دروس تمهيديّة في القواعد الفقهيّة - ج ١

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

دروس تمهيديّة في القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
الطبعة: ٥
ISBN: 964-499-038-2
ISBN الدورة:
964-91559-2-9

الصفحات: ٢١٤
الجزء ١ الجزء ٢

الملاك والرجحان حتى يمكن بواسطته الحكم بصحة الوضوء.

ويرده : اننا ندعي ان قوله تعالى (... ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) حيث انه وارد للامتنان على الامة الاسلامية فهو يدل على مطلبين في آن واحد : رفع الوجوب وبقاء الملاك والرجحان ، إذ لو كان الملاك والرجحان غير باقيين لما كان رفع الحكم في موارد الحرج امتنانيا ، فان رفع الحكم انما يكون امتنانيا لو كان هناك ملاك يقتضي ثبوته ولكنه يرفع من باب المانع وهو الحرج ، اما إذا لم يكن له ملاك فلا قابلية لثبوته في نفسه حتى يكون رفعه امتنانيا.

وعليه فالحكم بصحة الفعل الحرجي في موارد الحرج هو المناسب. اللهم الا ان يدعى انعقاد اجماع تعبدي على عدم الصحة ، كما قد يدعى ذلك في باب الوضوء وانه انعقد اجماع على عدم التخيير بين الوضوء والتيمم.

٨ ـ هل القاعدة تعم الحكم الوضعي أيضا؟

قد يتساءل عن قاعدة نفي الحرج : هل ترفع خصوص الأحكام التكليفية أو ترفع الأحكام الوضعية أيضا؟

ينبغي في مقام الجواب التفصيل بين ما إذا كان الحرج لازما لخصوص الحكم التكليفي دون الحكم الوضعي فيكون المرتفع بالقاعدة خصوص الحكم التكليفي ، وبين ما إذا كان لازما للحكم الوضعي أيضا فيكون المرتفع بالقاعدة الحكم الوضعي أيضا.

مثال الأوّل : إذا فرض ان امرأة كان زوجها سيئ المعاشرة بحيث يضربها دائما ويتعامل معها أسوأ من معاملة العبيد فانه في مثل ذلك‌

١٨١

يمكن الحكم بجواز خروجها من المنزل الى بيت أهلها من دون استئذانه ، لأن حرمة الخروج بدون اذنه تستلزم الحرج لها ، ولكن هذا لا يعني زوال الزوجية ـ التي هي حكم وضعي ـ فان الحرج لا يترتب على بقاء الزوجية ، بل على وجوب اطاعة الزوج تكليفا فيكون هو المرتفع دون الزوجية.

ومثال الثاني : لزوم البيع في حالات الغبن ، فانه يترتب عليه وقوع المغبون في الحرج ، فيحكم بعدم لزوم البيع وجواز فسخه تمسكا بالقاعدة.

٩ ـ تطبيقات‌

١ ـ رجل حصل على مال يساوي مقدار الاستطاعة للحج ولم يكن له دار سكن فهل من حقه صرف ذلك في شرائها؟

٢ ـ رجل حصل على ما يساوي مقدار الاستطاعة وكانت له دار سكن فهل من حقه شراء دار سكن ثانية؟

٣ ـ هل يجوز لمن حصل على ما يساوي الاستطاعة صرف المال في شراء سيارة أو في الزواج به؟

٤ ـ هل يجوز للزوجين إذا لم ينجبا الفحص لدى الطبيب أو الطبيبة ، مع العلم بان ذلك يستدعي الكشف عن العورة؟

٥ ـ كثيرا ما تذهب النساء الى الطبيبة لإجراء فحوصات عليها بالرغم من عدم وجود حاجة ملحّة لها فهل يجوز ذلك؟

٦ ـ إذا ثبت بواسطة الأجهزة الحديثة ان الحمل مشوّه الخلقة فهل يجوز للأم الاجهاض؟

١٨٢

٧ ـ إذا حضر الرجل بعض الحفلات التي يشترك فيها الرجال والنساء وتقدمت امرأة إليه للمصافحة فهل يجوز له تقديم يده؟

٨ ـ إذا كان للمكلّف مكتبة أو سيارة أو دار ثانية فهل يجب عليه بيعها والحج بثمنها؟

٩ ـ إذا كان للمرأة حلى ذهبية لو باعتها استطاعت للحج فهل يجب عليها بيعها؟

١٠ ـ الزنا محرم في الشريعة الاسلامية ، ولكن هل يمكن الحكم بجوازه احيانا تطبيقا لقانون لا حرج؟

١١ ـ شخص حصل على مال الاستطاعة وكان ولده بحاجة الى زوجة فهل يجوز له صرف ذلك المال في تزويج ولده؟

١٢ ـ الذبح في منى للحاج يصعب في اليوم العاشر فما حكمه؟

١٨٣
١٨٤

قاعدة اليد‌

١ ـ مضمون القاعدة‌

٢ ـ مدرك القاعدة‌

٣ ـ قاعدة اليد اصل أو أمارة‌

٤ ـ اعتبار الجهل بالحالة السابقة في أمارية اليد‌

٥ ـ حالات اليد بلحاظ المقابل‌

٦ ـ ضابط اليد‌

٧ ـ اليد على المنافع‌

٨ ـ عموم أمارية اليد في حق صاحبها‌

٩ ـ تطبيقات‌

١٨٥
١٨٦

من القواعد التي يستفيد منها الفقيه في باب المعاملات والقضاء قاعدة اليد.

وقد تعرض الاصوليون الى هذه القاعدة تبعا للشيخ الأعظم في الرسائل ، حيث تعرض قدس‌سره في نهاية مبحث الاستصحاب الى مسألة ما لو اجتمع في مورد واحد الاستصحاب وقاعدة من القواعد الأخرى ـ ومن جملة تلك القواعد التي ذكرها قاعدة اليد ـ فايهما المقدم؟ فهل الاستصحاب هو المقدم أو القاعدة المقابلة؟

وبهذه المناسبة تعرض بشكل مختصر الى قاعدة اليد ، وجاء الاصوليون من بعده وتعرضوا على ذلك المنوال للقاعدة المذكورة.

وقد تعرض ـ حسب اطلاعنا ـ إلى هذه القاعدة قبل الشيخ الأعظم استاذه الشيخ النراقي في عوائده (١).

__________________

(١) عوائد الايام : ٢٥٤.

١٨٧

وقد كتب بعض في هذه القاعدة رسالة مستقلة ، نخص بالذكر من بينهم الشيخ الاصفهاني صاحب كتاب نهاية الدراية ، حيث ذكر في ترجمته ذلك ، ولكننا لم نر الرسالة المذكورة.

والكلام عن القاعدة المذكورة يقع ضمن النقاط التالية :

١ ـ مضمون القاعدة.

٢ ـ مدرك القاعدة.

٣ ـ قاعدة اليد اصل أو أمارة.

٤ ـ اعتبار الجهل بالحالة السابقة في أمارية اليد.

٥ ـ حالات اليد بلحاظ المقابل.

٦ ـ ضابط اليد.

٧ ـ اليد على المنافع.

٨ ـ عموم أمارية اليد في حق صاحبها.

٩ ـ تطبيقات.

١ ـ مضمون القاعدة‌

يقصد بالقاعدة المذكورة : ان من له استيلاء على شي‌ء بحيث كان ذلك الشي‌ء واقعا في حوزته ويعدّ من توابعه فذلك الاستيلاء يكون أمارة على الملكية ، فمن كان لابسا لثوب يتصرف فيه تصرف الملاك ، أو له سيارة أو كتاب أو دار واشباه ذلك ويتصرف في ذلك تصرف الملاك فذلك بنفسه يعدّ أمارة على ملكيته لذلك الشي‌ء ، إلاّ ان تقوم بينة ونحوها على الخلاف فتسقط أمارية اليد عن الاعتبار.

وبهذا نعرف المقصود من اليد ، فانه يراد بها الكناية عن‌

١٨٨

الاستيلاء وكون الشي‌ء تحت تصرف الشخص وفي حوزته ، وليس المقصود بها الجارحة الخاصة بنحو الحقيقة.

ولعل المناسبة في الاستعانة باليد للتعبير عن ذلك هي ان التصرف والاستيلاء يقع عادة باليد ، بل إذا رجعنا الى المنشأ الأوّل لملكية الإنسان للأشياء وجدنا انه الحيازة ، فبحيازة الأشياء كان يستولي على الأشياء ـ وأما العقود وسائر أسباب الملكية الأخرى فوجدت بعد ذلك وبالتدريج ـ وحيث إنّ الحيازة تقع عادة باليد لذا صح التعبير باليد كناية عن الاستيلاء.

وسيأتي إن شاء الله تعالى تحديد المقصود من اليد بشكل أدق.

وينبغي ان لا يغيب علينا الفرق بين قاعدة اليد وقاعدة اخبار ذي اليد ، فقاعدة اليد تعني ان نفس اليد ـ ولو بدون اخبار ـ أمارة على ملكية صاحبها ، فمن كان ساكنا في دار ويتصرف فيها تصرف الملاك فنفس ذلك أمارة ملكيته لها حتى ولو لم يخبر عن ملكه لها ، وهذا بخلافه في قاعدة إخبار ذي اليد ، فان المقصود منها : ان من كانت له يد واستيلاء على شي‌ء فاذا أخبر عن حال من أحواله ـ ككونه طاهرا أو نجسا ـ صدّق في ذلك وكان إخباره حجة.

والحجة في القاعدة الثانية هو الاخبار المقيد باليد دون نفس اليد ، وهذا بخلافه في القاعدة الاولى ، فان الحجة هو نفس اليد دون اخبارها.

كما انه في القاعدة الاولى يكون المقصود استكشاف الملكية من خلال اليد ، ولكنه في القاعدة الثانية يكون المقصود استكشاف أحوال أخرى ، كالطهارة والنجاسة وأمثال ذلك.

وعلى هذا يكون الفارق بين القاعدتين من حيث الدال تارة ومن‌

١٨٩

حيث المدلول أخرى ، فان الدال في القاعدة الاولى هو نفس اليد ، بينما في القاعدة الثانية هو أخبارها. والمدلول في القاعدة الاولى هو الملكية ، بينما في القاعدة الثانية هو أحوال أخرى.

قاعدة على اليد‌

كما ينبغي أن لا يغيب علينا الفرق بين قاعدة اليد وقاعدة على اليد ما أخذت حتى تؤدي ، فان الاولى يراد بها جعلها أمارة على الملك ، بينما الثانية يراد بها جعل اليد سببا للضمان ، وهي قاعدة أخرى مستقلة.

٢ ـ مدرك القاعدة‌

قد تذكر مدارك متعددة لقاعدة اليد ، إلاّ ان أهمها : سيرة العقلاء الجارية على التعامل مع صاحب اليد معاملة المالك ، فمن كانت له يد على دار نتعامل معه معاملة المالك ، فاذا أراد بيعها اشتريناها منه ، وإذا وهبها قبلنا هبته ، وإذا اجاز الدخول إليها والتصرف فيها دخلنا فيها وتصرفنا ، كل ذلك من دون مطالبته بالبينة على مالكيته.

ان عادة العقلاء قد جرت على ذلك ، وحيث انه لم يردع عنها فهي ممضاة.

ان المدرك المهم هو هذه السيرة.

واما الاجماع المدعى على القاعدة فهو محتمل المدرك ، حيث يحتمل استناده الى السيرة المذكورة أو غيرها ، وقد تقدم في قاعدة نفي الحرج عدم حجية الاجماع في حالة احتمال كونه مدركيا.

وأما الاخبار المستدل بها على القاعدة المذكورة فهي وان كانت كثيرة ولا يخلو بعضها من وجاهة ، إلاّ انه ليس لها اطلاق يمكن التمسك‌

١٩٠

به في موارد الشك ، وانما تدل على قاعدة اليد في الجملة وعلى نحو القضية الموجبة الجزئية.

هذا مضافا الى انه لا يستفاد منها حجية قاعدة اليد بنحو التأسيس في مقابل السيرة العقلائية ، بل الظاهر منها ورودها كإرشاد الى السيرة العقلائية ، ومعه فلا يمكن ان يستفاد منها أكثر مما يستفاد من السيرة العقلائية.

ونذكر تبركا بعض تلك الأخبار.

أ ـ رواية حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال له رجل : إذا رأيت شيئا في يدي رجل يجوز لي ان أشهد انه له؟ قال : نعم. قال الرجل : أشهد انه في يده ولا أشهد انه له فلعله لغيره. فقال ابو عبد الله عليه‌السلام : أفيحل الشراء منه؟ قال : نعم. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : فلعله لغيره فمن أين جاز لك ان تشتريه ويصير ملكا لك ثم تقول بعد الملك هو لي ، وتحلف عليه ولا يجوز ان تنسبه الى من صار ملكه من قبله إليك؟ ثم قال عليه‌السلام : لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» (١).

ب ـ صحيحة عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث فدك : ان أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لأبي بكر : أتحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال : لا. قال : فإن كان في يد المسلمين‌

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ح ٢.

وانما عبرنا بالرواية دون الصحيحة أو الموثقة باعتبار امكان الخدشة في سندها من ناحية القاسم بن يحيى ـ فان الكليني رواها عن علي بن ابراهيم عن أبيه وعلي بن محمد القاساني جميعا عن القاسم بن يحيى عن سليمان بن داود عن حفص بن غياث ـ حيث لم تثبت وثاقته الا بناء على وثاقة كل من ورد في اسناد كامل الزيارة. واما بقية رجال السند فهم ثقات.

١٩١

شي‌ء يملكونه ادعيت أنا فيه من تسأل البيّنة؟ قال : إيّاك كنت أسأل البينة على ما تدّعيه على المسلمين. قال : فاذا كان في يدي شي‌ء فادعى فيه المسلمون تسألني البيّنة على ما في يدي وقد ملكته في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده ...» (١).

حيث تدلّ على ان من بيده شي‌ء لا يطالب بالبيّنة وانّما يطالب بها غيره ، وهذا لا وجه له إلاّ حجية اليد.

ج ـ صحيحة العيص بن القاسم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن مملوك ادّعى انّه حرّ ولم يأت ببينة على ذلك اشتريه؟ قال : نعم» (٢).

فإنّه لا وجه لجواز شرائه ورفض دعواه الحرية إلا حجيّة يد البائع.

د ـ موثقة يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله عليه‌السلام في امرأة تموت قبل الرجل أو رجل قبل المرأة. قال : «ما كان من متاع النساء فهو للمرأة ، وما كان من متاع الرجال والنساء فهو بينهما ، ومن استولى على شي‌ء منه فهو له» (٣).

__________________

(١) المصدر السابق ح ٣.

وقد روى الحرّ الحديث المذكور عن علي بن ابراهيم في تفسيره عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عثمان بن عيسى وحمّاد بن عثمان. والكلّ ثقات.

(٢) وسائل الشيعة باب ٥ من أبواب بيع الحيوان ح ١.

وقد روى الحديث الشيخ الطوسي بسنده إلى الحسين بن سعيد عن صفوان بن يحيى عن العيص بن القاسم ، وحيث ان سند الشيخ إلى الحسين بن سعيد صحيح ـ كما يتضح من خلال مراجعة مشيخة التهذيب ـ وبقية الرجال ثقات فالرواية صحيحة.

(٣) وسائل الشيعة : الباب ٨ من أبواب ميراث الأزواج ح ٣.

وانما كانت موثقة باعتبار اشتمال سندها على علي بن الحسن بن فضال الذي هو فطحي.

١٩٢

فان جملة «ومن استولى على شي‌ء منه فهو له» واضحة الدلالة على حجيّة اليد.

وهناك روايات أخرى يمكن الاستشهاد بها على قاعدة اليد أعرضنا عن ذكرها خوف الملل.

ومجموع الروايات المذكورة ـ كما ترى ـ يدلّ على حجيّة اليد في الجملة ولكن لا اطلاق لها يمكن الركون اليه في موارد الشك. وهذه نقطة لها تأثيرها على ما يأتي من أبحاث.

والخلاصة : المهم في الدليل هو السيرة العقلائية المتقدمة.

نكتة السيرة‌

والاعلام بعد تسليمهم لهذه السيرة وقع كلام بينهم في تحديد النكتة الفنية التي لأجلها بنى العقلاء على امارية اليد.

فالشيخ النائيني اختار ان ذلك من جهة الغلبة ، أي بما ان الغالب في أصحاب الأيدي كونهم ملاّكا وليسوا غاصبين لذا يا بني العقلاء على امارية اليد ودلالتها على الملكية (١).

بينما اختار الشيخ العراقي ان ذلك من باب كون قاعدة اليد وظيفة عملية يرجعون اليها في ظرف الجهل بالواقع ، فإن العقلاء كما لهم أمور يرجعون اليها من باب كونها كاشفة عن الواقع ، كما هو الحال في خبر الثقة وبقية الامارات كذلك لهم أمور يرجعون اليها عند استتار الواقع من باب ان استقامة نظام معاملاتهم لا تتم إلاّ بذلك، فيبنون عليها من باب كونها وظيفة عملية ظرف الجهل بالواقع (٢).

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٦٠٣.

(٢) نهاية الأفكار الجزء الثاني من القسم الرابع : ٢١.

١٩٣

والشيخ الأعظم في الرسائل أشار في كلامه إلى كلتا النكتتين المذكورتين فقال : ان من المحتمل تمسك العقلاء باليد من باب الغلبة ومن المحتمل كونه من باب الوظيفة العملية ، ثم رجّح في نهاية كلامه كون النكتة هي الغلبة (١).

وللسيد الشهيد في بحوثه كلام مجمل قد يلتئم مع الغلبة أكثر ، حيث ذكر ان العقلاء يبنون على اليد من جهة كاشفية الاستيلاء الخارجي عن الاستيلاء التشريعي الذي هو عبارة أخرى عن الملكية (٢).

وثمرة الاختلاف في النكتة الفنية تظهر في البحث الآتي ان شاء الله تعالى.

٣ ـ قاعدة اليد أصل أو امارة‌

وقع كلام بين الباحثين عن قاعدة اليد في أنّها أصل أو امارة.

والثمرة لهذا البحث تظهر في التعرّف على نكتة تقدم اليد على الاستصحاب عند اجتماعهما في مورد واحد.

وبتعبير أوضح : ان الأعلام اتفقت كلمتهم على تقدم اليد على الاستصحاب ، وانما الكلام في تحقيق النكتة الفنية لذلك.

وقبل تحقيق تلك النكتة لا بدّ من استذكار الفرق بين الامارة والأصل.

والمعروف في التفرقة بينهما ان ما جعل حجّة من حيث جهة الكشف والطريقية الثابتة له فهو امارة ، وما لم يجعل حجة من هذه‌

__________________

(١) فرائد الأصول ، الطبعة القديمة المحشاة بحواشي رحمت الله : ٤٠٩.

(٢) بحوث في شرح العروة الوثقى ٢ : ١٠٤.

١٩٤

الجهة بل جعل حجّة من حيث كونه وظيفة عملية عند عدم وجود كاشف معتبر عن الواقع فهو أصل.

وفي ضوء هذا نقول : الصحيح كون اليد حجّة من حيث الامارية لأن مهم الدليل على حجيتها هو السيرة العقلائية ، واما الأخبار فهي ـ كما قلنا ـ واردة لتأكيد السيرة العقلائية وليست في صدد بيان مطلب جديد ، وواضح. ان العقلاء يعتبرون اليد حجّة من حيث كشفها الغالب عن الملكية ، وليس لحجيتها تعبدا من باب كونها وظيفة عملية عند الجهل بالواقع ، فإن القضايا التعبدية بعيدة عن الحياة العقلائية وان اصرّ على امكان ذلك الشيخ العراقي ، وقال ما نصّه : «لأن العقلاء كما لهم أمور يرجعون اليها لكونها كاشفة عن الواقع ، كذلك لهم أمور يرجعون اليها عند استتار الواقع، باعتبار كونها وظيفة عملية في ظرف الجهل بالواقع» (١).

وعلى أي حال إذا قلنا بأن اليد امارة فوجه تقدمها على الاستصحاب واضح، واذا قلنا بكونها أصلا فأيضا يلزم تقديمها ، من جهة انّه لو لم تقدم يلزم ان لا يبقى لها مورد للجريان ؛ إذ ما من مورد تجري فيه اليد عادة إلاّ ويوجد استصحاب يجري إلى جانبها يثبت من خلاله عدم ملكية صاحب اليد ، فإن صاحب اليد على العين غالبا ما هو مسبوق بعدم مالكيته ، بمعنى انّه لم تكن العين مملوكة له من القديم وانما كانت ملكا لغيره ، فإذا شك في انتقالها إليه استصحب عدم مالكيته.

__________________

(١) نهاية الأفكار الجزء الثاني من القسم الرابع : ٢١.

١٩٥

واذا لم يبق مورد لليد بدون جريان الاستصحاب إلى جانبها يلزم من ذلك اختلال النظام ، لأنه إذا أردنا أن نشتري دارا أو غيرها من شخص فنحتمل عدم كونه مالكا ومن ثمّ يلزم عدم صحة الشراء منه ، وهذا هو اختلال النظام الذي أشارت له رواية حفص بن غياث المتقدمة بقولها : «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق».

وهذا المعنى أو قريب منه هو الذي أشار له الشيخ الأعظم بقوله : «وكيف كان فاليد ـ على تقدير كونها من الأصول التعبدية أيضا ـ مقدمة على الاستصحاب وان جعلناه من الامارات الظنية ، لأن الشارع نصبها في مورد الاستصحاب. وان شئت قلت : ان دليله أخص من عمومات الاستصحاب» (١).

٤ ـ اعتبار الجهل بالحالة السابقة في امارية اليد‌

اذا كان شخص يسكن دارا بحيث كان صاحب يد عليها فتارة يجهل الحال السابق لليد وأخرى تعرف الحالة السابقة.

وقد يذكر للحالة الثانية عدّة شقوق نشير إلى اثنين منها :

١ ـ ان تكون اليد سابقا يد امانية أو غصبية أو يد اجارة أو نحو ذلك ثم احتمل تحولها الى يد ملك ، بأن نفترض ان شخصا كان يسكن دارا في زمن سابق بنحو الاجارة واحتمل شراؤه لها بعد ذلك ، وهكذا لو فرض انّه كان غاصبا لها فيما سبق أو كانت في يده أمانة واحتمل شراؤه لها بعد ذلك ، انه في مثل هذه الحالة التي يعلم بأن اليد فيها‌

__________________

(١) فرائد الأصول ، الطبع القديم : ٤٠٩.

١٩٦

سابقا لم تكن يد ملك واحتمل تحولها إلى يد ملك بعد ذلك هل تكون اليد فيها امارة على الملكية؟

٢ ـ أن يعلم بكون الدار سابقا وقفا ، واحتمل عروض بعض المسوغات لبيعها ، وصاحب اليد اشتراها وصار مالكا لها بسبب عروض تلك المسوغات.

وبعد هذه الفهرسة للحالات نقول : اما إذا كان الحال السابق لليد مجهولا ـ بأن رأينا شخصا يسكن دارا ولا نعرف الحال السابق لليد ، فنحتمل انّه توارثها أبا عن جد أو اشتراها من مالكها الشرعي ، ونحتمل في نفس الوقت ان وصولها إليه لم يكن شرعيا بل نتيجة غصب ونحوه ـ فذلك هو القدر المتيقن من سيرة العقلاء على التمسك باليد.

واما الحالة الثانية فقد فرضنا لها شقين :

الشقّ الأول‌

اما بالنسبة إلى الشقّ الأول فالمناسب الحكم بعدم حجية اليد لا لأجل استصحاب الحال السابق لليد ، كما حاول ذلك الشيخ النائيني (١) حيث ذكر ان اليد ما دامت غاصبة سابقا فيجري استصحاب بقائها على كونها غاصبة ، ومع ثبوت حال اليد الآن بسبب الاستصحاب وكونها غاصبة لا معنى للتمسك باليد ، فإن التمسك بها فرع الشك والجهل بحالها ، والمفروض معرفة حالها وكونها غاصبة. وهكذا الحال لو كانت يد امانة سابقا أو يد اجارة ، فانّه يجري استصحاب الحال‌

__________________

(١) فوائد الأصول ٤ : ٦٠٥.

١٩٧

السابق ، وبه يتضح حال اليد الآن.

هكذا ذكر الشيخ النائيني.

والمناسب ان يقال في توجيه عدم حجيّة اليد في الشقّ المذكور بدلا عمّا ذكره الشيخ النائيني : ان الدليل المهم على حجيّة اليد ليس إلاّ السيرة العقلائية ، واما الأخبار فهي واردة كمؤكد للسيرة العقلائية لا أكثر ، مضافا إلى انّه ليس لها اطلاق يمكن التمسك به في حالات الشك.

واذا كانت السيرة العقلائية هي الدليل المهم فحيث انّها دليل لبي وليس لفظيا ذا اطلاق ليتمسك به فينبغي الاقتصار على القدر المتيقن ، وهو فيما اذا كان الحال السابق لليد مجهولا.

وعليه فلا حاجة إلى بيان الميرزا النائيني ، بل هو قابل للتأمل باعتبار ان لازمه : عدم امكان التمسك باليد في أي مورد من الموارد ، لجريان استصحاب عدم تحقق الملكية والنقل والانتقال إلى صاحب اليد في جميع الموارد على ما تقدمت الاشارة إليه سابقا.

وجه الاعتماد على السندات‌

ومن هنا يتضح الوجه في قبول الاعلام لسندات الايجار ، فإنّه لو فرض ان شخصا كان يسكن دارا ويدّعي أنّها له ، وتقدّم شخص ثان الى الحاكم يدّعي ان الدار ملك له وانه آجرها لصاحب اليد الفعلية ، وكان له سند يشهد بالايجار ، انّه في مثل هذه الحالة تطرح اليد ولا يعار أهمية لها ، ويؤخذ بسند الايجار ويحكم بكونها ملكا للمدّعي صاحب السند.

ومن خلال بياننا السابق اتضح الوجه للحكم المذكور ؛ ان ذلك من جهة ان اليد اذا كانت سابقا يد ايجار فلا تكون حجّة في اثبات الملك‌

١٩٨

فعلا ، من جهة عدم الجزم بانعقاد السيرة على الأخذ باليد والحكم على طبقها ، وذلك يكفي في اسقاطها من الاعتبار ، ومع عدم حجيتها يبقى استصحاب الملك السابق أو الايجار السابق بلا معارض فيؤخذ به.

الشق الثاني‌

هذا كلّه في الشقّ الأول.

واما الشقّ الثاني ، وهو فيما اذا كانت الدار سابقا وقفا ـ فيمكن أن نتصوره بشكلين :

أ ـ ان يعلم بأن اليد حينما طرأت على الدار طرأت عليها وهي وقف ، بأن يفرض ان صاحب اليد استأجر الوقف ، ولكننا نحتمل بعد ذلك طرو أحد المسوغات لبيع الوقف فاشتراها ممن له حق بيعها.

ب ـ ان لا نجزم بكون الدار وقفا حين طرو اليد عليها ، بل نحتمل بطلان الوقف أولا بأحد الأسباب الشرعية ، ثم شراء صاحب اليد لها بعد ذلك.

اما الشكل الأول‌ فينبغي أن يكون واضحا عدم حجيّة اليد لنفس النكتة المتقدمة وهي : عدم الجزم بانعقاد السيرة على الأخذ باليد ، لأن حال اليد سابقا معلوم وهو كونها يد ايجار للوقف مثلا ، ويشك في انقلابها عن ذلك فيدخل ذلك في الشق الأول ، ولا يوجد فارق معه ويكون حكمه حكمه.

واما بالنسبة إلى الشكل الثاني فقد اختار فيه السيد اليزدي ـ في كتاب القضاء من ملحقات العروة الوثقى ـ الحكم بامارية اليد على الملكية وعدم انتزاع الدار من صاحب اليد وتسليمها إلى أرباب الوقف.

وقد قيل باحتمال أخذه لهذا الحكم من استاذه السيد محمد باقر‌

١٩٩

الاصفهاني الشفتي ، حيث اشتهر عنه هذا الحكم في اصفهان (١).

وقد قيل في توجيه حجيّة اليد في مثل ذلك بأنّه لا مانع من الأخذ باليد سوى استصحاب بقاء الدار وقفا وعدم انتقالها ملكا إلى صاحب اليد بيد ان هذا المقدار لا يقف أمام حجيّة اليد والاّ لزم عدم حجية اليد في سائر الحالات أيضا ، لأن استصحاب بقاء الدار على ملك مالكها السابق على صاحب اليد يجري ويقف أمام اليد ، وإذا كان مثل هذا الاستصحاب لا بدّ من طرحه وعدم وقوفه أمام اليد يلزم مثل ذلك في استصحاب بقاء الدار على وقفها السابق.

ويرده : انه في الحالات المتعارفة لليد حيث يا بني العقلاء على التمسك باليد فيكون ذلك موجبا لحجيتها ومن ثمّ لسقوط الاستصحاب المقابل لها عن الاعتبار ، وهذا بخلافه في محل كلامنا ، فانّه لا يحرز انعقاد السيرة على التمسك باليد لتقف بذلك حائلا أمام الاستصحاب.

والخلاصة من كلّ ما تقدّم : ان المقدار الذي يجزم بانعقاد السيرة فيه على امارة اليد هو فيما اذا كان الحال السابق لليد مجهولا ولا يجزم بانعقادها فيما سوى ذلك.

٥ ـ حالات اليد بلحاظ المقابل‌

اذا كان شخص يسكن دارا مثلا وكانت تحت يده وتصرفه فقد قلنا سابقا : ان يده تكون امارة على الملكية لو فرض ان الحال السابق لليد مجهول. وهذا واضح.

__________________

(١) نهاية الأفكار الجزء الثاني من القسم الثاني : ٢٥.

٢٠٠