دروس تمهيديّة في القواعد الفقهيّة - ج ١

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

دروس تمهيديّة في القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
الطبعة: ٥
ISBN: 964-499-038-2
ISBN الدورة:
964-91559-2-9

الصفحات: ٢١٤
الجزء ١ الجزء ٢

بمبغوضيّته شرعا ، كقطع الإنسان يده أو رجله مثلا.

وثالثة يفترض كونه ليس من أحد النحوين السابقين بل هو بدرجة أخف منهما،كالضرر المتولّد من التدخين ، أو من استعمال الماء للمريض وأمثال ذلك.

والكلام هو في هذا النحو الثالث فهل هو حرام أو لا؟

قد يقال بحرمته للوجوه التالية :

١ ـ ان السيرة العقلائية جارية على التجنب عن كل ما يوجب الضرر ، وحيث لم يردع عنها شرعا فهي ممضاة.

ويرده : ان العقلاء وان تجنبوا عن كل ما يوجب الضرر ، إلاّ ان ذلك ليس بنحو الالزام ، بل بنحو الرجحان ومن باب كونه أجدر ، وإلاّ فهل يحتمل حرمة مل‌ء المعدة بالطعام ، أو أكل المصاب بمرض السكر لبعض الأطعمة التي قد ترفع من درجة السكر؟ وهل يحتمل حرمة الجماع الزائد ، أو الخروج من المكان الدافئ إلى البارد وأمثال ذلك؟

٢ ـ التمسك بحديث لا ضرر ، حيث ورد في الفقرة الثانية «ولا ضرار» ، وقد ذكرنا سابقا امكان حمل هذه الفقرة على النهي وانّه لا يجوز الاضرار.

وفيه : ان المنصرف من النهي المذكور هو النهي عن الاضرار بالآخرين دون اضرار الشخص بنفسه.

٣ ـ التمسّك بالآيات الناهية عن ظلم الإنسان نفسه ، بتقريب : ان ارتكاب ما يضر بالنفس ظلم لها.

وفيه : ان صدق الظلم على ارتكاب شي‌ء فرع حرمته في المرتبة السابقة ، وإلاّ فلا يصدق ـ لأن المراد ظلمها بارتكاب الذنوب وادخالها‌

١٦١

نار جهنّم عقوبة على ذلك ـ ، والمفروض بعد لم تثبت حرمة مطلق المضر.

٤ ـ التمسك ببعض الروايات الدالة على انّ علّة تحريم بعض المحرمات هو اضرارها ببدن الإنسان ، من قبيل رواية المفضل بن عمر : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام لم حرّم الله الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير؟

قال ان الله تبارك وتعالى ... علم ما يضرهم فنهاهم عنه وحرّمه عليهم ...» (١). ونحوها غيرها بتقريب : أنّ علّة تحريم المحرمات إذا كانت هي الاضرار بالنفس فيلزم حرمة كل ما يوجب الضرر بالنفس ، وإلاّ لما صلح أن يكون علّة لتحريم المحرمات.

وفيه : ان الحديث وإن دلّ على حرمة الاضرار بالنفس ، ولكن لم يوضح ان الضرر من أي قسم وبأي درجة يكون محرما ، وليس له اطلاق من هذه الناحية ليتمسّك به ، ولعلّ المحرم حصة خاصة من الضرر.

بل انّ بعض الأحاديث يستفاد منها عدم حرمة الاضرار بالنفس ، كالأحاديث التي ترشد إلى رجحان عدم تناول بعض الأطعمة لكونها مضرة.

وبالجملة : لا دليل على حرمة مطلق ما يوجب الضرر ، إلاّ في أحد النحوين الأولين.

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ١ من أبواب الأطعمة المحرمة ح ١.

١٦٢

١٢ ـ تعارض الضررين‌

من الأبحاث التي تعرض لها الشيخ الاعظم في الرسائل في قاعدة لا ضرر مسألة تعارض الضررين.

وننتخب من ذلك صورتين نتعرض لهما باختصار.

الصورة الاولى‌

إذا دار الأمر بين ضررين في حق شخصين فأيهما المقدم؟

بمعنى : انّه لو كان شخصان دار الأمر بين ان يتضرر هذا أو ذاك ، ورفعا أمرهما إلى الحاكم ، فهل يقدّم الحاكم تضرر هذا أو تضرر ذاك؟

والمثال المتوارث لذلك : ما إذا أدخلت دابة شخص رأسها في قدر شخص آخر، ودار الأمر بين كسر القدر حفاظا على رأس الدابّة وبين قطع رأس الدابّة حفاظا على القدر ، فأيّهما المقدّم؟ بعد وضوح أن الحكم بكسر القدر يستوجب الضرر على صاحبه ، والحكم بقطع رأس الدابة يستوجب الضرر على صاحبها ، فالأمر على هذا يدور بين حكمين يستلزم كل منهما الضرر.

وفي هذه الحالة إذا فرض ان الطرفين تمّ اتفاقهما على أمر معين ، ككسر القدر ـ مثلا ـ فلا اشكال ، لأن المال مالهما وبامكانهما التصالح كيفما أحبّا.

وتنحصر المشكلة بما إذا لم يتصالحا على أمر معين ورفعا أمرهما إلى الحاكم ، فما ذا يفعل؟

إنّه ليس بالامكان التمسك بحديث لا ضرر ، لأنّ التمسك به في صالح أي واحد منهما ترجيح بلا مرجح بعد استلزام كل منهما الضرر.

١٦٣

ولا محيص للحاكم ـ بعد عدم امكان التمسك بحديث لا ضرر ـ من ملاحظة من يتضرر أقل فيرجّح اتلاف ماله ، وعند التساوي من هذه الناحية وسائر الخصوصيات الموجبة للترجيح العقلائي ينتقل إلى القرعة ، لأنّها طريق عقلائي في أمثال هذه المقامات. كل ذلك مع ضمان قيمة النقص الطارئ بسبب الكسر أو قطع الرأس على الطرف الثاني.

والوجه في ذلك هو التمسك بقاعدة العدل والانصاف ، فانّ مقتضى العدالة هو ما ذكرناه.

وإذا قيل : إنّ القاعدة المذكورة لم ينعقد عليها بناء عقلائي ، ولا مستند لها سوى عذوبة ألفاظها ، كما ناقش بذلك السيد الخوئي في بعض المواضع من كلماته (١).

كان الجواب : يكفينا لإثباتها في الجملة كتاب الله العزيز حيث يقول : (... وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ...) (٢).

مثال معاصر‌

والمثال الموروث ـ كما قلنا ـ هو ما تقدم ، بيد أنّه قد يبدل بمثال معاصر ، وهو : ما اذا كانت امرأة حاملا بطفل ، ودار الأمر بين الحفاظ على الطفل الموجب لتضرّرها والحفاظ على الام الموجب لقتل الطفل (٣).

وان شئت قلت : إنّ حكم الشارع بوجوب الحفاظ على الام حيث‌

__________________

(١) راجع كتاب الخمس من مستند العروة الوثقى : ١٤٧ ، أجل التزم بها قدس‌سره في مصباح الاصول ٢ : ٥٦٤.

(٢) النساء : ٥٨.

(٣) ومن الأمثلة المعاصرة أيضا : ما اذا كان الإنسان راكبا سيارة ودار الأمر بين أن يضرّر الآخرين أو يضرر نفسه.

١٦٤

يستلزم الضرر على الطفل ، وهكذا العكس بالعكس فلا يمكن التمسك بحديث نفي الضرر ، لأن ذلك ترجيح بلا مرجح.

وإذا كان الاستشهاد بالمثال المذكور قابلا للمناقشة من بعض الجهات ، إلاّ أنّه جيد في الجملة.

وفي تحقيق حاله نقول : إذا كان ضرر الام بدرجة موتها وكان موتها مستلزما لموت الحمل أيضا فلا إشكال في تعين الحفاظ على حياتها ، لأنّ الأمر يدور بين موت الام وحملها أو موت خصوص الحمل ، والثاني متعين.

وإذا كان تضرّرها شديدا ولكنه لا يبلغ درجة الموت فيجوز لها اسقاطه أيضا باعتبار ان الدليل على حرمة الاسقاط : إمّا هو الاجماع والتسالم أو روايات ثبوت الدّية في الاسقاط بناء على دلالة ذلك بالملازمة على الحرمة ، وكلاهما لا اطلاق فيه.

وطبيعي جواز الاسقاط لا يعني ارتفاع الدية ، بل هي ثابتة بالرغم من جواز الاسقاط لإطلاق دليلها.

وهل عملية الاسقاط ينبغي أن تكون من الحامل نفسها أو تجوز من الطبيب أيضا؟

المناسب جوازها من الطبيب أيضا ، لأنّ الاسقاط من الطبيب لا دليل على حرمته في مثل هذه الحالة فيتمسك بأصل البراءة.

الصورة الثانية‌

ان يفترض أنّ لإنسان ملكا ، كدار أو غيرها ، وأراد التصرّف باحداث حمام فيها إلى جانب غرفة بيت جاره فاعترض الجار بأن رطوبة الحمام تسري إلى غرفتي.

١٦٥

وهذه المسألة من موارد الابتلاء الكثيرة في حياتنا.

وطبيعي ينبغي ان نحصر الكلام بحالة : إذا لم يتمكّن صاحب الدار من إحداث الحمام في غير ذلك المكان الذي يضر بالجار ، وإلاّ فمنعه من إحداث الحمام لا يولّد له ضررا ، بل أقصى ما يلزم عدم امكان تصرفه في داره بالشكل الذي يحب ، وذلك لا يعدّ ضررا بالنظر العقلائي ، كما ينبغي ان نفترض أنّ إحداثه للحمام ضروري بحيث يشكّل عدمه ضررا عليه.

وإذا قيل : إنّ منع المالك من التصرف في ملكه كيفما أحبّ حرج عليه ، وهو منفي في التشريع الاسلامي.

كان الجواب : ان ذلك ليس بحرج ؛ لأنّ الحرج هو المشقة الشديدة ، والمفروض عدم لزومها.

إذن لا بدّ من فرض البحث في حالة دوران الأمر بين ضررين ، وعلى أساس هذا الافتراض لا يمكن التمسّك بحديث نفي الضرر ، لأنّ الأمر يدور بين حكمين ضرريّين ، فالحكم بجواز إحداث الحمام مستلزم للضرر على الجار ، والحكم بعدم جوازه مستلزم للضرر على المالك ، والتمسك بالحديث بلحاظ أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح.

وإذا قيل : إنّ قاعدة الناس مسلطون على أموالهم ترجّح طرف المالك ، حيث ان منعه من التصرّف في ملكه خلاف تسلطه على ماله.

كان الجواب : انّ القاعدة المذكورة لا دليل معتبر عليها من الروايات ، فانها لم ترد في معاجمنا الحديثية إلاّ في البحار (١). أجل قد‌

__________________

(١) البحار ٢ : ٢٧٢.

١٦٦

تشتمل عليها بعض كتبنا الفقهية ، كالخلاف للشيخ الطوسي (١) ، بل قيل :إنّ المعاجم الحديثية المشهورة للعامة لا تشتمل عليها.

وعلى هذا فمهم المستند للقاعدة المذكورة هو سيرة العقلاء وارتكازهم ، والقدر المتيقّن من ذلك حالة عدم استلزام تصرف الإنسان في ملكه الضرر بالآخرين.

وبعد اتضاح عدم امكان التمسك بقاعدة لا ضرر يتعين الرجوع ـ بعد الشك في جواز تصرف المالك في ملكه ـ إلى أصل البراءة.

١٣ ـ تطبيقات‌

١ ـ هل يمكن ان نستفيد ـ وفق حديث لا ضرر ـ حكم التطبير في عزاء سيّد الشهداء عليه‌السلام جوازا أو تحريما؟

٢ ـ هل يمكن في ضوء حديث لا ضرر استفادة حكم التدخين جوازا أو تحريما؟

٣ ـ يخرج في وجه الشخص احيانا بعض اللحوم الصغيرة الزائدة فإذا أراد قطع تلك اللحوم من خلال شدّ خيط عليها ونحوه مع عدم وصول الماء إليها يوما أو يومين خلال فترة وجود الخيط فهل ذلك جائز بعد الالتفات إلى امتناع الوضوء خلال تلك الفترة؟

٤ ـ امرأة أرادت وضع لولب لمنع الحمل فهل ذلك جائز؟ فصّل الشقوق المتصوّرة في ذلك.

٥ ـ شخص لا يمكنه القيام أثناء الصلاة كيف نشخّص وظيفته‌

__________________

(١) الخلاف ٣ : ١٧٦.

١٦٧

طبق الأدلة؟

٦ ـ إذا فرض انّ شخصا يتضرّر بشكل وآخر من أداء الصلاة فهل يجوز له تركها؟ ولما ذا؟

٧ ـ مؤمن يعمل في بعض الدوائر الرسمية يحتاج لسبب وآخر إلى حلق لحيته فهل يجوز له ذلك على تفصيل أو مطلقا؟

٨ ـ هل يجوز للمرأة استعمال أقراص منع الحمل ، ولما ذا؟

٩ ـ مؤمن اعتقد بأنّ الصلاة من قيام مضرّة له فصلّى من جلوس ثم اتّضح له خطأ اعتقاده فما حكم صلاته؟ ولو فرض العكس : بأن اعتقد أنّ القيام غير مضر له فصلّى من قيام ثم اتّضح الخطأ فما حكم صلاته؟

١٠ ـ هل يشمل حديث لا ضرر الأحكام الترخيصية؟ فلو فرض ان شخصا كان يضرّه استعمال الماء فهل يرتفع بذلك جواز شرب الماء بمقتضى الحديث؟ اوضح نكتة جوابك.

١٦٨

قاعدة نفي الحرج‌

١ ـ مضمون القاعدة‌

٢ ـ مدرك القاعدة‌

٣ ـ المقصود من الحرج والفرق بينه وبين الضرر‌

٤ ـ وجه تقدم القاعدة على الأدلّة الأوّلية‌

٥ ـ وهن القاعدة بكثرة التخصيص‌

٦ ـ هل المدار على رفع الحرج النوعي أو الشخصي‌

٧ ـ هل رفع الحرج رخصة أو عزيمة‌

٨ ـ هل القاعدة تعم الحكم الوضعي أيضا‌

٩ ـ تطبيقات‌

١٦٩
١٧٠

من القواعد المهمة التي يتكل الفقيه كثيرا عليها في مقام الاستنباط قاعدة نفي الحرج.

ومن الجدير التعرض للبحث عن هذه القاعدة بشكل مستقل ومستوعب بعد اهميتها ، ولكن مع الاسف لم يتعرض لها الأعلام كذلك ، وانما يتعرّضون بنحو الإشارة الى كل حكم حرجي ، ويقولون : هو مرفوع من ناحية قاعدة نفي الحرج.

أجل في كتب القواعد الفقهية تبحث بشكل مستقل ، ولعل أول من بحثها هو النراقي في عوائده (١).

وهذا كلّه بخلافه في قاعدة لا ضرر وغيرها من القواعد المتقدمة فانها بحثت بشكل مشبّع ومستقل ، إمّا في الكتاب الاصولية أو الفقهية.

وعلى أي حال الكلام في قاعدة لا حرج يقع ضمن نقاط :

__________________

(١) عوائد الأيام : ٥٧.

١٧١

١ ـ مضمون القاعدة.

٢ ـ مدرك القاعدة.

٣ ـ المقصود من الحرج والفرق بينه وبين الضرر.

٤ ـ وجه تقدم القاعدة على الأدلّة الأوّلية.

٥ ـ وهن القاعدة بكثرة التخصيص.

٦ ـ هل المدار على رفع الحرج النوعي أو الشخصي؟

٧ ـ هل رفع الحرج رخصة أو عزيمة؟

٨ ـ هل القاعدة تعم الحكم الوضعي أيضا؟

٩ ـ تطبيقات.

١ ـ مضمون القاعدة‌

اذا كان المقصود من قاعدة لا ضرر قد وقع فيه الاختلاف بين الاعلام بالشكل المتقدم فان المقصود من قاعدة لا حرج لم يقع فيه الاختلاف ـ في حدود علمنا ـ فالمقصود منها : نفي كل حكم يستلزم ثبوته على العباد الحرج ، فوجوب الوضوء أو الغسل أو وجوب اعفاء اللحية أو حرمة كشف المرأة عورتها امام الطبيبة للفحص أو ...إذا استلزم الحرج يكون مرفوعا.

والسبب في عدم الاختلاف هنا هو ان مدرك القاعدة يقول :(... ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ...) (١) ، وعدم جعل الحرج في الدين ليس الاّ عبارة اخرى عن عدم تشريع الاحكام‌

__________________

(١) الحج : ٧٨.

١٧٢

المستلزم ثبوتها للحرج ، ولا يحتمل ارادة معنى ثان من الآية الكريمة.

٢ ـ مدرك القاعدة‌

قد دلّ على القاعدة المذكورة جملة من النصوص بعضها من الكتاب الكريم وبعضها الاخر من السنة الشريفة.

اما الكتاب الكريم فالآية المتقدمة (... ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ...) واضحة الدلالة على ذلك.

كما قد يستفاد ذلك من قوله تعالى : (... وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (١).

واما قوله تعالى في آية الصوم (... وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ...) (٢) فلا يمكن الاستدلال به لاحتمال اختصاص قوله (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ ...) بخصوص الصوم ولا يعمّ بقية الأبواب ، فانه ليس علة ليتمسك بعموم العلة في الغاء الاحتمال المذكور ، بل هو حكمة ، لأنه لو كان علة يلزم دوران الحكم مدارها ، والحال ان المسافر يلزمه الافطار حتى ولو لم يعسر عليه الصوم.

واما السّنة الشريفة فيمكن الاستشهاد منها بجملة من النصوص‌

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) البقرة : ١٨٥.

١٧٣

أنهاها الشيخ النراقي في عوائده الى ثمانية عشر حديثا (١) ، بيد انّه لا حاجة الى استعراضها بعد دلالة الكتاب الكريم على ذلك.

العقل والاجماع‌

وهل يمكن الاستدلال على القاعدة المذكورة مضافا الى الكتاب والسنة بالإجماع والعقل؟ كلا لا يمكن الاستدلال بذلك.

أمّا ان العقل لا يمكن الاستدلال به فباعتبار انه لا يرى امتناع التكليف بالأمر الشاق ، كيف وقد وقع التكليف بالأمر الشاق في الشرائع السابقة ، كما تشير اليه الآية الكريمة (... رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ...) (٢) فان الاصر عبارة عن الأمر الشاق.

وانما العقل يمنع من التكليف بالأمر غير المقدور ، ولكن المفروض ان الحرج ليس هو الامر غير المقدور ـ وان كان ذلك يظهر من بعض ـ بل هو الأمر الشاق.

واما ان الاجماع لا يمكن الاستدلال به فلأنّه مدركي ـ لأننا نحتمل أو نجزم بان مدرك المجمعين هو النصوص من الكتاب والسنة الشريفين ـ والاجماع المدركي ليس حجة، لأن حجية الاجماع هي باعتبار كاشفيته يدا بيد عن وصول الحكم من الامامعليه‌السلام، ومع وجود مدرك يحتمل استناد المجمعين إليه لا يجزم بوصول الحكم من الامامعليه‌السلام حتى يكون حجة ، بل يلزم الرجوع الى المدرك وملاحظة أنّه تام سندا ودلالة أو لا.

ومن خلال هذا كله يتضح ان المدرك للقاعدة هو الكتاب والسنة‌

__________________

(١) عوائد الايام : ٥٧ ـ ٥٨.

(٢) البقرة : ٢٨٦.

١٧٤

الشريفان دون العقل والاجماع.

ومن الغريب ما ينقل عن بعض (١) ، من عدم وجود مدرك صحيح لقاعدة لا حرج ، إنّه غريب بعد تصريح الكتاب الكريم بقوله : (... ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ...).

٣ ـ المقصود من الحرج والفرق بينه وبين الضرر‌

قد يتصور ان المقصود من الحرج عدم القدرة على الشي‌ء ، فكل شي‌ء لا يكون ممكنا ومقدورا يكون حرجيا.

ولكنه مرفوض ، فان المتبادر من الحرج هو المشقة والضيق دون عدم القدرة ، اجل ليس كل مشقة حرجا ، بل هو عبارة عن خصوص المشقة الشديدة.

والشاهد على ذلك ـ مضافا الى قضاء الوجدان والتبادر ـ ان لازم تفسيره بمطلق المشقة كون جميع التكاليف حرجية ، لأن التكليف انما كان تكليفا باعتبار اشتماله على الكلفة والمشقة ، والا كان اباحة ولم يكن تكليفا.

واذا سألت عن الفرق بين الضرر والحرج كان الجواب : ان الضرر هو النقص ، إمّا في المال أو البدن أو غيرهما ، فما لا يكون نقصا لا يكون ضررا ، وهذا بخلافه في الحرج ، فانه المشقة ولو لم تكن مشتملة على النقص ، كالوضوء بالماء البارد في الشتاء القارس ، فانه قد يبلغ المشقة الشديدة من دون طرو مرض على البدن.

__________________

(١) اشير الى ذلك في القواعد الفقهية للشيرازي : ١٥٩.

١٧٥

وهكذا الحال فيما لو حصل المكلّف على مقدار من المال يساوي مقدار الاستطاعة الى الحج ، وكان بحاجة الى شراء بيت به ، فان وجوب صرفه في الحج لا يوجب الضرر بمعنى النقص ، وانما يوجب الحرج بمعنى الوقوع في المشقة لا أكثر.

انّه في هذين الموردين يصدق الحرج بدون الضرر.

وقد ينعكس الامر ، كما اذا أوجب الوضوء المرض ـ كالحمى ـ بدون أن يكون ذلك حرجا.

٤ ـ وجه تقدم القاعدة على الأدلّة الأوّلية‌

لو لاحظنا النسبة بين الأدلّة الأوّلية وقاعدة لا حرج وجدناها العموم من وجه ، فدليل وجوب الوضوء ـ مثلا ـ يثبت وجوب الوضوء بشكل مطلق وشامل حتى لحالة الحرج ، ودليل نفي الحرج ينفي كل حكم حرجي بما في ذلك وجوب الوضوء. ومع كون النسبة هي العموم من وجه فلما ذا تقديم القاعدة على الأدلّة الأوّلية ولا يعكس الأمر؟

وقد تقدم عند البحث عن قاعدة لا ضرر بيان عدة وجوه لتقديم قاعدة لا ضرر، ولعل تلك الوجوه تأتي هنا أيضا.

إلاّ أنّ المتعين هنا ـ كما كان هو المتعين في قاعدة لا ضرر ـ كون الوجه في التقديم هو الحكومة ، فقاعدة لا حرج حاكمة بمعنى انها ناظرة الى الأدلّة الأوّلية وتريد ان تبين ان تلك الأدلّة الأوّلية لا تريد اثبات الاحكام بشكل مطلق وشامل حتى لحالة الحرج ، بل هي تختص بحالة عدم الحرج ، فان الله سبحانه لم يجعل على عباده الحرج في تشريعاته ودينه.

١٧٦

٥ ـ وهن القاعدة بكثرة التخصيص‌

قد يشكل على قاعدة نفي الحرج ـ كما أشكل بذلك في قاعدة لا ضرر ـ بكثرة التخصيص ، فالجهاد حرجي وقد خرج وجوبه من القاعدة ، فهو واجب بالرغم من كونه حرجيا ، وهكذا حرمة الفرار من الزحف أو وجوب تسليم النفس للحدّ والقصاص و ...

وكثرة التخصيص ، حيث إنّها مستهجنة فيكشف ذلك عن ارادة معنى من القاعدة غير ما نفهمه منها لا تلزم منه كثرة التخصيص ، وحيث إنّ ذلك المعنى مجهول لنا فلا يمكن الاستدلال بعد هذا بالقاعدة في شي‌ء من الموارد.

ويرده ما تقدمت الاشارة إليه في قاعدة لا ضرر من ان الالزام بمثل هذه الأمور حيث انه عقلائي فلا يكون مشمولا للقاعدة من البداية لأن رفع الالزام في مثل الموارد المذكورة ما دام ليس عقلائيا ـ لما يترتب على الالزام المذكور من المصالح وحفظ النظام ـ فلا معنى لرفعه ، فان رفعه خلاف عقلائية ثبوته ، والقاعدة ناظرة الى ما يكون رفعه عقلائيا.

٦ ـ هل المدار على رفع الحرج النوعي أو الشخصي؟

الحرج تارة يكون شخصيا واخرى نوعيا.

والمراد من الحرج الشخصي : الحرج الثابت لهذا الشخص بخصوصه أو لذاك بخصوصه ، بينما المراد من الحرج النوعي : الحرج الثابت لنوع الناس ، ـ أي غالبهم ـ كما هو الحال في وجوب الوضوء حالة‌

١٧٧

المرض ، فانه حرجي لغالب المرضى وان لم يكن حرجيا بلحاظ بعض المرضى.

وإذا كان المدار على الحرج الشخصي فوجوب الوضوء ـ مثلا ـ لا يرتفع الا عمن كان ثبوت الوجوب في حقه حرجيا بالخصوص ، ولا يكفي كونه حرجيا بلحاظ النوع والغالب ، وهذا بخلافه بناء على ارادة الحرج النوعي ، فانه يرتفع الوجوب في حق كل مريض حتى من لم يكن ثبوت الوجوب في حقه حرجيا.

وباتضاح المقصود نعود لنطرح التساؤل : هل قاعدة لا حرج تنفي الأحكام الأوّلية في حالة لزوم الحرج الشخصي بالخصوص ولا يكفي لزوم الحرج النوعي ، أو انها تنفي الأحكام حالة الحرج النوعي أيضا ولا يلزم تحقق الحرج الشخصي.

الصحيح كون المدار على الحرج الشخصي ، لأن ذلك هو المتبادر والمفهوم من لسان دليل القاعدة (... ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ...) ، والحمل على الحرج النوعي يحتاج الى قرينة ، وهي مفقودة.

٧ ـ هل رفع الحرج رخصة أو عزيمة؟

إذا كان وجوب الوضوء في حق مريض حرجيا فلا اشكال في ارتفاعه بالقاعدة ، ولكن لو فرض انه تكلّف واتى به بالرغم من كونه حرجيا في حقه فهل يقع منه صحيحا؟

ان الجواب عن ذلك يرتبط بتحقيق نقطة ، وهي : هل المقصود من القاعدة رفع الالزام بالوضوء دون الرخصة في الاتيان به ، أو ان المقصود منها رفع الالزام والرخصة معا؟

١٧٨

فعلى الأوّل يقال : إنّ الرفع في القاعدة وارد بنحو الرخصة ، أي ان المكلّف مرخص في ترك الوضوء ـ مثلا ـ وليس بملزم به ، ولكنه في نفس الوقت مرخص في الاتيان به ، في حين إنّه على الثاني يقال : ان الرفع وارد بنحو العزيمة (١) ، اي ان المكلّف ملزم بترك الوضوء ـ مثلا ـ وليس مرخصا في ذلك.

وقد اختار جماعة ، منهم السيد اليزدي في العروة الوثقى (٢) كونه بنحو الرخصة دون العزيمة في حين اختار آخرون كونه بنحو العزيمة.

وقد يستدل على كون الرفع بنحو العزيمة دون الرخصة بوجهين :

١ ـ ما تمسك به الشيخ النائيني في خصوص مسألة الوضوء.

وحاصله ان الآية الكريمة : (... وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ...) (٣) تدل على ان موضوع وجوب الوضوء هو الواجد للماء ، بمعنى القادر عليه ، وموضوع وجوب التيمم هو الفاقد للماء ، بمعنى غير القادر عليه ، فإذا فرض كون الرفع في قاعدة لا حرج بنحو الرخصة دون العزيمة فهذا يعني : أنّ المكلّف يجوز له في حالة الحرج كلا الأمرين : التيمم والوضوء ، وهو غير ممكن لان لازمه كون المكلّف واجدا للماء وغير واجد له ، وهو مستحيل لكونه اجتماعا للمتناقضين.

اما كيف يلزم كونه واجدا وغير واجد؟ ذلك باعتبار أنّ الوضوء‌

__________________

(١) المقصود من العزيمة هو الالزام والوجوب.

(٢) راجع المسألة ١٨ من فصل مسوغات التيمم.

(٣) المائدة : ٦.

١٧٩

إذا كان جائزا فلازمه كونه واجدا للماء ـ إذ موضوع وجوب الوضوء هو الواجد للماء كما تقدم ـ وإذا كان التيمم جائزا له أيضا فلازمه كونه فاقدا للماء ، لأن موضوع وجوب التيمم هو فقدان الماء.

وبالجملة لا يمكن ان يكون رفع الحرج بنحو الرخصة لأن لازمه التخيير بين الوضوء والتيمم في حالة الحرج ، وهو غير ممكن ، لأن لازم التخيير اجتماع المتناقضين ، وان المكلّف واجد للماء وغير واجد له.

ويرده : ان الجمع بين المتناقضين يلزم لو فرض أنّنا قلنا بوجوب كلا الأمرين ـ الوضوء والتيمم ـ على المكلّف بنحو التعيين ، بمعنى انه يجب الاتيان بالوضوء بنحو التعيين وبالتيمم بنحو التعيين ، انه آنذاك يلزم الجمع بين المتناقضين ، اما إذا قلنا بوجوب كل واحد منهما بنحو التخيير ـ أي هو مخير في الاتيان باحدهما ـ فلا يلزم المحذور المذكور ، لأن الوجدان ليس موضوعا لوجوب الوضوء بنحو التخيير ، بل هو موضوع لوجوبه بنحو التعيين ، وهكذا بالنسبة الى الفقدان ، فانه موضوع لوجوب التيمم بنحو التعيين ، لأن ذلك هو المستفاد من الآية الكريمة ، والمفروض اننا لا نقول بوجوب كل منهما بنحو التعيين ، بل بوجوب احدهما بنحو التخيير.

٢ ـ ان كون الرفع في قاعدة نفي الحرج بنحو الرخصة دون العزيمة يتم لو فرض اننا قلنا بان المرفوع بالقاعدة هو خصوص الالزام دون أصل الطلب والرجحان والملاك ، انه بناء على هذا يمكن الحكم بصحة الوضوء في موارد الحرج استنادا الى الملاك والرجحان ، ولكن هذا لا يمكن الالتزام به ، حيث ان الدال على الملاك والرجحان هو الوجوب ، فإذا رفع الوجوب بقاعدة لا حرج لا يبقى ما يدل على بقاء‌

١٨٠