دروس تمهيديّة في القواعد الفقهيّة - ج ١

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

دروس تمهيديّة في القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
الطبعة: ٥
ISBN: 964-499-038-2
ISBN الدورة:
964-91559-2-9

الصفحات: ٢١٤
الجزء ١ الجزء ٢

في نظر مجري العقد ونظر الشخص الثاني الشاك في صحة العقد الذي يريد تطبيق اصالة الصحة.

وأخرى : يفرض انها شرط في نظر الثاني دون الأول.

وثالثة : يفرض الشك في تطابق النظرين.

ورابعة : يفرض اختلاف النظرين بشكل لا يجتمعان ، كما لو كان احدهما يرى ان الجهر في الجمعة واجب والآخر يرى ان الاخفات واجب.

والسؤال المطروح هو ان اصالة الصحة هل تقتضي الحمل على ما هو صحيح في نظر الفاعل للفعل ، أو تقتضي الحمل على ما هو صحيح في نظر الحامل الذي يريد الحمل على الصحة؟ وقد يعبر عن ذلك بالصحة الواقعية فيقال هل المدار على الصحة عند الفاعل أو على الصحة الواقعية.

وطبيعي هذا التساؤل لا معنى لطرحه في الحالة الاولى لفرض اتفاق النظرين ، وينبغي أيضا الجزم في الحالة الرابعة بالحمل على ما هو صحيح في نظر الفاعل ، لأن ما هو صحيح في نظر الحامل فاسد في نظر الفاعل ، فكيف يقدم عليه الفاعل.

واما الحالة الثالثة فالمناسب الحكم فيها بكون المدار على الصحة في نظر الحامل ، لأن العقلاء في سيرتهم لا يسألون : هل شروط العقد في نظر الفاعل تطابق الشروط في نظرنا أو لا؟

واما الحالة الثانية فالجزم فيها بانعقاد السيرة على الحمل على الصحة الواقعية مشكل.

٨١

٨ ـ تطبيقات‌

١ ـ شخص استأجرناه لأداء الحج. وبعد مضي فترة الحج أخبرنا بأنّه قد حجّ ، فتارة نشك : هل حج واقعا أو انه ذهب الى مكة لغرض النزهة أو التجارة ، وثانية : نعلم بأنه قد حج ولكن لا ندري ؛ هل أتى به عن نفسه أو عمّن استأجرناه لأداء الحج عنه ، وثالثة : نجزم بأنه قد حج ونجزم بأنه قد قصد به النيابة ، ولكن لا ندري هل أتى به بشكله الصحيح الكامل أو لا. هل هناك قاعدة يمكن تطبيقها في الحالات الثلاث المذكورة؟ وما هي؟

٢ ـ شخص رأيناه واقفا مقابل ميت وهو يتلفّظ بألفاظ لا ندري هل قصد بها اداء الصلاة على الميت أو قصد بها الدعاء للميت دون الصلاة عليه فهل هناك قاعدة يمكن تطبيقها؟

٣ ـ اذا اخبر شخص غير مسلم انه اجرى عقدا من العقود فهل يصدّق في اخباره هذا؟ وبأي نكتة؟

٤ ـ أجرى شخص عقدا وبعد الفراغ منه بفترة شك نفسه في صحة عقده فما ذا يحكم؟ ولأي نكتة؟

٥ ـ شخص رأيناه من بعيد يتكلم معنا لا ندري انّه سلّم علينا أو يسأل عن صحتنا فبما ذا نحكم؟

٦ ـ العين الموقوفة اذا باعها الناظر عليها وشك في ان بيعه هل هو مع وجود المسوغ أو لا فبما ذا نحكم؟

٧ ـ اذا أجرى شخص عقد صرف الذي يشترط فيه التقابض وشككنا في حصول التقابض وعدمه فهل يمكن تطبيق اصالة الصحة‌

٨٢

على العقد واثبات انه صحيح ومن ثم اثبات تحقق التقابض؟ وهكذا الكلام في الهبة،فلو فرض ان شخصا وهب لغيره مالا وشك في تحقق القبض فهل يمكن تطبيق اصالة الصحة على العقد واثبات تحقق القبض؟

٨٣
٨٤

قاعدة لا ضرر‌

١ ـ مضمون القاعدة‌

٢ ـ مدرك القاعدة‌

٣ ـ اختلاف صيغة الحديث‌

٤ ـ الجمع في الرواية أو في المروي‌

٥ ـ توضيح مفردات الحديث‌

٦ ـ المقصود من قاعدة لا ضرر‌

٧ ـ تطبيق الحديث على قضية سمرة‌

٨ ـ كيف يدفع محذور كثرة التخصيص‌

٩ ـ شمول الحديث للأحكام العدمية‌

١٠ ـ وجه تقدم الحديث على الأدلّة الأوّلية‌

١١ ـ الضرر الواقعي أو العلمي‌

١٢ ـ تعارض الضررين‌

١٣ ـ تطبيقات‌

٨٥
٨٦

قاعدة لا ضرر من القواعد المهمة في مقام الاستنباط ، فانّه بناء على كون المقصود منها نفي الحكم الذي ينشأ منه الضرر فسوف يثبت لدى الفقيه نفي وجوب الوضوء إذا ترتّب عليه الضرر ، ونفي وجوب الصوم إذا ترتّب عليه الضرر ، ونفي حرمة حلق اللحية إذا ترتّب على عدمه الضرر ، ونفي حرمة ابراز المرأة بعض محاسنها إذا ترتّب على عدمه الضرر ، ونفي حرمة كشف المرأة عورتها أمام الطبيب لأجل العلاج أو التلقيح أو الولادة إذا ترتّب على عدمه الضرر ، وأمثال ذلك كثير.

وقد بالغ بعض العامّة حتى قال : انّ الفقه يدور على خمسة أحاديث ، أحدها حديث لا ضرر ولا ضرار (١).

وقد اهتم بها علماؤنا الأعلام حتى ألّف كثير منهم رسائل مستقلة‌

__________________

(١) تنوير الحوالك للسيوطي ٢ : ١٢٢.

٨٧

في ذلك ، كشيخ الشريعة الاصفهاني والميرزا النائيني وغيرهما.

وقد بحثها الشيخ الأعظم في الرسائل (١) في مبحث شرائط جريان الاصول العملية الذي ذكره تحت عنوان خاتمة ، فانّه نقل عن الفاضل التوني : انّ من جملة شرائط جريان أصل البراءة عدم ترتّب ضرر على اجراء البراءة. وبهذه المناسبة أخذ بالبحث عن قاعدة لا ضرر بشكل مستقل.

وتابعه على ذلك من تأخر عنه ، فأخذوا بالبحث عنها في الموضع المذكور ، وبعضهم يطنب وبعضهم يختصر. ونحن نحاول الاختصار كي يسهل على الطالب هضم مباحثها.

ونمنهج الحديث عنها ضمن النقاط التالية :

١ ـ مضمون القاعدة.

٢ ـ مدرك القاعدة.

٣ ـ اختلاف صيغة الحديث.

٤ ـ الجمع في الرواية أو في المروي.

٥ ـ توضيح مفردات الحديث.

٦ ـ المقصود من قاعدة لا ضرر.

٧ ـ تطبيق الحديث على قضية سمرة.

٨ ـ كيف يدفع محذور كثرة التخصيص.

٩ ـ شمول الحديث للأحكام العدمية.

١٠ ـ وجه تقدم الحديث على الأدلّة الأوّلية.

__________________

(١) بل كتب عنها رسالة مستقلة الحقت بآخر المكاسب ، وتعرّض لها الشيخ النراقي في العائدة الرابعة من عوائد الأيام أيضا.

٨٨

١١ ـ الضرر الواقعي أو العلمي.

١٢ ـ تعارض الضررين.

١٣ ـ تطبيقات.

١ ـ مضمون القاعدة‌

وقع الاختلاف بين الأعلام في المقصود من قاعدة لا ضرر ولا ضرار ، فالشيخ الأعظم في رسائله فهم منها : ان كل حكم يتسبّب من ثبوته ضرر على المكلّف فهو مرفوع وغير ثابت في الشريعة.

وبكلمة اخرى : كل حكم شرّع في الإسلام فهو ثابت ما دام لا يلزم من ثبوته ضرر على المكلّف ، وفي أي فترة وحالة يلزم الضرر من ثبوته فيها كان مرتفعا.

وقد تابع الشيخ الأعظم في رأيه هذا جماعة ممّن تأخّر عنه.

وذهب آخرون ـ ومن جملتهم شيخ الشريعة الاصفهاني ـ إلى انّ المقصود النهي عن الاضرار بالآخرين وتحريم ذلك ، وليست بناظرة إلى الاحكام الشرعية ونفيها حالة لزوم الضرر.

وهناك تفاسير اخرى نكتفي الآن بما ذكر ، وسيتّضح بعضها الآخر فيما بعد إن شاء الله تعالى.

٢ ـ مدرك القاعدة‌

وردت جملة «لا ضرر ولا ضرار» في ثلاثة موارد :

٨٩

١ ـ قضية سمرة بن جندب التي رواها الكليني في الكافي (١) بالشكل التالي :

«عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد عن أبيه عن عبد الله بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : انّ سمرة بن جندب كان له عذق (٢) في حائط (٣) لرجل من الأنصار ، وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، وكان يمر به إلى نخلته ولا يستأذن ، فكلّمه الانصاري ان يستأذن إذا جاء فأبى سمرة ، فلمّا تأبّى جاء الأنصاري إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكا إليه وخبّره الخبر ، فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخبّره بقول الأنصاري وما شكا وقال : انّ أردت الدخول فاستأذن فأبى ، فلمّا أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله ، فأبى أن يبيع ، فقال : لك بها عذق يمدّ لك في الجنة ، فأبى أن يقبل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأنصاري اذهب فاقلعها وارم بها إليه فانّه لا ضرر ولا ضرار» (٤).

__________________

(١) الكافي ٥ : ٢٩٢.

(٢) العذق على ما في المنجد : كل غصن له شعب.

(٣) الحائط : هو البستان على ما في المنجد.

(٤) وسائل الشيعة : الباب ١٢ من إحياء الموات ح ٣. والرواية صحيحة السند.

أمّا العدة من أصحابنا فقد تعرّضنا إليها في أبحاثنا الرجالية ، وانتهينا إلى عدم وجود مشكلة من ناحيتها.

وأمّا أحمد بن محمّد بن خالد فهو البرقي المعروف بصاحب المحاسن ، وقد قال عنه النجاشي :«كان ثقة في نفسه ، يروي عن الضعفاء ، واعتمد المراسيل».

وأمّا والده فهو محمّد بن خالد البرقي وقد وثّقه الشيخ الطوسي في رجاله في أصحاب الرضا عليه‌السلام.

وأمّا عبد الله بن بكير فقد قال عنه الشيخ الطوسي : «فطحي المذهب إلاّ انّه ثقة».

وأمّا زرارة فهو أجلّ من أن يحتاج إلى توثيق.

٩٠

اضافة كلمة «على مؤمن»

وقد رواها الكليني نفسه ثانية وبعد عدة أحاديث بهذا الشكل : «علي بن محمد بن بندار عن أحمد بن أبي عبد الله عن أبيه عن بعض أصحابنا عن عبد الله بن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : ان سمرة بن جندب [إلى ان قال] فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انك رجل مضار ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن» (١).

وفي هذه الرواية كما نرى زيادة كلمة «على مؤمن» الأمر الذي له تأثير من بعض الجوانب ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ثم ان قضية سمرة المشتملة على جملة «لا ضرر ولا ضرار» قد رواها كل من الشيخ الطوسي (٢) والشيخ الصدوق (٣) ، وكل منهما رواها عن ابن بكير عن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

أجل ان الشيخ الصدوق روى بسنده عن الحسن الصيقل عن أبي عبيدة الحذّاء عن أبي جعفر عليه‌السلام قصة سمرة ، ولكن ليس في آخرها جملة : لا ضرر ولا ضرار ، وإنّما فيها «ما أراك يا سمرة إلاّ مضارا اذهب يا فلان فاقطعها ، واضرب بها وجهه» (٤).

وبهذا يتّضح ان قضية سمرة رويت في مصادرنا الحديثية بثلاثة أشكال :

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ١٢ من إحياء الموات ح ٤.

الرواية المذكورة ضعيفة السند من ناحية الارسال عن بعض اصحابنا.

(٢) التهذيب ٧ : ١٤٦.

(٣) الفقيه ٣ : ١٤٧.

(٤) الفقيه ٣ : ٥٩.

٩١

فتارة رويت وفي آخرها جملة «لا ضرر ولا ضرار» من دون اضافة.

وثانية رويت وفي آخرها جملة «لا ضرر ولا ضرار على مؤمن» أي : بزيادة قيد «على مؤمن».

وثالثة رويت من دون ذكر جملة «لا ضرر ولا ضرار».

ومن هنا قد يقال بعدم ثبوت ذكر جملة «لا ضرر ولا ضرار» في قضية سمرة لأجل تعارض النقل.

وقد يرد ذلك بأن التعارض المذكور تعارض بين الزيادة والنقيصة ، وأصالة عدم الزيادة مقدمة على أصالة عدم النقيصة.

٢ ـ مسألة الشفعة ؛ فقد روى المشايخ الثلاثة عن عاقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن. وقال : لا ضرر ولا ضرار ، وقال إذا ارّفت الارف (١) وحدت الحدود فلا شفعة (٢).

٣ ـ مسألة مشارب النخل وفضل الماء ؛ فقد روى الكليني بسنده إلى عاقبة بن خالد أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أهل المدينة في مشارب النخل : انه لا يمنع نفع الشي‌ء (٣).

__________________

(١) أي رسمت الحدود. وكأنه يراد بذكر جملة «لا ضرر» بيان حكمة تشريع الشفعة ، كما وانه يراد بذكر جملة «إذا ارفت ...» الرّد على قول من يقول بأنّ الشفعة ثابتة بعد تقسيم الأرض وتعيين حصة كل شريك.

(٢) وسائل الشيعة : الباب ٥ من أبواب الشفعة ح ١.

(٣) لعلّ كلمة نقع ـ بالقاف ـ أنسب. والنقع هو الفاضل. قال ابن الأثير في النهاية في شرح الحديث : فيه نهي ان يمنع نقع البئر ـ أي فضل مائها ـ لأنّه ينقع به العطش أي يروي.

(النهاية ٥ : ١٠٨).

٩٢

وقضى بين أهل البادية انّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء فقال لا ضرر ولا ضرار» (١).

هذا ولكن عاقبة بن خالد لم يثبت توثيقه ، فيكون المدار على روايات قصة سمرة.

اتّضح ممّا تقدم‌

اتضح مما تقدم ان قيد «على مؤمن» لم يرد في رواية معتبرة السند ، وعليه فما افاده الشيخ الأعظم من انّ أصح الروايات سندا ما ورد فيه «لا ضرر ولا ضرار على مؤمن» موضع تأمّل.

كما واتّضح انّه لا يمكن أن يقال : إنّ قضية سمرة قضية واحدة لا يحتمل فيها التعدد ، وقد نقلت تارة متضمّنة جملة «لا ضرر ولا ضرار» وأخرى متضمّنة لشي‌ء آخر وهو «ما أراك يا سمرة إلاّ مضارا. اذهب يا فلان فاقطعها واضرب بها وجهه» ، ومع تعارض النقل لا يبقى ما يثبت وجود جملة «لا ضرر ولا ضرار».

__________________

(١) الوسائل : الباب ٧ من إحياء الموات ح ٢.

ثم إنّه يحتمل أن يكون المقصود من جملة «لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء» هو انّ الشخص الذي عنده بئر فضل قسم من مائها لو منع الناس من ذلك الفاضل فسوف يصير منعه سببا لعدم مرور رعاة الأنعام على تلك المنطقة التي فيها البئر ، ومن ثمّ سوف يبقى الكلأ الفاضل عاطلا في الصحراء ومن دون حيوانات تستفيد من أكله.

وبهذا يتّضح انّ اللام للعاقبة ، أي : لا يمنع فضل الماء الذي عاقبته المنع من فاضل الكلأ.

وقد ذكر شيخ الشريعة في (رسالته : ١٤) ان هذا هو المعروف في تفسير الحديث.

ثم نقل عن الشيخ الطوسي في المبسوط الحكم التالي : كل موضع قلنا انه يملك البئر فانه احق بمائها بقدر حاجته لشربه وشرب ماشيته وسقي زرعه ، فإذا فضل بعد ذلك شي‌ء وجب عليه بذله بلا عوض ... وليس له منع الماء الفاضل من حاجته حتى لا يتمكن غيره من رعي الكلأ الذي يقرب ذلك الماء ...

٩٣

ووجه بطلان المعارضة المذكورة : ان مستند النقل الثاني هو رواية الحذاء ، وهي ضعيفة السند بالحسن الصيقل وغيره.

هذا مضافا إلى امكان أن يقال إنّ المقام ليس من صغريات باب المعارضة ، إذ النقل الفاقد للزيادة لا ينفي وجود الزيادة ليعارض ما دلّ على وجود الزيادة.

وبعد هذا لا نبقى بحاجة إلى ما أفاده الميرزا لنفي الزيادة من انّ مدرك عدم الزيادة هو أصالة عدم الزيادة التي مستندها سيرة العقلاء ، ولكن لا يعلم بناء العقلاء في مثل المقام على تقديم أصالة عدم الزيادة ، حيث يحتمل قريبا كون الزيادة قد حصلت من الراوي لمغروسيتها في ذهنه عند نقله الرواية بالمعنى بمناسبة الحكم والموضوع وملاحظة أشباه ذلك من مثل لا رهبانية في الإسلام ولا اخصاء في الإسلام.

ان هذا البيان الميرزائي لسنا بحاجة إليه بعد ضعف مستند وجود الزيادة في نفسه.

٣ ـ اختلاف صيغة الحديث‌

ورد في بعض مصادر الحديث زيادة قيد «على مؤمن» كما أشرنا إلى ذلك سابقا، وأشرنا إلى انّ ذلك لم يثبت بطريق معتبر.

وورد في بعض مصادر الحديث : لا ضرر ولا إضرار ، فالفقرة الثانية هي «ولا إضرار» وليس «ولا ضرار». ومن جملة المصادر التي ورد فيها ذلك الفقيه ، حيث نقل الحديث هكذا : «لا ضرر ولا إضرار‌

٩٤

في الإسلام» (١).

وفي بعض مصادر حديث العامّة ورد : «لا ضرر ولا ضرورة».

وفي بعضها «لا ضرر في الإسلام» (٢) بحذف الفقرة الثانية.

والمهم من بين هذه النقول التي نريد لفت النظر إليه هو ما اشتمل على قيد «في الإسلام» ، فانّ شيخ الشريعة الاصفهاني ذهب إلى أن المقصود من الحديث المذكور افادة النهي التكليفي ، ولكن الذي كان يقف أمامه وجود قيد «في الإسلام» ، فان ذلك لا يتلاءم وافادة النهي.

ومن هنا أخذ ينفي القيد المذكور ، حيث ذكر في الفصل الثالث من الفصول الاثني عشر التي رتّب رسالته عليها : انّ القيد المذكور غير موجود في الروايات بما في ذلك روايات العامّة ، فقد تفحّصت كتبهم وصحاحهم ومسانيدهم ومعاجمهم فحصا أكيدا فلم أجد رواية أصل الحديث إلاّ عن ابن عباس وعن عبادة بن الصامت ، وكلاهما رويا الحديث بدون الزيادة السابقة ، وبعد هذا فلا ندري من أين جاء ابن الأثير بهذه الزيادة في نهايته.

ثم قال في نهاية كلامه : وأعجب من الكلّ ما رأيته في كلام بعض المعاصرين من دعوى الاستفاضة مع هذا القيد واسناده إلى المحقّقين تواتر الحديث مع الزيادة المذكورة(٣).

ونحن لسنا في صدد التعليق على كلام شيخ الشريعة من جميع جوانبه ، فحصر رواة الحديث بابن عباس وعبادة في غير محله ، فهناك‌

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٢٤٣.

(٢) راجع هذا وما قبله في قاعدة لا ضرر للسيد السيستاني : ١٠٥.

(٣) قاعدة لا ضرر لشيخ الشريعة : ١٢ ـ ١٣.

٩٥

عدة آخرون يبلغ عددهم ستة أو سبعة يروون هذا الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

كما ان زيادة قيد «في الإسلام» موجودة في رواية أبي لبابة ورواية جابر بن عبدالله (١).

والذي نريد لفت النظر إليه هو ان اضافة القيد المذكور ثابت في مصادرنا أيضا ، فالصدوق (٢) ، روى بشكل مرسل حديث لا ضرر مع الزيادة المذكورة (٣).

ورواها مع القيد المذكور كل من ابن أبي جمهور الاحسائي في عوالي اللآلي عن الشهيد الأوّل في بعض مصنفاته عن أبي سعيد الخدري ، والشيخ الطوسي في كتاب الشفعة من الخلاف ، والعلاّمة في خيار الغبن من التذكرة.

وقد يحاول تصحيح رواية الصدوق المرسلة ببيان أنّ مراسيل الصدوق إذا كانت بلسان قال فهي حجة دون ما إذا كانت بلسان (روي).

ويمكن توجيه ذلك بأحد البيانين التاليين :

أ ـ ما تبنّاه جماعة منهم السيد الخوئي في رأيه القديم المذكور في الدراسات (٤)، وحاصله : أنّ التعبير ب «قال» يدلّ على ثبوت الرواية‌

__________________

(١) وقد أوضح السيد السيستاني ذلك في رسالة قاعدة لا ضرر : ٧٥ ـ ٨٣.

(٢) الفقيه ٤ : ٢٤٣.

(٣) وقد أشار إلى ذلك السيد محمد علي القاضي في هامش رسالة لا ضرر لشيخ الشريعة الاصفهاني : ١٣ فراجعه.

(٤) الدراسات : ٣٢٢.

٩٦

وصحتها لدى الصدوق ، وإلاّ لما جاز له الإخبار بنحو الجزم وانّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال كذا، فإخباره الجزمي يدل على حجيتها وصحتها لديه ، وهو المطلوب.

وجواب ذلك واضح فانّ حجّية خبر عنده لا تستلزم حجيته عندنا ، إذ لعله اطمأن به بسبب قرائن لو اطّلعنا عليها لم توجب لنا الاطمئنان ، كما أوضح هذا التراجع قدس‌سره في مصباح الاصول (١).

ب ـ ان التعبير ب «قال» يدل على جزم الصدوق ، وإذا احتملنا استناد هذا الجزم إلى الحس طبّقنا أصالة الحسّ العقلائية. وفي المقام حيث نحتمل انّ الجزم وليد الحسّ ـ بأن كان هناك تواتر في نقل الحديث المذكور استند إليه الصدوق ـ فنحكم بكونه عن حسّ.

وإذا قيل : إذا كان هناك تواتر فلما ذا لم نعثر على نقل الحديث من غير الطرق القليلة المذكورة سابقا؟

كان الجواب : أنّ الحديث بما أنّه نبوي وديدن الأصحاب لم يكن على ضبط الأحاديث النبوية المروية عن غير الأئمّة عليهم‌السلام فنحتمل انّ التواتر كان ولم يضبط ، ولا استبعاد في كون هذا الخبر زمن الصدوق كان متواترا (٢).

وفيه :

أ ـ ان تعبير الصدوق ب «قال» لو دلّ على الجزم فهو يدل على الجزم الأعم من الوجداني والتعبدي ولا يتعين في الوجداني ، والجزم التعبدي يكفي فيه اطمئنانه بصدور الرواية ولو لقرائن لو اطلعنا عليها‌

__________________

(١) مصباح الأصول ٢ : ٥٢٠.

(٢) بحوث في علم الاصول ٥ : ٤٣٧.

٩٧

قد لا نراها موجبة للاطمئنان.

ب ـ ان أصالة الحسّ تجري لتعيين حال النقل وانّه عن حسن لا عن حدس ، ولا جزم بانعقادها لتعيين حال الجزم.

وبكلمة أخرى : ان نقل الصدوق يشتمل على أمرين : نقل الرواية ، وانه جازم بها. وأصالة الحسّ تجري بلحاظ أصل النقل لإثبات انه عن حسّ دون تعيين حال الجزم لعدم الجزم بانعقادها على ذلك.

ج ـ ان التواتر المحتمل امّا هو بلحاظ نقل الشيعة ، أو بلحاظ نقل العامة ، أو بلحاظ كليهما.

وإذا لاحظنا جميع المصادر لربّما يحصل للشخص تواتر ، إلاّ انّ الذي يمكن حصوله هو التواتر بلحاظ فقرة : لا ضرر ولا ضرار من دون ضم قيد «في الإسلام»، امّا إذا أردنا ملاحظة هذا القيد فلا يمكن تحصيل التواتر ، لأنّ القيد المذكور وارد في نقول قليلة لا تتجاوز الثلاثة أو الأربعة.

د ـ ان تعبير الصدوق لا يدل على الجزم أصلا ، لأنّ ظاهر كلامه انّه بصدد الاحتجاج على العامة ، فانّ الحديث ذكره تحت عنوان ميراث أهل الملل ، فالمسلم إذا مات هل يرثه الكافر ، والكافر إذا مات هل يرثه المسلم.

وفي هذا المجال ذكر أنّ الكافر لا يرث المسلم عقوبة له على كفره ، ثم قال ما نصّه : «فأمّا المسلم فلأي جرم وعقوبة يحرم الميراث؟

وكيف صار الإسلام يزيده شرّا مع قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الإسلام يزيد ولا ينقص، ومع قوله عليه‌السلام لا ضرر ولا إضرار في الإسلام؟ فالإسلام يزيد‌

٩٨

المسلم خيرا ولا يزيده شرا» (١).

انه بذلك يقصد الرّد على العامة الذين حرموا المسلم من ارث الكافر أيضا ، فهو كأنه يخاطبهم ويقول لهم : كيف لا يرث المسلم الكافر ، والحال أنّ الحديث الوارد في رواياتكم يقول : لا ضرر ولا إضرار في الإسلام؟!

ومن الغريب ما ذكره بعض الأعلام قدس‌سره من انّ قيد «في الإسلام» الوارد في الفقيه اشتباه. وقرّب الاشتباه بما يلي : إنّ من المحتمل كون الوارد في أصل الفقيه هكذا:لا ضرر ولا اضرار فالإسلام يزيد ... فالحديث ذكر من دون قيد : «في الإسلام» ، وإنّما ذكر الصدوق «فالإسلام يزيد ...» بصدد تكملة ردّه على العامّة. ولكن الكاتب اشتبه فكرّر كلمة «فالإسلام» مرتين من باب سهو القلم.

ثم بعد ذلك جاء دور من تأخر عن الكاتب ورأى أنّ كلمة «فالإسلام» كررت مرتين ، فظن الاشتباه وتخيّل ان المناسب بدل كلمة «فالإسلام» الاولى : «في الإسلام» ، فصحّح العبارة وصارت النتيجة كما نراه اليوم (٢).

وفيه : إنّ ما ذكره مجرّد احتمال لم يقم دليلا على اثباته ، بل الدليل على عكسه،وهو اتفاق النسخ على ما هو الموجود اليوم ، ولم ينقل عن أحد وجود نسخة اخرى للعبارة المذكورة.

بل انّ في كلام الصدوق نفسه قرينة تدل على ضرورة وجود قيد «في الإسلام» ، وهي كونه في صدد الرّد على العامة ، وكأنه يريد ان‌

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٢٤٣.

(٢) الرسائل : ٢٥.

٩٩

يقول : لا ضرر ولا إضرار بسبب الإسلام ، والمسلم إذا حرم من ارث الكافر لزم تضرره بسبب الإسلام.

وبهذا يتّضح ان كلمة «في» في قوله : «في الإسلام» سببية ، نظير ما ورد عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «انّ امرأة دخلت النار في هرّة ...». أي : بسبب هرّة.

لفت نظر‌

ذكرنا أنّ نكتة البحث عن وجود قيد «في الإسلام» وعدمه تظهر في امكان استفادة النهي التكليفي من الحديث ، فان شيخ الشريعة اختار إرادة التحريم التكليفي من حديث لا ضرر.

وهذا الرأي يقف أمامه وجود القيد المذكور ـ ومن هنا أخذ شيخ الشريعة ينفي القيد المذكور ـ إذ لا معنى لأن يقال : لا تضر في الإسلام بنحو يقصد الإنشاء دون الإخبار.

هذا وبالامكان أن يقال : إنّ وجود القيد المذكور إنّما يتنافى مع إرادة النهي لو فرض انّا فسرنا النفي بالنهي ، امّا إذا وجّهنا ذلك بأن المقصود هو الإخبار بداعي الإنشاء ـ من قبيل يعيد بداعي إنشاء وجوب الاعادة ، أو قدّرنا خبرا محذوفا ؛ أي لا ضرر جائزا في الإسلام ـ فلا منافاة بين القيد المذكور وإرادة النهي.

٤ ـ الجمع في الرواية أو في المروي‌

ورد في حديث الشفعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشفعة بين الشركاء ... وقال : لا ضرر ولا ضرار.

ان في هذا الحديث احتمالين ، فيحتمل ان الجملة الثانية قد صدرت‌

١٠٠