرانك ربنا.

قال زين العابدين بير محمد دره في (المدحة الكبرى) : وعلى احتمال أن يكون قوله (لا يُكَلِّفُ اللهُ ..) إلخ حكاية ، فهو من قبيل العطف بلا عاطف. أو الكلام على تقدير قالوا. قال بعضهم : ولك أن تجعل (لا يُكَلِّفُ اللهُ ...) إلخ في حيز القول. وأن يكون حكاية للأقوال المتفرقة غير المعطوفة بعضها على بعض للمؤمنين. يكون مدحا لهم بأنهم شاكرون لله تعالى في تكليفه. حيث يرونه بأنه لم يخرج عن وسعهم. وبأنهم يرون أن الله تعالى لا ينتفع بعملهم الخير ، بل هو لهم. ولا يتضرر بعملهم الشرّ ، بل هو عليهم.

وقال البقاعيّ : وهذا الكلام من جملة دعائهم على وجه الثناء طلبا للوفاء بما أخبرهم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه سبحانه من ذلك ، خوفا من أن يكلفوا بما لله تعالى أن يكلف به من المؤاخذة بالوساوس. لأنه مما تخفيه النفوس ولا طاقة على دفعه.

ولعل العدول عن الخطاب إلى الغيبة بذكر الإسم الأعظم من باب التملق بأن له من صفات العظمة ما يقتضي العفو عن ضعفهم. ومن صفات الحلم والرحمة ما يرفّه عنهم. ويحتمل أن يكون ذلك من قول الله تعالى جزاء لهم على قولهم : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) ، الآية. فأفادهم بذلك أنه لا يحاسبهم بحديث النفس. فانتفى ما شق عليهم من قوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) ، الآية. بخلاف ما أفاد بني إسرائيل قولهم : سمعنا وعصينا ، من الآصار في الدنيا والآخرة. فيكون حينئذ استئنافا جوابا لمن كأنه قال : هل أجاب دعاءهم. ويؤيد هذا الاحتمال اتباعه لحكم ما في الوسع على طريق الاستئناف أو الاستنتاج بقوله : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) قال العلامة أبو السعود : قوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ) إلخ. للترغيب في المحافظة على مواجب التكليف والتحذير عن الإخلال بها. ببيان أن تكليف كل نفس مع مقارنته لنعمة التخفيف والتيسير تتضمن مراعاته منفعة زائدة. وأنها تعود إليها لا إلى غيرها. ويستتبع الإخلال به مضرة تحيق بها لا بغيرها. فإن اختصاص منفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله. واقتصار مضرته عليه من أشد الزواجر عن مباشرته. أي لها ثواب ما كسبت من الخير الذي كلفت فعله. لا لغيرها. وعليها لا على غيرها عقاب ما اكتسبت من الشر الذي كلفت تركه. وإيراد الاكتساب في جانب الشر لما فيه من اعتمال ناشئ من اعتناء النفس بتحصيل الشر وسعيها في طلبه.

قال الحراليّ : وصيغة (فعل) مجردة ، تعرب عن أدنى الكسب. فلذلك من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة.

٢٤٢

لطيفة :

وقال الجاربرديّ في (شرح الشافية) : معنى الكسب تحصيل الشيء على أي وجه كان. والاكتساب المبالغة والاعتمال فيه. ومن ذلك قوله تعالى : لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. وفيه تنبيه على لطف الله تعالى بخلقه ، إذ أثبت لهم ثواب الفعل على أي وجه كان. ولم يثبت عليهم عقاب الفعل إلا على وجه مبالغة واعتمال فيه.

قال الزمخشريّ : لما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمّارة به ، كانت في تحصيله أعمل وأجدّ. فجعلت لذلك مكتسبة فيه. ولما لم تكن في باب الخير كذلك لفتورها في تحصيله ، وصفت بما لا دلالة له على الاعتمال والتصرف. انتهى.

قال العلّامة ابن جماعة في (حواشيه) : تفرقته بين الكسب والاكتساب هو ما قاله الزمخشريّ وغيره ونص عليه سيبويه. قال الحلبيّ : وهو الأظهر. وقال قوم : لا فرق. قالوا : وقد جاء القرآن بالكسب والاكتساب في مورد واحد. قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر : ٣٨]. (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) [الأنعام : ١٦٤]. (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) [البقرة : ٨١]. وقال تعالى : (بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) [الأحزاب : ٥٨]. فقد استعمل الكسب والاكتساب في الشر. وقال الواحديّ : الصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والاكتساب واحد. وفي القاموس : كسب يكسبه كسبا ، وتكسب واكتسب : طلب الرزق. أو كسب أصاب ، واكتسب تصرف واجتهد. ثم قال ابن جماعة : ما ذكره من تنبيه الآية على لطف الله بخلقه إلى آخره ، قاله ابن الحاجب في شرح (المفصل) وبمعناه قول بعضهم : في الآية إيذان أن أدنى فعل من أفعال الخير يكون للإنسان تكرما من الله على عبده ، بخلاف العقوبة فإنه لا يؤاخذ بها إلا من جدّ فيها واجتهد. وقريب منه قول آخر : للنفس ما حصل من الثواب بأي وجه اتفق حصوله سواء كان بإصابة مجردة أو بتحصيل. وعليها ما حصلته وسعت فيه لا ما حصل من غير اختيار وسعي. نبه تعالى أن الثواب حاصل لها سواء كان بسعيها واختيارها أو لم يكن كذلك. وأما العقاب فلا يكون عليها إلا بقصدها وتحصيلها.

وما قالوه من الفرق يحتاج إلى ثبت. وقد قال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ـ ٨] ، أي يرى جزاءه. وقال :

٢٤٣

(وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨]. على أن ترتب الثواب على ما حصل من غير سعي واختيار ، إن كان لمباشرة سببه مع الغفلة عنه ، فالعقاب أيضا كذلك. فمن عمل سيئة فعليه إثمها وإثم من عمل بها ، وإن صوّر بالإصابة عند أول الالتفات فلا مانع أن يكون العقاب مثله. ومدعي خلافه عليه البيان. نعم الإصرار شرط. لأن الرجوع يمحوه لكنه قدر زائد على الفعل. وبالجملة فما قاله جار الله حسن. وقد ذكره البيضاوي أيضا. وفي الإعراب الحلبيّ : الذي يظهر في هذا ، أن الحسنات مما تكسب دون تكلف. إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه ، والسيئات تكتسب بتكلف. إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى ، ويتجاوز إليها. فحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازا لهذا المعنى والله أعلم. ثم قال ابن جماعة : والمبالغة من بالغ مبالغة اجتهد ولم يقصر. والاعتمال من اعتمل أي عمل بنفسه وأعمل رأيه وآلته. انتهى.

قال البقاعي ولما بشرهم بذلك ، عرفهم مواقع نعمه من دعاء رتّبه على الأخف فالأخف على سبيل التعلّي ، إعلاما بأنه لم يؤاخذهم بما اجترحوه نسيانا ، ولا بما قارفوه خطأ ، ولا حمل عليهم ثقلا. بل جعل شريعتهم حنيفية سمحاء. ولا حملهم فوق طاقتهم. مع أن له جميع ذلك. وأنه عفا عن عقابهم ثم سترهم فلم يخجلهم بذكر سيئاتهم. ثم رحمهم بأن أحلّهم محل القرب فجعلهم أهلا للخلافة. فلاح بذلك أنه يعلي أمرهم على كل أمر. ويظهر دينهم على كل دين. إذ كان سبحانه هو الداعي عنهم. وليكون الدعاء كله محمولا على الإصابة ومشمولا بالإجابة فقال تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) أي لا تعاقبنا (إِنْ نَسِينا) أمرك ونهيك (أَوْ أَخْطَأْنا) أي ففعلنا خلاف الصواب ، تفريطا ونحوه.

وقد ولع كثير من المفسرين هاهنا بالبحث في أن النسيان والخطأ معفوّ عنهما ، فما فائدة طلب العفو عنهما؟ وأجابوا عن ذلك بوجوه. وأرق جواب رأيته قول العلامة بير محمد في (المدحة الكبرى) : لما كان طالب العفو الرسول والأنصار والمهاجرون ومن كان على شاكلتهم ، فكأنهم يعدون النسيان من العصيان والخطأ من الخطيئة. كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون : ٦٠].

وقيل في معنى الآية : لا تعاقبنا إن تركنا أمرك أو اكتسبنا خطيئة. على أن يكون النسيان بمعنى الترك. والخطأ من الخطيئة. وعليه فلا إيراد ، والله أعلم.

(رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) أي عهدا يثقل علينا.

٢٤٤

قال الحراليّ : الإصر العهد الثقيل الذي في تحمله أشد المشقة (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) وهو ما كلّفه بنو إسرائيل مما يهد الأركان. ولا بأس بالإشارة إلى جمل مما حملوه من الآصار. ننقله عن أسفارهم تأكيدا لما يحمل على الشكر على تخفيف ذلك عنا ، وتعظيما لمنته تعالى ، فلله الحمد فنقول : في سفر الخروج في الأصحاح الثاني عشر :

(١٥) سبعة أيام تأكلون فطيرا. اليوم الأول تعزلون الخمير في بيوتكم. فإن كل من أكل خميرا من اليوم الأول إلى اليوم السابع تقطع تلك النفس من إسرائيل.

وكل هذا الأصحاح آصار شاقة.

وفي السفر المذكور ـ في الأصحاح الحادي والعشرين.

(١٥) ومن ضرب أباه أو أمه يقتل قتلا (١٦) ومن سرق إنسانا وباعه أو وجد في يده يقتل قتلا.

(١٧) ومن شتم أباه أو أمه يقتل قتلا. (٢٧) وإن أسقط سن عبده أو سن أمته يطلقه حرّا عوضا عن سنه (٢٨) وإذا نطح ثور رجلا أو امرأة فمات يرجم الثور ولا يؤكل لحمه ، وأما صاحب الثور فيكون بريئا (٢٩) ولكن إن كان ثورا نطّاحا من قبل وقد أشهد على صاحبه ولم يضبطه فقتل رجلا أو امرأة ، فالثور يرجم وصاحبه أيضا يقتل.

وفي السفر المذكور ، في الأصحاح الثالث والعشرين.

(١٠) وست سنين تزرع أرضك وتجمع غلتها (١١) وأما في السابعة فتريحها وتتركها ليأكل فقراء شعبك. وفضلتهم تأكلها وحوش البرية كذلك تفعل بكرمك وزيتونك. (١٢) ستة أيام تعمل عملك. وأما اليوم السابع ففيه تستريح لكي يستريح ثورك وحمارك ويتنفس ابن أمتك والغريب.

(١٩) أول أبكار أرضك تحضره إلى بيت الرب إلهك.

وفي سفر العدد ، في الأصحاح الخامس عشر :

(٣٧) وكلم الرب موسى قائلا (٣٨) كلّم بني إسرائيل وقل لهم : أن يصنعوا لهم أهدابا في أذيال ثيابهم في أجيالهم ويجعلوا على هدب الذيل عصابة من أسمانجونيّ (٣٩) فتكون لكم هدبا فترونها وتذكرون كل وصايا الرب وتعملونها.

وفي السفر المذكور ، في الأصحاح التاسع عشر :

٢٤٥

(١١) من مس ميتا ميتة إنسان ما يكون نجسا سبعة أيام. (١٢) يتطهر به في اليوم الثالث ، وفي السابع يكون طاهرا. وإن لم يتطهر في اليوم الثالث ففي اليوم السابع لا يكون طاهرا. (١٣) كل من مس ميتا ميتة إنسان قد مات ولم يتطهر ينجّس مسكن الرب. فتقطع تلك النفس من إسرائيل. لأن ماء النجاسة لم يرش عليها تكون نجسة. نجاستها لم تزل فيها. (١٤) هذه هي الشريعة. إذا مات إنسان في خيمة فكل من دخل الخيمة وكل من كان في الخيمة يكون نجسا سبعة أيام (١٥) وكل إناء مفتوح ليس عليه سداد بعصابة فإنه نجس. (١٦) وكل من مس على وجه الصحراء قتيلا بالسيف أو ميتا أو عظم إنسان أو قبرا يكون نجسا سبعة أيام. وتمام الفصل المذكور كيفية الطهارة من هذه النجاسة الشاقة جدا.

وفي السفر المذكور في الأصحاح الخامس والثلاثين :

(٣١) ولا تأخذوا فدية عن نفس القاتل المذنب للموت بل إنه يقتل.

وفي سفر التثنية ، في الأصحاح الخامس عشر :

(١٩) كل بكر ذكر يولد من بقرك ومن غنمك تقدسه للرب إلهك. لا تشتغل على بكر بقرك ولا تجزّ بكر غنمك.

وفي سفر الخروج ـ في الأصحاح الرابع والثلاثين :

(٢٠) وأما بكر الحمار فتفديه بشاة. وإن لم تفده تكسر عنقه. كل بكر من بنيك تفديه وفي سفر اللاويين ، في الأصحاح الرابع :

(١) وكلم الرب موسى قائلا (٢) كلم بني إسرائيل قائلا : إذا أخطأت نفس سهوا في شيء من جميع مناهي الرب التي لا ينبغي عملها وعملت واحدة منها (٣) إن كان الكاهن الممسوح يخطئ لإثم الشعب يقرّب عن خطيئته التي أخطأ ثورا ابن بقر صحيحا للرب. ذبيحة خطيّة.

وكيفية ذلك حرجة جدا. انظرها.

وفيه ، في الأصحاح الخامس :

(٢) أو إذا مسّ أحد شيئا نجسا جثة وحش نجس أو جثة بهيمة نجسة أو جثة ديب نجس وأخفى عنه فهو نجس ومذنب.

(٥) فإن كان يذنب في شيء من هذه يقرّ بما قد أخطأ به (٦) ويأتي إلى

٢٤٦

الرب بذبيحة لإثمه عن خطيئته التي أخطأ بها أنثى من الأغنام نعجة أو عنزا من المعز ذبيحة خطية فيكفر عنه الكاهن من خطيته.

والأصحاح المذكور كله آصار.

وكذا الأصحاح السادس بعده كله آصار.

وفي الأصحاح الحادي عشر تحريم بعض الطيور وفيه آصار كثيرة. منها :

(٣٣) وكل متاع خزف وقع فيه منها فكل ما فيه يتنجس ، وأما هو فتكسرونه. وفي الأصحاح الثاني عشر أحكام النفساء عندهم والفرق بين ولادتها ذكرا وأنثى. وإنها في الأول تكون نجسة أسبوعا ثم ثلاثا وثلاثين يوما. وفي الثاني أسبوعين ثم ستة وستين يوما.

وعن تمام أيام طهرها تأتي بكيس كفارة عنها.

وفي الأصحاح الخامس عشر تشريعات لذوي الجراحات.

وفي ذلك آصار كبرى. انظرها.

وفيه أيضا أحكام الحائض والآصار في شأنها. ومنها :

(١٩) وكل من مسها يكون نجسا إلى المساء (٢٠) وكل ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجسا وكل ما تجلس عليه يكون نجسا (٢١) وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحمّ بماء ويكون نجسا إلى المساء وفي الأصحاح السابع عشر :

(١٥) وكل إنسان يأكل ميتة أو فريسة وطنيا كان أو غريبا يغسل ثيابه ويستحمّ بماء ويبقى نجسا إلى المساء.

وفي الأصحاح التاسع عشر :

(٢٣) ومتى دخلتم الأرض وغرستم كل شجرة للطعام تحسبون ثمرها غرلتها. ثلاث سنين تكون لكم غلفاء. لا يؤكل منها. (٢٤) وفي السنة الرابعة يكون كل ثمرها قدسا لتمجيد الرب. (٢٥) وفي السنة الخامسة تأكلون ثمرها. لتزيد بكم غلّتها. أنا الرب إلهكم. (٢٧) لا تقصروا رؤوسكم مستديرا ولا تفسد عارضيك.

وفي الأصحاح الخامس والعشرين :

(٣) ست سنين تزرع حقلك وست سنين تقضب كرمك وتجمع غلتهما. (٤) وأما السنة السابعة ففيها يكون للأرض سبت عطلة سبتا للرب. لا تزرع حقلك

٢٤٧

ولا تقضب كرمك. (٥) زرّيع حصيدك لا تحصد وعنب كرمك المحول لا تقطف. سنة عطلة تكون للأرض. (٦) ويكون سبت الأرض لكم طعاما. لك ولعبدك ولأمتك ولأجيرك ولمستوطنك النازلين عندك. (٧) ولبهائمك وللحيوان الذي في أرضك تكون كل غلتها طعاما.

وفي سفر التثنية ، في الأصحاح الحادي والعشرين.

(١٨) وإذا كان لرجل ابن معاند ومارد ولا يسمع لقول أبيه ولا لقول أمه ويؤدبانه فلا يسمع لهما. (١٩) يمسكه أبوه وأمه ويأتيان به إلى شيوخ مدينته وإلى باب مكانه. (٢٠) ويقولون لشيوخ مدينته. ابننا هذا معاند ومارد لا يسمع لقولنا وهو مسرف وسكّير (٢١) فيرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت.

وفيه ، في الأصحاح الثاني والعشرين :

(١٠) لا تحرث على ثور وحمار معا. (١١) لا تلبس ثوبا مختلطا صوفا وكتانا معا.

وفيه ، في الأصحاح الرابع والعشرين :

(١) إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شيء وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته. (٢) ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر. (٣) فإن أبغضها الرجل الأخير وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها له زوجة. (٤) لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود بأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست. لأن ذلك رجس لدى الرب.

وهذه نبذة يسيرة من الآصار التي كانت على الإسرائيليين ولم يشرعها لنا مولانا بفضله وكرمه له الحمد ، إنه أرحم الراحمين.

(رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) أي من بليات الدنيا والآخرة. فالدعاء الأول في رفع شدائد التكليف ، وهذا في رفع شدائد البليات. ويقال : هو تكرير للأول وتصوير للإصر بصورة ما لا يستطاع مبالغة. (وَاعْفُ عَنَّا) أي : تجاوز عن ذنوبنا ولا تعاقبنا (وَاغْفِرْ لَنا) أي غطّ على ذنوبنا واعف عنها (وَارْحَمْنا) أي : تفضّل علينا بالرحمة مع كوننا مقصّرين مذنبين (أَنْتَ مَوْلانا) أي : وليّنا وناصرنا (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فإنّ من حق المولى أن ينصر عبده ومن يتولّى أمره على الأعداء.

٢٤٨

وفيه إشارة إلى أنّ إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيله تعالى ، حسبما أمر في تضاعيف السورة الكريمة ، غاية مطلبهم.

قال البقاعيّ : فتضمّن ذلك وجوب قتال الكافرين. وأنهم أعدى الأعداء. وأنّ قوله (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ليس ناهيا عن ذلك. وإنّما هو إشارة إلى أنّ الدين صار في الوضوح إلى حدّ لا يتصور فيه إكراه. بل ينبغي لكلّ عاقل أن يدخل فيه بغاية الرغبة فضلا عن الإحواج إلى إرهاب. فمن نصح نفسه دخل فيه بما دلّ عليه عقله ، ومن أبى دخل فيه قهرا بنصيحة الله التي هي الضرب بالحسام ونافذ السهام.

وقد ورد في (صحيح مسلم) (١) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى قال عقب كلّ دعوة من هذه الدعوات : قد فعلت».

وقد روى البخاريّ (٢) والجماعة عن أبي مسعود رضي الله عنه قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة ، في ليلة ، كفتاه».

وروى الإمام أحمد (٣) عن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت خواتيم سورة البقرة من بيت كنز من تحت العرش ، لم يعطهنّ نبيّ قبلي».

وأخرج مسلم (٤) عن ابن مسعود قال : لما أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة. إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض ، فيقبض منها. وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها ، فيقبض منها. قال : (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) [النجم : ١٦] ، قال : فراش من ذهب قال ، فأعطي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثا : أعطي الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا ، المقحمات.

__________________

(١) أخرجه مسلم في صحيحه في : الإيمان ، حديث ٢٠٠ ونصه : عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [البقرة : ٢٨٤] قال ، دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قولوا سمعنا وأطعنا وسلّمنا» قال فألقى الله الإيمان في قلوبهم. فأنزل الله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) (قال : قد فعلت) (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) (قال : قد فعلت) (وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا) (قال : قد فعلت) [البقرة : ٢٨٦].

(٢) أخرجه البخاريّ في : فضائل القرآن ، ١٠ ـ باب فضل سورة البقرة.

(٣) أخرجه في المسند في ٥ / ١٥١.

(٤) أخرجه مسلم في : الإيمان ، حديث ٢٧٩.

٢٤٩

وعن ابن عباس قال (١) : «بينما جبريل قاعد عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال : هذا باب من السماء فتح اليوم. لم يفتح قط إلا اليوم ، فنزل منه ملك فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض. لم ينزل قط إلا اليوم. فسلّم وقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك. فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة. لن تقرأ حرفا منهما إلا أعطيته». رواه مسلم والنسائيّ. وهذا لفظ مسلم.

وأخرج الترمذي (٢) والنسائي والدارميّ والحاكم وصححه ، عن النعمان بن بشير : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام. أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة. ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان».

وأخرج عبد بن حميد في (مسنده) عن الحسن : أنه كان إذا قرأ آخر البقرة قال : يا لك نعمة ..! يا لك نعمة.

هذا ، وقد روي في فضل سورة البقرة أحاديث كثيرة ... منها ما أخرجه مسلم (٣) والترمذي من حديث النوّاس بن سمعان قال : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران». وضرب لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال : «كأنهما عمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق. أو كأنهما حزقان من طير صوافّ تحاجان عن صاحبهما».

وأخرج أحمد (٤) والحاكم والدارميّ عن بريدة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تعلموا سورة البقرة. فإن أخذها بركة. وتركها حسرة. ولا تستطيعها البطلة. تعلموا البقرة وآل عمران فإنهما هما الزهراوان يجيئان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تجادلان عن صاحبهما».

وأخرج أحمد ومسلم (٥) والترمذي عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا

__________________

(١) أخرجه مسلم في : صلاة المسافرين وقصرها ، حديث ٢٥٤.

(٢) أخرجه الترمذي في : ثواب القرآن ، ٤ ـ باب ما جاء في آخر سورة البقرة.

(٣) أخرجه مسلم في : صلاة المسافرين وقصرها ، حديث ٢٥٣.

(٤) أخرجه أحمد في المسند بالصفحة ٣٥٢ من ج ٥.

(٥) أخرجه مسلم في : صلاة المسافرين وقصرها ، حديث ٢١٢.

والترمذي في : ثواب القرآن ، ٢ ـ باب ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسيّ.

٢٥٠

تجعلوا بيوتكم مقابر. إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة. ولفظ الترمذي : وإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان».

وأخرج سعيد بن منصور والترمذيّ (١) والحاكم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكلّ شيء سنام. وإن سنام القرآن سورة البقرة. وفيها آية هي سيدة آي القرآن. آية الكرسيّ».

فائدة :

قال ابن القيم : تأمّل خطاب القرآن تجد ملكا له الملك كلّه ، وله الحمد كلّه ، أزمّة الأمور كلّها بيده ، ومصدرها منه ، وموردها إليه ، مستويا على العرش ، لا تخفى عليه خافية من أقطار مملكته ، عالما بما في نفوس عبيده ، مطّلعا على أسرارهم وعلانيتهم ، منفردا بتدبير المملكة. يسمع ويرى ويعطي ويمنع ، ويثيب ويعاقب ، ويكرم ويهين ، ويخلق ويرزق ، ويميت ويحيي ، ويقدر ويقضي ويدبر ، الأمور نازلة من عنده ، دقيقها وجليلها ، وصاعدة إليه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه. فتأمل كيف تجده يثني على نفسه. ويمجّد نفسه ، ويحمد نفسه ، وينصح عباده ويدلّهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم ويرغبهم فيه ، ويحذرهم مما فيه هلاكهم ، ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته ، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه! يذكّرهم بنعمه عليهم ، ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها. ويحذّرهم من نقمه ، ويذكّرهم بما أعدّ لهم من الكرامة إن أطاعوه ، وما أعدّ لهم من العقوبة إن عصوه ، ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه ، وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء ، ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم ، ويذمّ أعداءه بسيّئ أعمالهم وقبيح صفاتهم ، ويضرب الأمثال ، وينوّع الأدلّة والبراهين ، ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة. ويصدق الصادق ، ويكذب الكاذب ، ويقول الحق ، ويهدي السبيل ، ويدعو إلى دار السلام ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها ، ويحذر من دار البوار ويذكر عذابها وقبحها وآلامها. ويذكّر عباده فقرهم إليه وشدة حاجتهم إليه من كل وجه. وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين ، ويذكّرهم غناءه عنهم وعن جميع الموجودات. وأنه الغنيّ بنفسه عن كل ما سواه. وكل ما سواه فقير إليه. وأنه لا ينال أحد ذرة من الخير فما فوقها إلّا بفضله ورحمته. ولا ذرة من الشر فما فوقها إلّا بعدله وحكمته. وتشهد من خطابه

__________________

(١) أخرجه الترمذي في : ثواب القرآن ، ٢ ـ باب ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسيّ.

٢٥١

عتابه لأحبابه ألطف عتاب. وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم ، وغافر زلّاتهم ، ومقيم أعذارهم ، ومصلح فسادهم ، والدافع عنهم ، والحامي عنهم ، والناصر لهم ، والكفيل بمصالحهم والمنجي لهم من كل كرب ، والموفي لهم بوعده. وأنه وليّهم الذي لا وليّ لهم سواه ، فهو مولاهم الحقّ ، وينصرهم على عدوّهم ، فنعم المولى ونعم النصير.

وإذا شهدت القلوب من القرآن ملكا عظيما جوادا رحيما جميلا هذا شأنه ، فكيف لا تحبه ، وتنافس في القرب منه ، وتنفق أنفاسها في التودّد إليه ، ويكون أحبّ إليها من كل ما سواه ، ورضاه آثر عندها من رضى كلّ من سواه؟ وكيف لا تلهج بذكره ، وتصيّر حبّه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤها وقوتها ودواؤها ، بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنتفع بحياتها؟

اللهمّ اجعل القرآن ربيع قلوبنا ، ونور صدورنا ، وجلاء حزننا. وأعنّا على إكمال ما قصدناه بفضلك. يا أرحم الراحمين.

٢٥٢

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة آل عمران

وهي مدنية : مائتا آية ، أو إلا آية. سميت بذلك لأن اصطفاء آل عمران ، وهم عيسى ويحيى ومريم وأمها ، نزل فيه منها ما لم ينزل في غيره. إذ هو بضع وثمانون آية. وقد جعل هذا الاصطفاء دليلا على اصطفاء نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعله متبوعا لكل محب لله ومحبوب له.

وتسمى الزهراء ، لأنها كشفت عما التبس على أهل الكتابين من شأن عيسى عليه‌السلام. والأمان ، لأن من تمسك بما فيها أمن من الغلط في شأنه. والكنز ، لتضمنها الأسرار العيسوية. والمجادلة ، لنزول نيّف وثمانين آية منها في مجادلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصارى نجران. وسورة الاستغفار ، لما فيها من قوله : (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) [آل عمران : ١٧]. وطيبة ، لجمعها من أصناف الطيبين في قوله : (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ) [آل عمران : ١٧]. إلى آخره ، أفاده المهايميّ.

والمراد بعمران هو والد مريم ، أم عيسى عليهما‌السلام ، كما يأتي التنويه به في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٣٣].

٢٥٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) (٣)

(الم) سلف الكلام على ذلك أول البقرة. (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) سبق تأويله في آية الكرسي. (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن. عبر عنه باسم الجنس إيذانا بكمال تفوقه على بقية الأفراد في حيازة كمالات الجنس ، كأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب دون ما عداه ، كما يلوح به التصريح باسمي التوراة والإنجيل (بِالْحَقِ) أي الصدق الذي لا ريب فيه (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي من الكتب المنزلة قبله.

قال المهايميّ : أي معرّفا صدق الكتب السالفة. وقال أبو مسلم : المراد منه أنه تعالى لم يبعث نبيّا قط إلا بالدعاء إلى توحيده والإيمان به ، وتنزيهه عما لا يليق به ، والأمر بالعدل والإحسان ، وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان. فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك. (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) تعيين لما بين يديه وتبيين لرفعة محله. تأكيدا لما قبله ، وتمهيدا لما بعده. إذ بذلك يترقى شأن ما يصدقه رفعة ونباهة ، ويزداد في القلوب قبولا ومهابة ، ويتفاحش حال من كفر بهما في الشناعة ، واستتباع ما سيذكر من العذاب الشديد والانتقام. قاله أبو السعود.

والتوراة اسم عبرانيّ معناه (الشريعة). والإنجيل لفظة يونانية معناها (البشرى) أي الخبر الحسن. هذا هو الصواب كما نص عليه علماء الكتابين في مصنفاتهم. وقد حاول بعض الأدباء تطبيقهما على أوزان لغة العرب واشتقاقهما منها. وهو خبط. بغير ضبط.

٢٥٤

القول في تأويل قوله تعالى :

(مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) (٤)

(مِنْ قَبْلُ) متعلق بـ (أَنْزَلَ) ، أي أنزلهما من قبل تنزيل الكتاب. والتصريح به مع ظهور الأمر ، للمبالغة في البيان (هُدىً لِلنَّاسِ) أي لقوم موسى وعيسى. أو ما هو أعم. لأن هذه الأمة متعبدة بما لم ينسخ من الشرائع (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) وهو الكتب السماوية التي ذكرها. لأن كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل. أو هو القرآن. وإنما كرر ذكره بما هو نعت له ، ومدح له ، من كونه فارقا بين الحق والباطل ، بعد ما ذكره باسم الجنس ، تعظيما لشأنه ، وإظهارا لفضله ، قال الرازيّ : أو يقال إنه تعالى أعاد ذكره ليبيّن أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل ، ليجعله فرقا بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل. وعلى هذا التقدير فلا تكرار. ثم استظهر حمل الفرقان على المعجزات التي قرنها الله تعالى بإنزال هذه الكتب الفارقة بين دعواهم ودعوى الكذابين. قال : فالفرقان هو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها ، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة. انتهى.

ويجوز أن يكون المراد بالفرقان (الميزان) المشار إليه في قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد : ٢٥]. والميزان هو العدل في الأمور كلها ؛ واللفظ مما يشمل ذلك كله لتلاقيها في المعنى.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي جحدوا بها (لَهُمْ) بسبب كفرهم بها (عَذابٌ شَدِيدٌ) وهذا الوعيد. جيء به إثر ما تقدم حملا على الإذعان ، وزجرا عن العصيان (وَاللهُ عَزِيزٌ) لا يغالب يفعل ما يشاء (ذُو انْتِقامٍ) أي معاقبة ، يقال : انتقم الله منه : عاقبه. والنقمة : المكافأة بالعقوبة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (٥)

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي هو مطلع على كفر من كفر وإيمان من آمن ، وهو مجازيهم عليه.

٢٥٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٦)

(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) أي يخلقكم في الأرحام كما يشاء من ذكر وأنثى ، وحسن وقبيح ، وشقيّ وسعيد (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٧)

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) واضحات الدلالة (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي أصله المعتمد عليه في الأحكام (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) وهي ما استأثر الله بعلمها لعدم اتضاح حقيقتها التي أخبر عنها ، أو ما احتملت أوجها. وجعله كله محكما في قوله : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) [هود : ١] ، بمعنى أنه ليس فيه عيب ، وأنه كلام حق فصيح الألفاظ ، صحيح المعاني. ومتشابها في قوله (كِتاباً مُتَشابِهاً) [الزمر : ٢٣] ، بمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن ، ويصدق بعضه بعضا (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي ميل عن استقامة إلى كفر وأهواء وابتداع (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أي طلب الإيقاع في الشبهات واللبس (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) وحده (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) أي الثابتون المتمكنون مبتدأ خبره (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) أي بالمتشابه على ما أراد الله تعالى (كُلٌ) من المحكم والمتشابه (مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي العقول الخالصة من الركون إلى الأهواء الزائغة. وهو تذييل سيق منه تعالى مدحا للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر.

تنبيه :

للعلماء في المحكم والمتشابه أقوال كثيرة ، ومباحث واسعة. وأبدع ما رأيته في تحرير هذا المقام مقالة سابغة الذيل لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية عليه الرحمة والرضوان. يقول في خلالها :

المحكم في القرآن ، تارة يقابل بالمتشابه والجميع من آيات الله ، وتارة يقابل

٢٥٦

بما نسخه الله ، مما ألقاه الشيطان. ومن الناس من يجعله مقابلا لما نسخه الله مطلقا ، حتى يقول هذه الآية محكمة ليست منسوخة ، ويجعل المنسوخ ليس محكما ، وإن كان الله أنزله أوّلا اتباعا للظاهر من قوله : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ). فهذه ثلاثة معان تقابل المحكم ، ينبغي التفطن لها. وجماع ذلك أن الإحكام تارة يكون في التنزيل. فيكون في مقابلته ما يلقيه الشيطان. فالمحكم المنزل من عند الله أحكمه الله أي فصله من الاشتباه بغيره ، وفصل منه ما ليس منه ، فإن الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه ، ولهذا دخل فيه معنى المنع ، كما دخل في الحد بالمنع جزء معناه ، لا جميع معناه ، وتارة يكون في إبقاء التنزيل عند من قابله بالنسخ الذي هو رفع ما شرع ، وهو اصطلاحيّ. أو يقال (وهو أشبه) : السلف كانوا يسمون كل رفع نسخا ، سواء كان رفع حكم ، أو رفع دلالة ظاهرة ، فكل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح ، كتخصيص العام ، وتقييد المطلق ، فهو منسوخ في اصطلاح السلف. وإلقاء الشيطان في أمنيته قد يكون في نفس لفظ المبلّغ ، وقد يكون في مسمع المبلّغ ، وقد يكون في فهمه ، كما قال : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) [الرعد : ١٧]. ومعلوم أن من سمع ، سمع النص الذي قد رفع حكمه ، أو دلالة له ، فإنه يلقى الشيطان في تلك التلاوة اتباع ذلك المنسوخ ، فيحكم الله آياته بالناسخ الذي به رفع الحكم ، وبان المراد. وعلى هذا التقدير ، فيصح أن يقال : المتشابه والمنسوخ. بهذا الاعتبار. والله أعلم.

وتارة يكون الإحكام في التأويل والمعنى ، وهو تمييز الحقيقة المقصودة من غيرها ، حتى لا تشتبه بغيرها. وفي مقابلة المحكمات الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه هذا. فتكون محتملة للمعنيين ، ولم يقل في المتشابه (لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله) ، وإنما قال : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) وهذا هو فصل الخطاب بين المتنازعين في هذا الموضع. فإن الله أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو. والوقف هنا. على ما دل عليه أدلة كثيرة ، وعليه أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجمهور التابعين ، وجماهير الأمة. ولكن لم ينف علمهم بمعناه وتفسيره ، بل قال : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) [ص : ٢٩]. وهذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات. وما لا يعقل له معنى لا يتدبر ، وقال : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) [النساء : ٨٢]. ولم يستثن شيئا منه نهى عن تدبره. والله ورسوله إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمره الله

٢٥٧

وطلب فهمه ومعرفة معناه ، فلم يذمه الله ، بل أمر بذلك ومدح عليه. يبيّن ذلك أن التأويل ، قد روي أن من اليهود الذين كانوا بالمدينة على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كحييّ بن أخطب وغيره من طلب من حروف الهجاء التي في أوائل السور تأويل بقاء هذه الأمة ، كما سلك ذلك طائفة من المتأخرين موافقة للصابئة المنجمين ، وزعموا أنه ستمائة وثلاثة وتسعون عاما. لأن ذلك هو عدد ما للحروف في حساب الجمل ، بعد إسقاط المكرر. وهذا من نوع تأويل الحوادث التي أخبر بها القرآن في اليوم الآخر. وروي أن من النصارى الذين وفدوا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وفد نجران من تأوّل (أنا ونحن) على أن الآلهة ثلاثة. لأن هذا ضمير جمع. وهذا تأويل في الإيمان بالله. فأولئك تأولوا في اليوم الآخر. وهؤلاء تأولوا في الله. ومعلوم أن (أنا ونحن) من المتشابه. فإنه يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه ، ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه وإن لم يكونوا من جنسه ، ويراد الواحد المعظم نفسه ، الذي يقوم مقام من معه غيره لتنوع أسمائه التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى. فصار هذا متشابها لأن اللفظ واحد ، والمعنى متنوع ، والأسماء المشتركة في اللفظ هي من المتشابه ، وبعض المتواطئ أيضا من المتشابه. ويسميها أهل التفسير (الوجوه والنظائر) وصنفوا كتب الوجوه والنظائر. فالوجوه في الأسماء المشتركة ، والنظائر في الأسماء المتواطئة. وقد ظن بعض أصحابنا المصنفين في ذلك أن الوجوه والنظائر جميعا في الأسماء المشتركة ، فهي نظائر باعتبار اللفظ ، ووجوه باعتبار المعنى ، وليس الأمر على ما قاله ، بل كلامهم صريح فيما قلناه لمن تأمله. والذين في قلوبهم زيغ يدعون المحكم الذي لا اشتباه فيه مثل : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [البقرة : ١٦٣]. (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) [طه : ١٤]. (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) [المؤمنون : ٩١]. (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) [الفرقان : ٢]. (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٣ ـ ٤]. ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ليفتنوا به الناس إذا وضعوه على غير مواضعه ، وحرفوا الكلم عن مواضعه. وابتغاء تأويله وهو الحقيقة التي أخبر عنها. وذلك أن الكلام نوعان : إنشاء فيه الأمر ، وإخبار. فتأويل الأمر هو نفس الفعل المأمور به ، كما قال من قال من السلف : إن السنة هي تأويل الأمر. قالت عائشة رضي الله عنها (١) : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم وبحمدك ، اللهم اغفر لي. يتأول القرآن ، تعني قوله :

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الأذان ، ١٣٩ ـ باب التسبيح والدعاء في السجود.

٢٥٨

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) [النصر : ٣]. وأما الإخبار فتأويله عين الأمر المخبر به إذا وقع. ليس تأويله فهم معناه ، وقد جاء اسم التأويل في القرآن في غير موضع. وهذا معناه. قال الله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ، يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) [الأعراف : ٥٢ ـ ٥٣] فقد أخبر أنه فصل الكتاب ، وتفصيله بيانه وتمييزه بحيث لا يشتبه ، ثم قال : (هَلْ يَنْظُرُونَ) ، أي ينتظرون ، (إِلَّا تَأْوِيلَهُ ، يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ). إلى آخر الآية. وإنما ذلك مجيء ما أخبر به القرآن بوقوعه من القيامة وأشراطها. كالدابة ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ومجيء ربك والملك صفا صفا ، وما في الآخرة من الصحف والموازين والجنة والنار وأنواع النعيم والعذاب وغير ذلك. فحينئذ يقولون : (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ). وهذا القدر الذي أخبر به القرآن من هذه الأمور لا يعلم وقته وقدره وصفته إلا الله. فإن الله يقول : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة : ١٧]. ويقول (١) : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقال ابن عباس : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ، فإن الله قد أخبر أن في الجنة خمرا ولبنا وماء وحريرا وذهبا وفضة وغير ذلك ، ونحن نعلم قطعا أن تلك الحقيقة ليست مماثلة لهذه ، بل بينهما تباين عظيم مع التشابه. كما في قوله : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) [البقرة : ٢٥] ، على أحد القولين أي يشبه ما في الدنيا ، وليس مثله. فأشبه اسم تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق ، كما أشبهت الحقائق الحقائق من بعض الوجوه ، فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من القدر المشترك بينهما ، ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا ، ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه ، وتلك الحقائق على ما هي تأويل ما أخبر الله به ، وهذا فيه رد على اليهود والنصارى والصابئين من المتفلسفة وغيرهم. فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح ، ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن. ومن دخل في الإسلام ونافق المؤمنين تأول ذلك على أن هذه أمثال مضروبة لتفهيم النعيم الروحانيّ ، إن كان من المتفلسفة الصابئة المنكرة لحشر الأجساد. وإن كان

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : التوحيد ، ٣٥ ـ باب قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ). ونصه : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال الله : أعددت ... إلخ.

٢٥٩

من منافقة الملّتين المقرين بحشر الأجساد ، تأول ذلك على تفهيم النعيم الذي في الجنة من الروحانيّ والسماع الطيب والروائح العطرة. كلّ ضال يحرف الكلم عن مواضعه إلى ما اعتقد ثبوته. وكان في هذا أيضا متبعا للمتشابه ، إذ الأسماء تشبه الأسماء ، والمسميات تشبه المسميات ولكن تخالفها أكثر مما تشابهها. فهؤلاء يتبعون هذا المتشابه ابتغاء الفتنة بما يوردونه من الشبهات على امتناع أن يكون في الجنة هذه الحقائق ، وابتغاء تأويله ليردوه إلى المعهود الذي يعلمونه في الدنيا ، قال الله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) ، فإن تلك الحقائق قال الله فيها : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة : ١٧] ، لا ملك مقرب ولا نبيّ مرسل. وقوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ). إما أن يكون الضمير عائدا على الكتاب أو على المتشابه. فإن كان عائدا على الكتاب لقوله : منه ، ومنه : (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) ، فهذا يصح. فإن جميع آيات الكتاب المحكمة والمتشابهة التي فيها إخبار عن الغيب الذي أمرنا أن نؤمن به ، لا يعلم حقيقة ذلك الغيب ومتى يقع إلّا الله. وقد يستدل لهذا أن الله جعل التأويل للكتاب كله مع إخباره أنه مفصل بقوله : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ). فجعل التأويل الجائي الكتاب المفصل ، وقد بينا أن ذلك التأويل لا يعلمه وقتا وقدرا ونوعا وحقيقة إلا الله. وإنا نعلم نحن بعض صفاته بمبلغ علمنا لعدم نظيره عندنا. وكذلك قوله : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ). وإذا كان التأويل الكتاب كله والمراد به ذلك ، ارتفعت الشبهة ، وصار هذا بمنزلة قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ـ إلى قوله ـ (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) [الأعراف : ١٨٧]. وكذلك قوله : (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ ، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ ، وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) [الأحزاب : ٦٣]. فأخبر أنه ليس علمها إلا عند الله ، وإنما هو علم وقتها المعين وحقيقتها ، وإلا فنحن قد علمنا من صفاتها ما أخبرنا به ، فعلم تأويله كعلم الساعة والساعة من تأويله. وهذا واضح بيّن ، ولا ينافي كون علم الساعة عند الله أن نعلم من صفاتها وأحوالها ما علمناه ، وأن نفسر النصوص المبينة لأحوالها. فهذا هذا.

وإن كان الضمير عائدا إلى ما تشابه كما يقوله كثير من الناس ، فلأن المخبر به من الوعد والوعيد متشابه ، بخلاف الأمر والنهي. ولهذا في الآثار : العمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه. لأن المقصود في الخبر الإيمان. وذلك لأن المخبر به من الوعد

٢٦٠