دروس تمهيديّة في القواعد الفقهيّة - ج ١

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

دروس تمهيديّة في القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
الطبعة: ٥
ISBN: 964-499-038-2
ISBN الدورة:
964-91559-2-9

الصفحات: ٢١٤
الجزء ١ الجزء ٢

ذلك أنّ مدير الاسرة قد أضرّ بحال من أخذ منه الأموال؟ انّه لم يأخذها ليضعها في كيسه الخاص بل أخذها لإصلاح شئونهم.

وهكذا لو فرض أنّه قال : من أتلف أموالا لغيره بعمد أو غير عمد فيلزم أن يدفع عوضها ، أو قال : من جنى على غيره فللمجني عليه ، أو أوليائه الجناية بالمثل أو أخذ الفداء (١) ، هل ترى أنّ أمثال هذه المقررات التي يصدرها ربّ الاسرة أو شيخ العشيرة ضرر ، أو هي عين النفع والعدالة والاستقامة التي بها ينتظم أمر المجتمع؟

وهكذا إذا قال : كلّ من تلوّث طعامه بالميكروبات فعليه عدم تناوله حفاظا على صحّته ، هل مثل هذا يعدّ إضراراً بهم؟

وهكذا إذا قال : على أفراد الاسرة القادرين على حمل السلاح مداهمة العدو والهجوم عليه بين آونة وأخرى حفاظا على الاسرة من العدوّ ، هل مثل ذلك يعدّ اضراراً بها؟

وهكذا إذا قال : على كل واحد من أولادي المتزوّجين سدّ حاجة زوجته وأطفاله، هل يعدّ مثل ذلك إضراراً؟

وهكذا إذا قال : كلّ من التزم على نفسه بقضية معيّنة فعليه الوفاء بالتزامه ، وإذا لمّ يف فعليه دفع غرامة معيّنة ، هل ترى مثل ذلك إضرارا؟

وهكذا إذا قال : كلّ من خالف المقرّرات المرسومة لصالحة عزّر ، أو سجن لفترة تأديبا ، أو يلزمه دفع غرامة معيّنة ، هل يعدّ مثل ذلك إضرارا؟

__________________

(١) المعبّر عنه بالفصل في الأوساط العراقية.

١٤١

وهكذا إذا قال : على التلاميذ إطاعة تكاليف المعلّم ، وعلى الأولاد إطاعة أوامر أبيهم، وعلى الزوجة إطاعة أمر زوجها ، هل مثل ذلك يعدّ إضرارا؟

إنّنا إذا قبلنا عدم كون مثل هذه القوانين إضرارا بأفراد الاسرة ، أو هي بالاحرى ليست إضرارا بالنظرة العقلائية وبلحاظ القيم العقلائية التي يسمو الإنسان إلى تحقيقها ـ وإن كانت إضرارا من زاوية اللغة ـ فلما ذا لا نقول مثل ذلك في الإسلام؟

إنّ الإسلام ينظر إلى المجتمع الإسلامي كاسرة واحدة ، والشارع هو المشرف على مصالحها ، كيف لا ، والمسلمون في تراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر؟!

وتكفينا الآيات القرآنية حيث تخاطب المسلمين بخاطب الواحد :(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ ...) (١).

إنّ قوانين الإسلام في باب الحدود والديات والتعزيرات والقصاص والضمان والخمس والجهاد والزكاة والإنفاق على الزوجة والأقارب ترجع مصالحها إلى المجتمع الواحد ، فكيف تكون اضرارا؟

انّ بها ديمومة المجتمع وبدونها لا يدوم ولا يمكن له الاستمرار ، فكيف تكون اضرارا؟

وهل حكم الشارع بتنجّس المضاف ووجوب اراقته حفاظا على المجتمع الإسلامي من الميكروبات إضرار به؟!

__________________

(١) آل عمران : ١١٠.

١٤٢

أم هل الحجّ الذي به يلتقي المسلمون بعضهم ببعضهم الآخر ، ويحصل التعرّف بينهم وحلّ مشاكلهم ، وفيه ارتزاق أهل مكّة واستفادة الفقراء من الذبائح والتجارة ، والاطّلاع على مهد الرسالة ومواضع نزول جبرئيل والتقاء أفراد الامّة بأئمتها وعلمائها ، والتواجد في مثل تلك المشاعر الشريفة التي يشعر فيها المؤمن بالاتّصال بالله وصقل روحه صقلا كاملا ، هل في مثل ذلك كلّه ضرر؟

إن بذلك وحدة المسلمين وقوّتهم واستمرارهم ، هل مثل ذلك ضرر أو عين النفع والصواب؟!

إنّنا لو أردنا أن نؤسّس مجتمعا عقلائيا يعيش المدينة الفاضلة لما كنّا نعدو أمثال هذه القوانين ، ولئن كنّا نعدو بعضها فذلك وليد جهلنا بها وعدم توصّل عقول العقلاء إليها.

والذي نراه سببا لنشوء فكرة التخصيص الكثير : النظر إلى الإسلام كمجموعة تشريعات جاءت لإصلاح شئون الأفراد دون المجتمع ، انّ النظر إلى الإسلام بهذا الشكل يولّد حتما مثل هذه الشبهة ، أمّا إذا نظرنا إليه بصفته مجموعة تشريعات جاءت لإصلاح الساحة العالمية أيضا فلا يتمّ ما ذكر ، لأنّ الساحة العالمية تحتاج إلى مثل هذه القوانين ليلتئم فيها النظام وتسود به السعادة ؛ (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) (١).

والكلمة المختصرة في حلّ الشبهة : انّ الضرر في الأمثلة المتقدّمة وغيرها يصدق فيما إذا لم يعد نفع القانون إلى الشخص نفسه‌

__________________

(١) البقرة : ١٧٩.

١٤٣

أو إلى المجتمع الإسلامي ، أمّا بعد عود النفع إلى أحد هذين فالضرر غير صادق على المستوى العقلائي ولا يعد لدى العقلاء ضررا ، أو على الأقل يعدّ ضررا غير أنّه ضرر مقبول لدى العقلاء ، وحديث نفي الضرر حينما يقول : لا ضرر يقصد نفي ما يكون ضررا على المستوى العقلائي.

٩ ـ شمول الحديث للأحكام العدمية‌

وقع الكلام في أنّ حديث لا ضرر هل يشمل الأحكام العدمية أو يختصّ بالأحكام الوجودية ، فوجوب الوضوء مثلا حكم وجودي ولا إشكال في شمول الحديث له حالة الضرر ، وأمّا عدم ثبوت حقّ الطلاق لغير الزوج ـ عند عدم قيامه بالإنفاق على الزوجة ، أو عند حبس الزوج لفترة طويلة تستوجب تضرّر الزوجة ـ فهو حكم عدمي ، وعدم انتفائه في الحالات المذكورة وأمثالها يستوجب الضرر ، فهل يمكن تطبيق الحديث عليه ومن ثمّ ليثبت حقّ الطلاق لغير الزوج؟

اختار السيّد اليزدي في ملحقات العروة ثبوت حقّ الطلاق للحاكم ، لأنّ عدم ثبوته له يستلزم الضرر ، فينتفي ذلك العدم بحديث لا ضرر وبالتالي يثبت الوجود ، أي يثبت حقّ الطلاق للحاكم (١).

ومثال ثان لذلك : إذا حبس شخص شخصا آخر حرّا يوما أو يومين وفات بذلك عمله ، انّ المشهور قالوا بعدم الضمان ويختصّ الضمان بمن حبس عبد الغير أو حبس أجير الغير ، فإنّ منافع العبد‌

__________________

(١) ولم يستند السيّد اليزدي إلى حديث لا ضرر فقط ، بل تمسّك بالروايات الخاصّة أيضا.

١٤٤

والأجير فاتت بسبب الحبس فيمكن تطبيق قاعدة من أتلف مال الغير فهو له ضامن وهذا بخلاف الحرّ فإنّه ليس بمال فلا تشمله قاعدة من أتلف مال الغير ، بل إذا كان هناك مدرك للضمان فهو يختصّ بقاعدة لا ضرر بناء على شمولها للأحكام العدمية ، فيقال : إنّ عدم ضمان منافع الحرّ المحبوس ضرر عليه فيلزم ضمانها بحديث لا ضرر بناء على شمولاه الأحكام العدمية.

ومثال ثالث لذلك : ما إذا كان العبد تحت الشدّة والمولى يؤذيه كثيرا ، فإنّ عدم انعتاقه ضرر عليه فيلزم انعتاقه تطبيقا لحديث لا ضرر بناء على شمولاه للأحكام العدمية.

وقد يستدلّ على عدم شمول الحديث للأحكام العدمية بما يلي :

١ ـ ما أفاده الشيخ النائيني (١) ، من أنّ حديث لا ضرر ناظر إلى الأحكام التي جعلها الشارع وشرّعها لينفيها حالة الضرر ، وعدم الحكم ليس أمرا مجعولا من قبله ليشمله الحديث ، وإنّما هو عدم جعل لا جعل للعدم.

والسيّد الخوئي في مصباح الاصول (٢) سلّم نظر الحديث إلى خصوص الأحكام المجعولة ، ولكنّه دفع ذلك بأنّ عدم جعل الحكم في الموضع القابل للجعل نحو جعل للعدم ، وكأنّ الشارع قد جعل عدم الحكم.

وما أفاده لا يخلو من تكلّف.

والمناسب أن يقال : لا موجب لتخصيص نظر الحديث إلى‌

__________________

(١) رسالة لا ضرر : ٢٢٠.

(٢) مصباح الاصول ٢ : ٥٦٠.

١٤٥

خصوص الأحكام المجعولة ، فان ذلك بلا موجب ، إذ المقصود نفي الضرر اللازم من الموقف الشرعي ، ففي عالم التشريع لم يتّخذ الشارع موقفا يلزم منه الضرر على المكلّفين ، ومن الواضح أنّ عدم حكم الشارع بثبوت حقّ الطلاق للزوجة ، أو للحاكم الشرعي موقف من قبل الشارع يلزم منه الضرر على الزوجة ، وهكذا بالنسبة إلى بقية الأمثلة.

هذا مضافا إلى أنّ بعض الأمثلة المتقدّمة يمكن تصوير الحكم فيها وجوديا ، كما هو الحال في مثال الزوجية ، فإنّ ثبوت حقّ الطلاق للزوج وكونه خاصّا به بشكل مطلق يستلزم الضرر في الحالات المتقدّمة فيكون منفيا.

وهكذا يمكن تصوير الحكم وجوديا في مثال العبد ، فان حكم الشارع ببقاء الرقيه بشكل مطلق وفي كل الحالات يستلزم الضرر.

٢ ـ ما أفاده الشيخ النائيني أيضا من أنّ لازم شمول الحديث للأحكام العدمية تأسيس فقه جديد ، إذ يلزم صيرورة أمر الطلاق بيد الزوجة في حالة تضرّرها ، فمن حقّها أن تطلّق نفسها ولو لم يطلّقها الزوج ، وهذا غريب لم يعهد من أحد القول به.

وفيه : انّ ما ذكره ليس إلاّ مجرّد شعار وإعلام ، فقد نقل هو قدس‌سره أنّ السيّد الطباطبائي اليزدي في ملحقّات العروة يرى : إمكان الحكم بثبوت حقّ الطلاق لغير الزوج تمسّكا بحديث لا ضرر.

والمناسب أن يقال بشمول الحديث للأحكام العدمية والالتزام بما يؤدّي إليه من نتائج فيما إذا لم يكن هناك إجماع على خلافها ، ومجرّد عدم كونها معروفة بين الفقهاء لا يمنع من التمسّك بعموم الحديث.

٣ ـ انّ حديث لا ضرر حديث نفي وليس حديث إثبات ، فهو كأنّه‌

١٤٦

يقول : أنا أنفي الأحكام التي يستلزم ثبوتها الضرر ، ولا يقول : أنا أثبت الأحكام التي يستلزم عدمها الضرر.

وفيه : إنّا نسلّم ظهوره في النفي دون الإثبات حيث عبّر بكلمة «لا» النافية ، إلاّ أنّه ينفي الضرر من زاوية عالم التشريع ، فكأنّه يقول لا يلزم ضرر من ناحية مواقفي التشريعيّة في عالم التشريع ، وواضح أنّ نفي الضرر من هذه الزاوية له مصداقان ، أحدهما : نفي الحكم الذي يستلزم ثبوته الضرر والآخر : إثبات الحكم الذي يستلزم عدمه الضرر. فإثبات الحكم الذي يستلزم عدمه الضرر إذن مصداق للمدلول المباشري ، ولا ندّعي كونه مدلولا مباشريّا.

٤ ـ انّه بناء على شمول الحديث للأحكام العدمية يكون مفيدا بيان تشريع أحكام يستلزم عدمها الضرر. ومن المناسب للإنسان العرفي إذا أراد بيان تشريع أحكام وجودية أن يعبّر بنفس الحكم الوجودي ، ويقول : شرّعت هذا الحكم الوجودي ، وليس من المناسب الاستعانة بنفي النفي ، فإنّ نفي النفي وإن كان إثباتا ، إلاّ أنّه ليس طريقة عرفية لإفادة الحكم الوجودي.

وفي مقامنا لو كان عدم ثبوت حقّ الطلاق للزوجة ضررياً ومشمولاً للحديث لكان لازم ذلك دلالة الحديث على نفي عدم ثبوت حقّ الطلاق للزوجة ، الذي هو عبارة اخرى عن ثبوت حقّ الطلاق للزوجة ، ومثل هذه الطريقة ليست عرفية ، فليس من المناسب بيان ثبوت حقّ الطلاق للزوجة بنفي النفي ، فالحديث بناء على شمولاه للأحكام العدمية يكون قد استعان بهذه الطريقة التي هي ليست عرفية.

وفيه : انّ الحديث بلسانه المباشري ينفي الضرر من زاوية‌

١٤٧

الموقف التشريعي لا أكثر ، لكن نفي الضرر من هذه الزاوية قد يتطابق بحسب النتيجة مع نفي النفي ، فنفي النفي ليس مدلولا للدليل بشكل مباشر حتى يقال : إنّ ذلك أمر غير عرفي ؛ وإنّما هو قضية متطابقة بحسب النتيجة مع مفاد الدليل المباشري ، والذي هو مستهجن كون مفاد الدليل بشكل مباشر نفي النفى ، أمّا مجرّد التطابق فليس بمستهجن.

١٠ ـ وجه تقديم الحديث على الأدلّة الأوّلية‌

لا إشكال في أنّ نسبة حديث نفي الضرر إلى أدلّة الأحكام الأوّلية نسبة العموم من وجه ، فدليل وجوب الوضوء ـ مثلا ـ يدلّ على وجوب الوضوء في حالتي الضرر وعدمها ، وحديث نفي الضرر يدلّ على نفي الحكم الضرري ، سواء كان من قبيل وجوب الوضوء أو غيره ، فذاك يشمل حالة الضرر وغيرها ، وهذا يشمل وجوب الوضوء وغيره.

ومادة الاجتماع التي يتعارضان فيها هي الوضوء الضرري ، فإنّ أحدهما يثبت الوجوب فيها والآخر ينفيه.

والمناسب في موارد المعارضة بنحو العموم من وجه هو تساقط الدليلين في مادة المعارضة لا تقديم أحدهما ، ومعه فلما ذا يقدّم حديث نفي الضرر على الأدلّة الأوّلية؟

ونلفت النظر إلى أنّه لا إشكال بين الأعلام في تقدّم حديث نفي الضرر ، وإنّما الإشكال والتساؤل عن النكتة الفنيّة لذلك.

وفي هذا المجال ذكرت عدّة أجوبة كان أحدها كون التقديم من جهة حكومة الحديث.

١٤٨

وحينما انجرّ الحديث إلى الحكومة وقع اختلاف ثان في المقصود من مصطلح الحكومة فهل يقصد منه نظر أحد الدليلين إلى الآخر أو يقصد منه شي‌ء آخر؟

وانجرّ الحديث إلى اختلاف ثالث وهو : ما هي النكتة الفنيّة التي لأجلها يقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم؟

انّ هذه مواطن ثلاثة للاختلاف نحاول المرور عليها بشكل سريع.

وجه التقدّم‌

أمّا بالنسبة إلى وجه تقدّم الحديث على الأدلّة الأوّلية فهناك عدّة آراء ، نذكر من بينها :

١ ـ انّ حديث نفي الضرر حينما نلحظه بالقياس إلى كل دليل من أدلّة الأحكام الأوّلية بانفراده فالنسبة وإن كانت هي العموم من وجه ، إلاّ أنّه حينما نلحظه بالقياس إلى مجموع الأدلّة الأوّلية فالنسبة نسبة العموم والخصوص المطلق ، فإن دليل وجوب الصلاة لو ضمّ إلى دليل وجوب الصوم والحجّ و ... صار مجموعها بمنزلة دليل واحد يقول : تجب الصلاة والصوم وبقية الواجبات ، ونسبة هذا الدليل الواحد الملحوظ بهذا الشكل إلى حديث لا ضرر نسبة العموم والخصوص المطلق ، فحديث لا ضرر بمنزلة الأخص ويقدّم من جهة الأخصيّة.

والوجه في صيرورته أخصّ : انّ دليل وجوب الصوم والصلاة و ... وإن كان يثبت وجوب الامور المذكورة في حالة الضرر وعدمها ـ وهو من هذه الناحية أعمّ ـ إلاّ أنّ حديث نفي الضرر يصير خاصّا وتنتفي عنه جهة العمومية ، لأنّه إنّما كان أعمّ باعتبار أنّه ينفي الحكم‌

١٤٩

الضرري ، سواء كان وجوب الصلاة أو وجوب الصوم أو بقية الأحكام ، فإذا فرض انّ كل الأحكام لوحظت بمنزلة حكم واحد فلا تبقى له عمومية.

وفيه : انّ ملاحظة مجموع الأدلّة الأوّلية بمنزلة دليل واحد عناية تحتاج إلى ما يبرّرها بعد فرض انّ كلّ واحد منها دليل مستقلّ حقيقة ، ولا مبرّر يثبت ذلك.

٢ ـ لو لم يقدّم حديث لا ضرر على الأدلّة الأوّلية يلزم الغاؤه رأسا وعدم بقاء مورد له ، وهذا بخلاف ما لو قدّم فإنّه لا يلزم إلغاء الأدلّة الأوّلية رأسا ، وإنّما يلزم اختصاصها بموارد عدم الضرر. وكلّما دار الأمر بين دليلين من هذا القبيل قدّم ما يلزم من عدم تقديمه الغاؤه رأسا ، وهو حديث لا ضرر في المقام.

وفيه : انّ هذا الوجه جيّد ، ولكن لا ينحصر وجه التقديم به كما سيتّضح.

٣ ـ ما ذكره الآخوند في الكفاية. وحاصله : انّه كلّما كان عندنا دليلان، أحدهما: وارد لبيان الحكم الأوّلي للشي‌ء ، والآخر : لبيان الحكم الثانوي له فالعرف يوفّق بينهما بحمل الأوّل على الحكم الاقتضائي والثاني على الحكم الفعلي ، وفي المقام حيث إنّ الضرر عنوان ثانوي للأشياء فالعرف يحمل حديث نفي الضرر على بيان الحكم الفعلي وأنّ الوضوء محكوم فعلا بعدم الوجوب وانّ الوجوب الذي كان ثابتا له ثابت بنحو الاقتضاء ، أي أنّ في الوضوء مصلحة واقتضاء للوجوب بدون أن يصل ذلك إلى مرحلة الفعلية.

انّ الآخوند يعتقد أنّه كلّما اجتمع دليلان : أوّلي وثانوي فالعرف‌

١٥٠

يوفّق بينهما بحمل الأوّلي على الاقتضائي ، والثانوي على الفعلي.

وعند اجتماع الحكم الفعلي والاقتضائي لا إشكال في لزوم الأخذ بالحكم الفعلي.

وفيه : أنّه ليس بوسعنا التصديق بورود الأدلّة الأوّلية لبيان الحكم الاقتضائي. وكيف يحتمل ورود مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...) (١) لبيان الحكم الاقتضائي ، وانّ هناك مقتضيا ومصلحة في الوضوء تقتضي وجوبه من دون أن يكون دالاّ على وجوبه الفعلي؟!

وإذا قيل : ليس المدّعى أنّ دليل وجوب الوضوء يدلّ على الحكم الاقتضائي دائما وفي جميع الحالات ، وإنّما المدّعى دلالته على ذلك عند كونه مضرّا. وبتعبير أوضح هو يدلّ على الوجوب الفعلي عند عدم كونه مضرّا ، وعلى وجوبه الاقتضائي عند كونه مضرّا.

قلنا : إنّ الدليل الواحد إمّا أن يدلّ على الوجوب الفعلي فقط ، أو يدلّ على الوجوب الاقتضائي فقط ، ولا معنى لأن يدلّ على هذا في حالة وعلى ذاك في حالة اخرى ؛ إذ ذلك مخالف للظاهر جزما ، فإنّ ظاهر كلّ دليل الدلالة على حكم واحد وليس على حكمين.

٤ ـ انّ دليل القاعدة والأدلّة الأوّلية متعارضان ، وبعد التعارض والتساقط يرجع إلى الأصل العملي ، وهو يقتضي البراءة التي هي تتّفق مع نتيجة تقديم قاعدة لا ضرر.

وفيه : انّ المعارضة والتساقط غير تامين ، لإمكان الجمع العرفي‌

__________________

(١) المائدة : ٦.

١٥١

بالحكومة كما سنذكر.

٥ ـ أن يكون الوجه في ذلك هو حكومة حديث لا ضرر على الأدلّة الأوّلية ، وهذا الوجه هو المعروف بين المتأخّرين. وما ذا تعني الحكومة؟

الحكومة‌

انّها تعني نظر أحد الدليلين إلى الآخر بحيث يكون الأوّل لغوا لو لم يفرض الثاني في مرحلة أسبق وهذا كما هو الحال في مقامنا ، فإنّ حديث لا ضرر ينفي الضرر من زاوية التشريع ، فلا بدّ من فرض تشريع وأحكام في مرحلة سابقة لينفيها حديث لا ضرر في حالة الضرر.

هذا ، وهناك رأي ثان (١) في تفسير الحكومة يقول : إنّ الدليلين متى ما كان لسان أحدهما مسالما للدليل الثاني فالأوّل هو الحاكم والثاني هو المحكوم ، فلو قيل : أكرم العالم ، ثمّ قيل لا تكرم العالم الفاسق ، كان لسان الثاني منافيا للأوّل ، أمّا لو قيل بدل الدليل الثاني : الفاسق ليس بعالم ، كان لسانه مسالما للأوّل.

وإذا كان اللسان مسالما فهو مورد الحكومة ، وإذا لم يكن مسالما فهو مورد التخصيص.

وتظهر الثمرة بين التفسيرين فيما إذا فرض أنّ حديث لا ضرر لم يثبت نظره إلى الأدلّة الأوّلية ـ كما هو رأي الآخوند ـ فإنّه على الرأي الأوّل لا يكون حاكما ، في حين أنّه على الرأي الثاني يكون حاكما ، لأنّ لسانه مسالم للأدلّة الأوّلية.

ثمّ إنّ الآخوند في الكفاية رفض تقديم حديث لا ضرر من ناحية‌

__________________

(١) تبنّاه السيّد السيستاني (دام ظلّه) في قاعدة لا ضرر : ٢٣٩.

١٥٢

الحكومة ، باعتبار أنّها متقوّمة بالنظر ولم يثبت نظر حديث لا ضرر إلى الأدلّة الأوّلية ، وبنى على كون التقديم من جهة التوفيق العرفي بالبيان المتقدّم.

ولعلّ السبب في إنكاره للنظر أنّ حديث لا ضرر كأنّه يقول بلسانه : أنا لا أجعل حكما ضرريا ، وواضح انّ مثل هذا اللسان لا يتوقّف على افتراض وجود أحكام مسبقة ، فإنّ اللسان المذكور يصحّ حتى لو فرض عدم تشريع أحكام مسبقة ، إذ عدم جعل حكم ضرري لا يتوقّف على وجود أحكام مسبقة.

ويردّه : انّ ذلك يتمّ لو فرض انّا كنّا نحتمل أنّ المولى لم يشرّع حكما سوى قاعدة لا ضرر ، أمّا بعد جزمنا بوجود شريعة وأحكام فلا بدّ من كون الحديث ناظرا إلى تلك الشريعة والأحكام ليبيّن أنّها غير ثابتة في حالة الضرر.

نكتة تقدم الحاكم‌

يبقى علينا أن نعرف نكتة تقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم ، فإنّ من المسلّم بين جميع الأعلام تقديم الدليل الحاكم ، وإنّما اختلفوا في نكتة تقدّمه. وفي هذا المجال يوجد رأيان :

١ ـ ما أفاده الشيخ النائيني (١). وحاصله : أنّ الدليل المحكوم يتكفّل إثبات الحكم على تقدير ثبوت الموضوع ولا يتكفّل إثبات الموضوع وأنّه متحقّق بالفعل أو لا في حين أن الدليل الحاكم ينفي تحقّق الموضوع ، ومثل هذين لا تعارض بينهما ، فدليل أكرم العالم‌

__________________

(١) رسالة لا ضرر : ٢١٣ ، وتبنّى هذا الرأي السيّد الخوئي أيضا في مصباح الاصول ٢ :٥٤٢.

١٥٣

ـ مثلا ـ يقول : على تقدير كون هذا أو ذاك عالما يجب اكرامه ، أمّا أنّ هذا أو ذاك عالم بالفعل فلا يتكفّل اثباته ، فإذا جاء دليل ثان يقول الفاسق ليس بعالم فلا يكون معارضا للأوّل ليتأمّل في وجه تقدّمه عليه.

ويردّه : انّ دليل أكرم العالم يثبت وجوب الإكرام لمن كان عالما حقيقة وواقعا كما هو شأن كل دليل حيث يثبت الحكم للموضوع الواقعي ، وواضح أنّ دليل الفاسق ليس بعالم لا ينفي العالمية واقعا لكي لا يتنافى ووجوب إكرام كلّ عالم.

٢ ـ أن يكون وجه التقدّم هو النظر ، فإنّ كون الدليل الحاكم ناظرا إلى الدليل المحكوم هو بنفسه نكتة تكفي في نظر العرف للتقدّم ، لأنّ معنى كونه ناظرا هو أنّ المتكلّم قد أعدّه لتوضيح المقصود من الدليل المحكوم ، وواضح أنّ ما اعدّ لتوضيح المقصود من غيره يكون هو المقدّم في نظر العرف.

١١ ـ الضرر الواقعي أو العلمي‌

كلّ عنوان يؤخذ في الدليل يحمل على الواقعي دون العلمي ، فحينما يقال : الدم نجس فالمقصود انّ ما كان دما واقعا هو نجس ، سواء علم المكلّف بكونه دما أو لا ، فالمدار إذن على تحقّق العنوان بوجوده الواقعي وليس على تحقّقه بنظر المكلّف وعلمه.

وفي ضوء هذا يلزم أن يقال بأنّ حديث لا ضرر حينما ينفي كلّ حكم شرعي في حالة الضرر فالمقصود : نفي ذلك حالة تحقّق الضرر واقعا حتى وإن لم يحرز المكلّف ذلك.

ويتفرّع على هذا أنّ المكلّف لو كان يعتقد حينما يريد الوضوء‌

١٥٤

بعدم كونه مضرّا ، وبعد أن توضّأ اتّضح أنّه مضر فالمناسب الحكم ببطلانه ، لأنّه ما دام مضرّا واقعا فالأمر به يكون منتفيا بسبب حديث لا ضرر ، ومع انتفاء الأمر به يلزم وقوعه باطلا ، والحال أنّ المعروف بين الأعلام بل قيل بتسالمهم على الحكم بصحّته.

وبكلمة مختصرة : كيف يوجّه الحكم بصحّة الوضوء في الحالة المذكورة ، والحال أنّ المناسب لحديث لا ضرر هو البطلان؟

وهناك عدّة أجوبة عن ذلك نذكر منها :

١ ـ ما أفاده الشيخ النائيني قدس‌سره من أنّ الضرر في المقام لم ينشأ من الحكم الشرعي بوجوب الوضوء ليرتفع الحكم بالوجوب ، وإنّما نشأ من اعتقاد المكلّف وتخيّله عدم الضرر في وضوئه ، فاعتقاده عدم الضرر هو الذي أوقعه في الضرر وليس الحكم الشرعي بوجوب الوضوء ، ولذا لو فرض أنّ الحكم بوجوب الوضوء لم يكن واقعا لوقع المكلّف في الضرر بسبب اعتقاده عدم الضرر.

وما دام الضرر لم ينشأ من الحكم الشرعي بوجوب الوضوء فلا يرتفع ـ وجوب الوضوء ـ بحديث نفي الضرر.

ومع عدم ارتفاع وجوب الوضوء يقع ـ الوضوء ـ صحيحا من جهة تعلّق الأمر به وعدم انتفائه.

وفيه : انّ وجوب الوضوء لو كان ثابتا في مورد الفرض فهو ثابت في مورد تحقّق الضرر واقعا فيلزم انتفاؤه. ومجرّد أنّ الضرر خارجا لم يتحقّق بسببه غير مهمّ فإنّ الميزان في تطبيق حديث لا ضرر هو على ثبوت الحكم الشرعي في مورد الضرر وليس على نشوء الضرر خارجا من جهة الحكم الشرعي حتى يتعذّر تطبيقه في المقام.

١٥٥

٢ ـ انّ حديث نفي الضرر ، حيث انّه وارد مورد الامتنان ، فهو يرفع الالزام والوجوب دون أصل الطلب والمشروعية ، فإنّ رفع ذلك ليس امتنانا وإنّما الامتنان هو في رفع الالزام لا أكثر. وهذا معنى ما يقال من أنّ نفي الضرر هو على نحو الرخصة دون العزيمة.

وهذا الجواب يظهر من السيّد اليزدي في مبحث التيمّم من العروة الوثقى.

وقد يشكل على ذلك بأنّ الوجوب ليس مركّبا من جزءين : طلب الفعل والالزام ليكون حديث نفي الضرر رافعا للجزء الثاني دون الأول، بل هو أمر بسيط عبارة عن الطلب الشديد ، أو يقال : إنّ الصيغة تدل على الطلب فقط ، والالزام يستفاد من حكم العقل بناء على المسلك القائل باستفادة الوجوب من حكم العقل دون الوضع(١).

وفيه : ان الوجوب حتى لو افترضناه أمرا بسيطا ، ولكن جعل الوجوب يستلزم بالتبع جعل المشروعية والطلب ، فالمشروعية مجعولة بالتبع وليس بالأصالة من باب انّها جزء مدلول الوجوب لينكر ذلك.

وإن شئت قلت : كما ان الأربعة لها لازم لا ينفكّ عنها وهو الزوجية وان الجاعل للأربعة يكون جاعلا للزوجية بالتبع كذلك الحال في الوجوب ، فان له لازما لا ينفك عنه وهو المشروعية ، وجعل الوجوب يستلزم جعل المشروعية بالتبع ، والامتنان يتحقق برفع المجعول الأصلي بلا حاجة إلى رفع المجعول التبعي.

وإذا قيل : ان المولى إذا رفع المجعول الأصلي فمن أين نعرف‌

__________________

(١) التنقيح ٩ : ٤٢٤.

١٥٦

عدم رفعه للمجعول التبعي؟

قلنا : ان نفس الامتنان دليل على عدم رفع اليد عن المجعول التبعي ؛ إذ الامتنان يتحقق برفع اليد عن الوجوب بلا حاجة إلى رفع اليد عن المشروعية ، بل رفع اليد عنها مخالف للامتنان.

وإذا قيل : ان المشروعية ما دامت لازما للوجوب فبرفع الوجوب كيف تبقى المشروعية؟ انّ بقاءها خلف كونها لازمة وتابعة للوجوب.

قلنا : ان الإشكال المذكور يتم في الأمور التكوينية دون الاعتبارية ، فان الاعتبار سهل المؤونة ، والوجوب والمشروعية هما من الامور الاعتبارية ، وبالامكان ان يفترض ان المولى يرفع الوجوب دون المشروعية.

والذي يكشف عن صحة ما ذكرناه ان الوجدان قاض بصحة تصريح المولى : اني ارفع الوجوب دون المشروعية.

وإذا قيل : إنّ هذا كله وجيه على غير مسلك حكم العقل ، واما بناء على كون الوجوب حكما عقليا فلا يكون الوجوب حكما مجعولا بالأصالة لتكون المشروعية مجعولة بالتبع ثمّ ليتصور رفع المولى يده عن المجعول الأصلي دون التبعي.

قلنا : انه بناء على كون الوجوب حكما عقليا يلزم عدم امكان رفع الوجوب حتى مع الانضمام إلى رفع المشروعية ، لأنّ الوجوب ليس أمرا مجعولا ليمكن رفعه.

وهذا ينبغي عدّه كمنبّه وجداني على بطلان مسلك حكم العقل ، فان له لوازم باطلة ، من جملتها عدم امكان رفع الوجوب بحديث نفي الضرر أو حديث الرفع أو غيرهما.

١٥٧

٣ ـ ان دليل وجوب الوضوء يدل على شيئين : وجوب الوضوء واشتماله على الملاك ، وحديث نفي الضرر حيث انّه وارد مورد الامتنان ، وهو يكفي في تحققه نفي الوجوب فقط دون الملاك فيكون المرفوع بالحديث هو الوجوب فقط دون الملاك ، ومع بقاء الملاك يقع الوضوء صحيحا من ناحية الملاك (١).

ونوقش ذلك بأن الدال على الملاك هو الوجوب ، فإذا ارتفع بالحديث فلا يبقى ما يدل على الملاك ليمكن التقرب به (٢).

وقد يضاف إلى ذلك أيضا بأن الملاك أمر تكويني وليس أمرا مجعولا من قبل الشارع ليمكن رفعه أو إبقاءه بالحديث ، فان القابل للرفع والابقاء هو الأمر المجعول دون الأمر التكويني.

هاتان مناقشتان قد توردان على هذا الوجه.

ويرد المناقشة الاولى : أنّ حديث نفي الضرر ما دام واردا مورد الامتنان فلا بدّ من كون المرفوع خصوص الوجوب ؛ إذ رفع الملاك اضافة إلى رفع الوجوب مستلزم لمخالفة الامتنان ، لأنّ لازم ذلك بطلان وضوء الجاهل بالضرر ولزوم الاعادة عليه ، وذلك مخالف للامتنان.

ويرد المناقشة الثانية : أنّنا لا ندّعي دلالة الحديث على إبقاء الملاك ليقال بأن إبقاء الملاك ورفعه ليس أمرا ممكنا ، بل نقول : إنّ الحديث يدل على انّ الملاك باق واقعا ولم يتأثر فهو كاشف عن بقاء الملاك لا انّه يبقيه بتقريب : أنّ الضرر حينما يذكر سببا للرفع يفهم منه العرف كونه مانعا من تأثير الملاك لا رافعا له من أساسه ، إذ لو كان‌

__________________

(١) من جملة من اختار ذلك السيد الحكيم في المستمسك ٤ : ٣٣٢.

(٢) التنقيح ٩ : ٤٢٥.

١٥٨

مرتفعا لما كان الحديث مسوقا للامتنان ، لأن الامتنان لا يتحقّق مع ارتفاع المصلحة من الأساس ، وإنّما يتحقق لو رفع الحكم ـ بالرغم من وجود المصلحة ـ لأجل الضرر.

وبهذا اتّضح ان الوجه المذكور تام وصالح للاعتماد عليه.

شرطان لصحة الوضوء‌

وقد يقال : إنّ الحكم بصحة الوضوء في المقام موقوف على إثبات أمرين :

أ ـ ان تكون آية الوضوء ذات اطلاق تدل بواسطته على صحة الوضوء في جميع الحالات ، بما في ذلك حالة الضرر الواقعي ليمكن التمسك باطلاقها بعد فرض قصور حديث نفي الضرر عن اثبات البطلان.

وبكلمة أخرى : ان قصور حديث لا ضرر عن اثبات بطلان الوضوء لا يستلزم الحكم بصحته إلاّ بعد فرض وجود اطلاق يمكن التمسك به ، وآية الوضوء لا إطلاق فيها ؛ إذ تقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ...) (١).

ان الآية الكريمة تدل على تقيد مطلوبية الوضوء بحالة عدم المرض ، وحيث إنّ المرض ملحوظ بما هو طريق إلى الضرر (٢) فيكون‌

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) لوضوح ان ذكر المرض هو من باب استلزامه للضرر عادة ، فلو فرض انّ مريضا لم‌

١٥٩

وجوب الوضوء مقيدا بحالة عدم الضرر وليس له اطلاق.

ويرده : ان هذا وجيه لو كانت صحة الوضوء موقوفة على وجود الأمر به ، أمّا بناء على كفاية الملاك فلا نكون بحاجة إلى اطلاق الآية الكريمة وتكفينا دلالة حديث لا ضرر على بقاء الملاك.

ب ـ ان لا يا بنى على حرمة كل ما هو مضر للإنسان وإلاّ وقع الوضوء باطلا ، لأنّه لو كان مضرّا واقعا يلزم وقوعه محرما ، ومع حرمته كيف يقع صحيحا ومصداقا للمطلوب؟

وفيه : انّا حتى لو بنينا على حرمة مطلق ما يوجب الضرر فلا يلزم من ذلك بطلان الوضوء ، لأنّه ما دام مشتملا على الملاك واقعا ـ حسب ما هو المفروض ـ وقد صدر بقصد التقرب يلزم وقوعه صحيحا ، وحرمته واقعا لا تستلزم امتناع التقرب به بعد فرض كونها مجهولة.

ودعوى ان المحرم لا يمكن ان يقع مصداقا لما هو الصحيح شرعا قضية غير مدعومة بالدليل.

حرمة الاضرار بالنفس‌

وحيث انجرّ الحديث إلى مسألة حرمة الاضرار بالنفس فلا بأس بالتعرض إلى هذه المسألة باختصار.

ان الاضرار بالنفس تارة يكون بدرجة كبيرة موجبة للموت ولا اشكال في حرمة مثل ذلك لقوله تعالى : (... وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ...) (١).

واخرى لا يكون واصلا إلى درجة الموت ، ولكنه بدرجة يعلم

__________________

يضره استعمال الماء لم يجز له التيمّم.

(١) البقرة : ١٩٥.

١٦٠