موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

ولئن كان هشام يتقوّل في الكلام على الباقر عليه‌السلام بأ نّه نبيّ أهل العراق! فإنّ أبا حنيفة النعمان كان قد حجّ ورأى أبا جعفر عليه‌السلام قاعداً في المسجد (الحرام) فاستأذنه : أجلس؟ فقال له أبو جعفر : أنت رجل مشهور (كذا) ولا أُحبّ أن تجلس إليّ! ولكنّه لم يلتفت إلى نهي أبي جعفر وجلس وسأله : أنت الإمام؟ فاتّقاه الإمام (هنا) وقال له : لا! قال : فإنّ قوماً بالكوفة يزعمون أنّك إمام! قال : فما أصنع؟ قال : تكتب إليهم تخبرهم! قال : لا يطيعون ؛ إنّما نستدلّ على من غاب بمن حضرنا منهم ، وقد أمرتك أن لا تجلس فلم تطعني! فكذلك لو كتبت إليهم ما أطاعوني! فلم يقدر أبو حنيفة الكلام (١)!

وكأنّه بدأ الباقر عليه‌السلام يعلّم طالبي علومه التورية في كلامهم لدفع تلك المضايقات!

فقد أرسل الحلبي عن كَهمس عن جابر بن يزيد الجعفي عن بداية رحلته من الكوفة إلى الباقر عليه‌السلام بالمدينة لطلب علومه قال : لمّا دخلت عليه سألني : من أين أنت؟ فقلت له : من أهل الكوفة. قال : ممّن؟ قلت : من جُعُف. قال : وما أقدمك إلى هاهنا؟ قلت : طلب العلم. قال : ممّن؟ قلت له : منك! قال : فإذا سألك أحد : من أين أنت؟ فقل : من أهل المدينة! قلت : أيحلّ لي أن أكذب! قال : هذا ليس كذباً! من كان في مدينة فهو من أهلها حتّى يخرج (٢) فهذا أوّل تعليم بحقّ التورية لدفع الضرر غير المحتمل ، المحتمل من قبل الحاكم الظالم ، فلعلّه شعر به من قبل هشام ولا سيّما بعد ما رأى.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢١٦ عن الطبري الإمامي.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢١٧.

٦١

الباقر عليه‌السلام عند هشام بالشام :

روى الطبريّ الإمامي بسنده عن الصادق عليه‌السلام خبراً جاء فيه : أنّ مَسلمة بن عبد الملك كان مع أخيه هشام لمّا حجّ في أوّل خلافته سنة (١٠٦ ه‍) ، وكان الصادق مع أبيه الباقر عليهما‌السلام ، وسمع مَسلمة من الصادق عليه‌السلام يقول لمن حوله : الحمد لله الذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً ، وأكرمنا به ، فنحن صفوة الله على خلقه وخيرته من عباده وخلفاؤه! فالسعيد من اتّبعنا والشقيّ من عادانا وخالفنا!

فانصرف مَسلمة إلى أخيه هشام وأخبره بما سمع من الصادق عليه‌السلام! وكأنّ هشاماً لم يَر من حِشمته أن يبادر بمؤاخذته على كلمته فلم يعرض لهم حتّى انصرف إلى دمشق ، وانصرف الصادق مع أبيه الباقر عليهما‌السلام إلى المدينة ، فأنفذ بريداً إلى عامل المدينة خاله (إبراهيم بن هشام المخزومي) بإشخاص الباقر والصادق معه ، فأشخصهم إليه.

قال الصادق عليه‌السلام : فلمّا وردنا مدينة دمشق حجبنا ثلاثة ثمّ في اليوم الرابع أذن لنا ، فدخل أبي أمامي وأنا خلفه ، وإذا به قد قعد على سرير الملك ، وخاصّته وجنده وقوف على أرجلهم سماطان متسلّحان (١).

وروى الكليني بسنده عن أبي بكر الحضرمي (٢) قال : لمّا صار أبو جعفر عليه‌السلام بباب هشام قال لمن بحضرته من بني امية وأصحابه : إذا رأيتموني وبّخت محمّد ابن علي عليه‌السلام وسكتُّ فليقبل عليه كلّ رجل منكم فليوبّخه! ثمّ أمر أن يؤذن له.

فلمّا دخل أبو جعفر عليه‌السلام عمّهم بالسلام جميعاً ثمّ جلس! وترك السلام على هشام بالخلافة وجلس بغير إذن فازداد هشام حنقاً عليه فأقبل عليه

__________________

(١) عن دلائل الإمامة في بحار الأنوار ٤٦ : ٣٠٦ ، الباب ٧ : خروجه إلى الشام.

(٢) انظر ترجمته في قاموس الرجال ٦ : ٥٦٩ برقم ٤٤٨٦ وهو عبد الله بن محمّد الكوفي.

٦٢

وأخذ يوبّخه يقول له : يا محمّد بن علي! لا يزال الرجل منكم يشقّ عصا المسلمين ويدعو إلى نفسه ويزعم أنّه الإمام! سفهاً وقلّة علم!

ولمّا سكت أقبل عليه من القوم الرجل يوبّخه ثمّ آخر حتّى آخرهم.

فلمّا سكت القوم نهض عليه‌السلام قائماً ثمّ قال لهم : أيّها الناس! أين تذهبون وأين يراد بكم؟! بنا هدى الله أوّلكم ، وبنا يختم آخركم! فإن يكن لكم ملك معجَّل فإنّ لنا ملكاً مؤجّلاً ، وليس بعد ملكنا ملك ؛ لأنّا أهل العاقبة في قوله سبحانه : (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١)).

قال الصادق عليه‌السلام : وكان هشام قد نصب غرضاً على رأس رمح وكان أشياخ قومه يرمون ، فنادى أبي قال له : يا محمّد! ارمِ مع أشياخ قومك الغرض! فقال له : إنّي قد كبرت عن الرمي ، فهل ترى أن تعفيني؟ فقال : وحقّ من أعزّنا بدينه ونبيّه محمّد لا أعفيك! ثمّ أومأ إلى شيخ من بني أُمية : أن أعطِه قوسك.

فعند ذلك تناول أبي قوس ذلك الشيخ وتناول منه سهماً ووضعه في كبد القوس ثمّ انتزع ورمى وسط الغرض فنصب سهمه فيه! ثمّ تناول الثانية ورمى الثانية فيه فشقّ فواق السهم السابق إلى نصله ، ثمّ تابع الرمي إلى تسعة أسهم لاحقتها في جوف سابقتها! فلم يتمالك هشام إلّاأن ناداه : أجدت ـ يا أبا جعفر ـ وأنت أرمى العرب والعجم! هلّا زعمت أنّك كبرت عن الرمي! ثمّ أطرق إطراقةً إلى الأرض يتروّى فيها ، وأنا وأبي واقفَين حذاه مواجهَين له! وكان أبي إذا غضب نظر إلى السماء نظر غضبان يرى الناظر الغضب في وجهه ، فلمّا طال وقوفنا غضب أبي ونظر إلى السماء نظر غضبان!

فلمّا رأى هشام ذلك من أبي ناداه : يا محمّد إليَّ! فمشى أبي إلى سرير

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٢٥ ، والقصص : ٨٣. والخبر في أُصول الكافي ١ : ٤٧١.

٦٣

هشام وأنا أتبعه ، فلمّا دنا من هشام قام إليه واعتنقه وأقعده عن يمينه ، ثمّ اعتنقني وأقعدني على يمين أبي ، ثمّ أقبل بوجهه على أبي وقال له : يا محمّد! لا تزال قريش تسود العرب والعجم مادام فيها مثلك! لله درّك! مَن علّمك هذا الرمي وفي كم تعلّمته؟! فقال أبي : قد علمتُ أنّ أهل المدينة يتعاطونه في أيّام حداثتي فتعاطيته ثمّ تركته ، فلمّا أراد أمير المؤمنين! منّي ذلك عدت فيه فقال : ما رأيت قطّ مثل هذا الرميّ مذ عقلت! وما أظن أن يكون في الأرض أحد يرمي مثل هذا الرّمي! ثمّ سأله : أيرمي جعفر مثل رميك؟

فقال أبي : إنّا نحن نتوارث الكمال والتمام اللذين أنزلهما الله على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً (١)) والأرض لا تخلو ممّن يُكمل هذه الأُمور التي يقصر غيرنا عنها!

وكانت علامة غضب هشام أنّه إذا غضب احمرّ وجهه وانقلبت عينه اليمنى فاحولّت (أي اشتدّ الحَول فيها) فلمّا سمع ذلك من أبي صار كذلك فأطرق هنيهة ثمّ رفع رأسه وقال لأبي : ألسنا بني عبد مُناف نسبنا ونسبكم واحد؟!

فقال أبي : نحن كذلك! ولكنّ الله جلّ ثناؤه اختصّنا من مكنون سرّه وخالص علمه بما لم يخصّ به أحداً غيرنا!

فقال : أليس الله جلّ ثناؤه بعث محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله من شجرة عبد مناف إلى الناس كافة : أبيضها وأسودها وأحمرها؟ فمن أين ورثتم ما ليس لغيركم ورسول الله مبعوث إلى الناس كافّة؟ وذلك قول الله تبارك وتعالى : (وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (٢)) فمن أين ورثتم هذا العلم ، وليس بعد محمّد نبيّ ولا أنتم أنبياء؟!

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) آل عمران : ١٨٠.

٦٤

فقال أبي : ذلك من قوله تبارك وتعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لَاتُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١)) فالذي لم يحرّك به لسانه لغيرنا أمره الله أن يخصّنا به من دون غيرنا ، فلذلك ناجى أخاه علياً من دون أصحابه ، فأنزل الله بذلك قرآناً في قوله : (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (٢)) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله له : سألت الله أن يجعلها اذنك يا علي! فلذلك قال علي بن أبي طالب بالكوفة : علّمني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ألف باب من العلم ، ففتح كلّ باب ألف باب! فكما خصّ الله نبيّه خصّ نبيّه أخاه علياً من مكنون سرّه بما لم يخصّ به أحداً من قومه ، حتّى صار إلينا ، فتوارثناه من دون أهلنا.

فقال هشام : إنّ علياً كان يدّعي علم الغيب! والله لم يُطلع على غيبه أحداً ، فمن أين ادّعى ذلك؟

فقال أبي : إنّ الله جلّ ذكره أنزل على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كتاباً بيّن فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة (كذا) في قوله تعالى : (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَىْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (٣)) وفي قوله : (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (٤)) وفي قوله : (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (٥)) وأوحى الله إلى نبيّه أن لا يبقي في غيبه وسرّه ومكنون علمه شيئاً إلّايناجي به علياً ، وأمره أن يؤلّف القرآن من بعده ، ويتولّى غسله وتحنيطه وتكفينه من دون قومه ، وقال لأصحابه : «حرام على أصحابي وأهلي أن ينظروا إلى (جسدي) غير أخي علي فإنّه منّي وأنا منه له مالي وعليه ما عليَّ ، وهو قاضي دَيني ومنجز وعدي»!

__________________

(١) القيامة : ١٦.

(٢) الحاقة : ١٢.

(٣) النحل : ٨٩.

(٤) يس : ١٢.

(٥) الأنعام : ٣٨.

٦٥

ثمّ قال لأصحابه : «علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله». ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلّاعند علي عليه‌السلام ، ولذلك قال رسول الله لأصحابه : «أقضاكم علي» وقال عمر بن الخطاب : لولا علي لهلك عمر! يشهد له عمر ويجحده غيره!

فأطرق هشام طويلاً ، ثمّ رفع رأسه فقال لأبي : سل حاجتك. فقال : خلّفت عيالي وأهلي مستوحشين لخروجي! فقال : قد آنس الله وحشتهم برجوعك إليهم ، ولا تقم ، سِر من يومك فقام أبي وقام هشام فاعتنقه أبي ودعا له! وفعلت ، أنا كفعل أبي وخرجنا (١).

أجوبة الباقر عليه‌السلام للنصراني في الشام :

في خبر الطبريّ الإمامي عن الصادق عليه‌السلام قال : كان بباب (قصر) هشام بالشام ميدان ، فلمّا خرجنا من عنده إلى الميدان إذا في آخر الميدان عدد كثير من الناس قعود ، فسأل أبي حُجّاب الباب. قال : مَن هؤلاء؟ فقال الحُجّاب : هؤلاء القسّيسون والرُّهبان ، ولهم عالم يقعد لهم في كلّ سنة يوماً واحداً يستفتونه فيفتيهم.

فعند ذلك لفّ أبي رأسه بفاضل ردائه (كذا) وأنا فعلت مثل فعل أبي ، ثمّ أقبل نحوهم حتّى قعد نحوهم ، وقعدت وراء أبي ، وأقبل أعداد من المسلمين فأحاطوا بنا.

ورفع هذا الخبر إلى هشام فأمر بعض غلمانه أن يحضر الموضع فينظر ما يصنع أبي ، فأقبل بعض غلمان هشام وأحاطوا بنا.

__________________

(١) عن دلائل الإمامة في بحار الأنوار ٤٦ : ٣٠٧ ـ ٣٠٩.

٦٦

وأقبل عالم النصارى وقد شدّ حاجبيه بحريرة صفراء ، فقام إليه جميع القسّيسين والرّهبان يحيّونه وجاءوا به إلى صدر المجلس فقعد فيه وأحاط به أصحابه ، فأدار نظره فرآنا فقال لأبي : أمِنّا؟ أم من الامّة المرحومة؟ فقال أبي : بل من هذه الامّة المرحومة. فقال : من أيّهم أنت من علمائها أم من جهّالها؟ فقال أبي : لست من جُهّالها! فقال : أسألك؟ فقال أبي : سل.

فقال : من أين ادّعيتم أنّ أهل الجنّة يطعمون ويشربون ولا يُحدثون ولا يبولون؟! وما الدليل والشاهد على ما تدّعونه من شاهد لا يُجهل؟

فقال أبي : دليل ما ندّعي من شاهد لا يُجهل : الجنين في بطن أُمّه يطعم ولا يحدث!

فاضطرب النصراني اضطراباً شديداً وقال : هلّا زعمت أنك لست من علمائها؟ قال : بل لست من جهّالها. وأصحاب هشام يسمعون ذلك. فقال : أسألك عن مسألة أُخرى؟ قال أبي : سل.

فقال : من أين ادّعيتم أنّ فاكهة الجنّة أبداً غضّة طريّة موجودة غير معدومة عند جميع أهل الجنة؟ وما الدليل عليه من شاهد لا يُجهل؟

فقال أبي : دليل ما ندّعي : أنّ ترابنا أبداً يكون غضّاً طريّاً موجوداً غير معدوم عند جميع أهل الدينا.

فاضطرب اضطراباً شديداً وقال : هلّا زعمت أنّك لست من علمائها؟ قال : بل لست من جُهالها. فقال : أسألك عن مسألة أُخرى؟ قال : سل.

فقال : أخبرني عن ساعة لا هي من ساعات الليل ولا هي من ساعات النهار؟

فقال أبي : هي ساعة ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، يفيق فيها المغمى عليه ، ويرقد فيها الساهر ويهدأ فيها المبتلى .. فصاح النصراني : والله لأسألك عن مسألة لا تهتدي إلى الجواب عنها أبداً! قال أبي : سل.

٦٧

فقال : أخبرني عن مولودَين ولدا في يوم واحد وماتا في يوم واحد ، وعمّر أحدهما خمسون سنة ، وعمّر الآخر مئة وخمسون سنة في دار الدنيا.

فقال له أبي : عِزراً وعزيراً ولدا في يوم واحد ، فلمّا بلغ خمسة وعشرين عاماً مرّ عزراً على حماره راكباً على قرية بأنطاكية (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا (١)) وكان الله قد هداه واصطفاه ، فلمّا قال ذلك القول غضب الله عليه (كذا) (فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ (٢)) سخطاً عليه بما قال : ثمّ بعثه على حماره بعينه ، وطعامه وشرابه ، وعاد إلى داره وأخوه عُزير لا يعرفه فاستضافه فأضافه ، وعزر شاب في سنّ خمس وعشرين سنة ، فلم يزل عِزر يذكّره أخاه وولده وهم يذكرون ما يذكّرهم ويقولون له : ما أعلمك بأمر قد مضت عليه السنون! ويقول له أخوه عزير : ما رأيت شاباً في سنّ خمسة وعشرين سنة أعلم منك بما كان بيني وبين أخي عِزر أيام شبابي! فمن أهل الأرض أنت أم من أهل السماء؟!

فحينئذ قال له أخوه عِزرا : يا عُزير أنا عِزر! سخط الله عليَّ (كذا) بقول قلته بعد أن هداني واصطفاني! فأماتني مئة سنة ثمّ بعثني! لتزدادوا بذلك يقيناً أنّ الله على كلّ شيء قدير ، وهاهوذا حماري وطعامي وشرابي الذي خرجت بها من عندكم أعادها الله تعالى كما كانت! فعندها أيقنوا بذلك (٣). وأعاشه الله بينهم خمسة وعشرين سنة ثمّ قبضه الله وأخاه في يوم واحد.

فعند ذلك نهض عالم النصارى قائماً ، فقام النصارى على أرجلهم فقال لهم : جئتموني بأعلم منّي وأقعدتموه معكم حتّى هتكني وفضحني ، وأعلم

__________________

(١) و (٢) البقرة : ٢٥٩.

(٣) وهذه هي العلّة في ذلك دون غضب الله وسخطه عليه وقد هداه الله واصطفاه كما مرّ ، ولعلّهما من زيادات الرواة.

٦٨

المسلمين بأنّ لهم من يحيط بعلومنا وعنده ما ليس عندنا! فلا أقعد لكم سنة إن عشت ولا اكلّمكم من رأسي كلمة واحدة! ثمّ تفرقوا. وبقي أبي قاعداً مكانه وأنا معه ، حتّى تفرّق الناس ، فنهض أبي وأنا معه ، فانصرفنا إلى المنزل الذي كنّا فيه.

ورُفع خبر ذلك إلى هشام ، فوافانا رسول هشام بالجائزة ، ولكنّه أمرنا أن ننصرف إلى المدينة من ساعتنا. وذلك أنّ الناس خاضوا وماجوا فيما دار بين أبي وبين عالم النصارى. فركبنا دوابّنا منصرفين (١).

ولما توجّه تلقاء ماء مَدين (٢) :

في خبر الطبريّ الإمامي عن الصادق عليه‌السلام قال : سبقنا بريد من عند هشام إلى عامل مَدين على طريقنا إلى المدينة : أنّ ابنَي أبي تراب الساحرَين!

__________________

(١) عن دلائل الإمامة في بحار الأنوار ٤٦ : ٣٠٩ ـ ٣١١ ، وجاء في آخر الخبر السابق عن اصول الكافي عن أبي بكر عبد الله بن محمّد الحضرمي الكوفي : فأمر به إلى الحبس ، فلمّا صار إليه تكلّم لمن فيه فلم يبقَ في الحبس رجل إلّاحنّ إليه. فرفع صاحب الحبس ذلك إلى هشام ، فأمر به فحُمل هو وأصحابه (كذا) على البريد ليُردّوا إلى المدينة. ونهى أن تخرج لهم الأسواق حتّى للطعام بل وحتّى للشراب (كذا) فساروا بلا طعام ولا شراب ثلاثة أيام حتّى انتهوا إلى مدين ...

هذا ، والخبر موقوف على الحضرمي الكوفي بلا إسناد إلى حاضر ناظر مباشر ، فلعلّه كان بوسائط وزيادات الرواة ، ولا يكفي في رجحانه كونه في اصول الكافي.

وفي الدر النظيم : ١٩٠ للشيخ يوسف العاملي تلميذ المحقق الحلّي ، روى خبر النصراني عن أبي بصير عن الباقر عليه‌السلام وأنّ ذلك كان في بهو عظيم فيه خلق كثير.

(٢) بينها وبين تبوك ستّ مراحل ، مراصد الإطلاع ٣ : ١٢٤٦ ، وانظر أطلس تاريخ الإسلام للدكتور مونس.

٦٩

محمّد بن علي وجعفر بن محمّد الكذّابَين فيما يُظهران من الإسلام ؛ وردا عليَّ ، فلمّا صرفتهما إلى المدينة مالا إلى القسّيسين والرُّهبان من كفّار النصارى! وأظهرا لهم دينهم ومرقا من الإسلام إلى دين النصارى ، وتقرّبا إليهم بالنصرانية! فكرهت أن انكّل بهما لقرابتهما! فإذا قرأت كتابي هذا فنادِ في الناس : برئت الذمّة ممّن يشاريهما أو يبايعهما أو يصافحهما أو يسلّم عليهما! فإنّهما قد ارتدّا عن الإسلام! ورأى أمير المؤمنين أن يقتلهما شرّ قِتلة!

فلمّا شارفنا مدينة مَدين قدّم أبي غلمانه ليرتادوا لنا منزلاً ويشروا لدوابّنا علفاً ولنا طعاماً ، فلمّا قرب غلماننا من باب المدينة أغلقوا الباب في وجوهنا! وشتمونا وقالوا : لا نزول لكم عندنا ولا شراء ولا بيع! يا كفّار يا مشركين! يا مرتدّين يا كذّابين! يا شرّ الخلائق أجمعين! ووقف غلماننا على الباب.

فلمّا انتهينا إليهم كلّمهم أبي وقال لهم بليّن القول : اتّقوا الله ولا تغلطوا ، فلسنا كما بلغكم ، ولا نحن كما تقولون. فأسمَعونا كلماتهم السابقة! فقال لهم : فهبنا كما تقولون افتحوا الباب وشارونا وبايعونا كما تشارون وتبايعون اليهود والنصارى! فقالوا : أنتم شرّ من اليهود والنصارى والمجوس! لأنّ هؤلاء يؤدّون الجزية وأنتم ما تؤدّون! فقال لهم أبي : فافتحوا لنا الباب وخذوا منّا الجزية كما تأخذون منهم! فقالوا : لا نفتح ، ولا كرامة لكم! حتّى تموتوا على ظهور دوابّكم جياعاً وتموت دوابّكم تحتكم!

فثنى أبي رجله عن سرجه ونزل وقال لي : يا جعفر مكانك لا تبرح. ثمّ صعد الجبل المطلّ على مدينة مَدين ، وأهل مدين ينظرون إليه ما يصنع. فلمّا صار في أعلاه استقبل بوجهه وجسده المدينة ثمّ وضع إصبعيه في اذنه ثمّ نادى بأعلى صوته : (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ* وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا

٧٠

فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ* بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١)) ثمّ قال لهم : فنحن والله بقية الله في أرضه!

فأمر الله ريحاً سوداء مظلمة فهبّت واحتملت صوت أبي فطرحته في أسماع الرجال والنساء ، فما بقي أحد من الرجال والنساء إلّاصعد السطوح وفيهم شيخ منهم كبير السنّ ، فلمّا نظر إلى أبي على الجبل نادى بأعلى صوته : اتقوا الله يا أهل مدين ، فإنّه قد وقف الموقف الذي وقف فيه شعيب عليه‌السلام حين دعا على قومه ، فإن أنتم لم تفتحوا له الباب ولم تُنزلوه جاءكم من الله العذاب ، فإنّي أخاف عليكم ذلك ، وقد أعذرَ من أنذر!

ففزعوا ، وفتحوا الباب ، وارتحلنا في اليوم الثاني. وكتب العامل بجميع ذلك إلى هشام ، فكتب هشام إلى عامل مدين يأمره أن يأخذ الشيخ فيقتله. وكتب إلى عامل المدينة أن يحتال في سمّ أبي في طعام أو شراب! ولكنّه مضى هشام ولم يتهيّأ له في أبي شيء من ذلك (٢).

وفي خبر الحضرمي : أنّ هشاماً بعث إلى مدين من حمل الشيخ فلم يُدرَ ما صنع به (٣).

وفي خبر الراوندي «في قصص الأنبياء» عن الصدوق بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : كتب هشام إلى عامله بمدين بحمل الشيخ إليه ، فحمله إليه ، فمات في الطريق (٤).

__________________

(١) سورة هود : ٨٤ ـ ٨٦.

(٢) عن دلائل الإمامة في بحار الأنوار ٤٦ : ٣١١ ـ ٣١٣.

(٣) اصول الكافي ١ : ٤٧٢.

(٤) قصص الأنبياء : ١٤٢ ـ ١٤٥ والصدوق يرويه عن علي بن إبراهيم القمي عن أبيه إلى أبي بصير. وفي تفسيره ١ : ٩٨ ـ ٩٩ خبر آخر موقوف على عمر بن عبد الله الثقفي في محاجة الباقر عليه‌السلام مع النصراني فقط!

٧١

وقد روى الراوندي في «الخرائج والجرائح» خبراً مرسلاً عن الصادق عليه‌السلام أيضاً : أن عالم النصارى واجتماعهم عليه كان على باب دَير عظيم في مَدين في طريقهم إلى الشام ، وهناك كانت مسائله من الإمام الباقر وجوابه له ، فأسلم على يديه! ثمّ ارتحلوا إلى الشام ، فلمّا عادوا وأغلقوا دونهم باب القلعة ، فاخبر الشيخ الراهب المسلم بذلك فحمل إلى الإمام طعاماً كثيراً مخالفاً أمر الوالي ، فأمر الوالي بتقييد الشيخ فقيّدوه ليحملوه إلى الشام. قال الصادق عليه‌السلام : فاغتممت وبكيت ، فقال والدي : لا بأس بالشيخ فإنّه يُتوفّى في أوّل منزل ينزله (١).

وهذا أولى وأقرب وأنسب أن يكون هذا اللقاء عند دَير في مَدين وليس في ميدان بباب قصر هشام بدمشق الشام. ولم يُعهد مثل ذلك هنالك في أيّ خبر آخر ، ولا في سفح جبل بدمشق بلا ذكر لدير أو كنيسة هناك ، كما في خبر آخر.

هذا ابن أبي تراب :

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة ورأى علياً عليه‌السلام نائماً على التراب وقد تترّب وجهه ، فناداه : قُم يا أبا تراب ، رفقاً ولطفاً به. إلّاأنّ أنداده ولا سيّما معاوية بن أبي سفيان اتّخذوا ذلك كنايةَ إهانة أو توهين ، وبها عُرف فيهم وفي أتباعهم وأشياعهم وأوليائهم.

وقد مرّ الخبر أنّ عمر بن عبد العزيز عزّ عليه ذلك خلافاً لسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فمنع عن سبّ عليّ بن أبي طالب وطالبهم بالكفّ عن مثل ذلك.

ولكن مرّ الخبر آنفاً قُبيل هذا عن الطبري الإمامي عن الصادق عليه‌السلام : أنّ هشاماً أوعز إلى المدن ولا سيّما إلى مَدين : أنّ ابني أبي تراب الكذّابين ...

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ٢٩١ ـ ٢٩٣.

٧٢

فلعلّ هناك كان ما نقله الحلبي بثلاثة طرق عن الصادق عليه‌السلام قال : لمّا أشخص أبي محمّد بن علي عليه‌السلام إلى دمشق (في ذلك السفر) سمع الناس يقولون :

هذا ابن أبي تراب (فلعلّه كان في مَدين مبنيّاً على وصف هشام لهم) فأسند ظهره إلى جدار.

ثمّ حمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ عليه‌السلام (كذا) ثمّ قال : اجتنبوا أهل الشقاق وذريّة النفاق ، وحشو النار وحصب جهنّم ، عن البدر الزاهر والبحر الزاخر ، والشهاب الثاقب والصراط المستقيم (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (١)).

أبصِنو رسول الله تستهزئون؟! أم بيعسوب الدين تلمزون؟! وأيّ سبيل بعده تسلكون؟! وأيّ حزن بعده تدفعون؟! هيهات هيهات! برز والله بالسبق وفاز بالخصل (الهدف) واستولى على الغاية ، وأحرز الخطار (الجائزة) فانحسرت عنه الأبصار (حسداً) وخضعت دونه الرقاب ، وفرَع (اعتلى) الذروة العليا ، فكذّب من رام السعى وأعياه الطلب (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٢)) وأنشد :

اولئك قوم إن بنوا أحسنوا البِنا

وإن عاهدوا أوفوا ، وإن عقدوا شدّوا

أقلّوا عليهم ـ لا أباً لأبيكم ـ

من اللوم ، أو سدّوا المكان الذي سدّوا

وأ نّى يُسدّ ثلمة أخي رسول الله إذا صدقوا؟! وشقيقه إذا نسبوا ، ونديده (مثله) إذا أقبلوا ، وذي قرنى كنزها إذا فتحوا ، ومصلّي القبلتين إذ تحرّفوا! والمشهود له بالإيمان إذ كفروا! والمدعوّ لنبذ عهد المشركين إذ نكلوا ، والخليفة

__________________

(١) النساء : ٤٧.

(٢) سبأ : ٥٢.

٧٣

على المهاد ليلة الحصار إذ جزعوا! والمستودع الأسرار ساعة الوداع (١) (إذ خالفوا وفارقوا) إلى آخر كلامه عليه‌السلام.

وقد مرّ أن حجّ هشام كان في السنة الثانية من حكمه أي في سنة ستّ ومئة (٢) وأ نّه لما رجع من الحج فأنفذ بريداً يريد إشخاص الباقر عليه‌السلام إليه بدمشق (٣) أي كان ذلك سنة (١٠٧ ه‍). وقال خليفة : وفي ذلك العام وقع طاعون شديد بالشام حتّى بالبقر والدوابّ والهوام (٤) فلعلّه من سخط الله لوليّه الباقر عليه‌السلام.

وقد مرّ أن هشاماً عزل أخاه مَسلمة عن العراق وولّاها خالد بن عبد الله القّسري ، فولّى هذا أخاه أسداً على خراسان ، ففي هذه السنة (١٠٧ ه‍) غزا أسد غرجستان فأصابهم مجاعة فرجعوا مجهودين (٥) وغزا بلاد سجستان فاستشهد جمع منهم وانكسروا ورجع الجيش مجهودين (٦) فلعلّ ذلك أيضاً من آثار سخط الله لوليّه الباقر عليه‌السلام.

ثمّ جعل مَسلمة على أرمينية :

وفي سنة (١٠٧ ه‍) ولّى هشام أخاه مَسلمة على آذربايجان وأرمينية. وولّى هشام على إفريقية عُبيدة بن عبد الرحمن القيسي ، فغزا في البحر ، فغنم أموالاً جليلة مع عشرين ألف عبد (٧).

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢١٩ ـ ٢٢٠.

(٢) تاريخ خليفة : ٢١٧.

(٣) عن دلائل الإمامة في بحار الأنوار ٤٦ : ٣٠٦ ، الباب ٧.

(٤) تاريخ خليفة : ٢١٧ واليعقوبي ٢ : ٣٢٨.

(٥) تاريخ خليفة : ٢١٧.

(٦) النجوم الزاهرة ١ : ٣٣٢ ولعلّ سجستان مصحفة عن غرجستان.

(٧) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٨.

٧٤

وفي سنة (١١٠ ه‍) مات الفرزدق الشاعر البصري وبها في رجب مات الحسن البصري وفي شوال مات محمّد بن سيرين ، ثمّ وهب بن منبّه وإبراهيم بن محمّد بن طلحة (١).

وبدأ العباسيون بخراسان :

وفي سنة (١١١ ه‍) بدأ سليمان بن كثير الخزاعي وأصحابه بخراسان يدعون إلى «بني هاشم» بدل «بني أُمية» وكثر مجيبوهم ، فأرسل محمّد بن علي بن عبد الله بن العباس إليهم مولاه بُكير بن ماهان ، فدعاهم إلى خلع بني امية والبيعة «لبني هاشم» فأجابوه ، وكثر أصحابه وأشياعه ، ومنهم أبو سلمة حفص بن سليمان الخلّال (بيّاع الخلّ) وارتضاه ابن ماهان لاستخلافه بعده ، وكتب بذلك إلى محمّد بن علي فأقرّه ، فكتب بكير بذلك إلى أصحابه يأمرهم بالسمع له والطاعة فأجابوه.

وبلغ خبرهم إلى والي خراسان أسد بن عبد الله القسري فقبض على جمع منهم فقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم! وشاع خبرهم فخافوه (٢).

كرامة الصادق في عهد الباقر عليه‌السلام :

روى الطبري الإمامي بسنده إلى الليث بن سعد الفهمي المصري (٩٣ ـ ١٧٧ ه‍) قال : حججت سنة (١١٣ ه‍) فأتيت مكة ، فلما صلّيت العصر رقيت أبا قُبيس ، وإذا أنا برجل جالس يدعو يقول : يا ربّ يا ربّ يا ربّ حتّى انقطع نفَسه ،

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢١٩ ـ ٢٢٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٩.

٧٥

ثمّ قال : ربّ ربّ حتّى انقطع نفَسه ، ثمّ قال : يا الله يا الله حتّى انقطع نفَسه ، ثمّ قال : يا حيّ يا حيّ حتّى انقطع نفَسه ، ثمّ قال : يا رحيم يا رحيم حتّى انقطع نفَسه ، ثمّ قال : يا أرحم الراحمين سبع مرّات فانقطع نفَسه ، ثمّ قال : اللهمّ إنّي أشتهي من هذا العنب فأطعمنيه ، وإنّ بُرديّ قد أُخلقا فاكسني.

قال الليث : فوالله ما استتمّ كلامه حتّى نظرت إلى سلّة مملوءة عنباً ، وليس على وجه الأرض يومئذ عنب! وإذا ببردين جديدين موضوعين لم أر مثلهما في الدنيا! فأراد أن يأكل فقلت له : أنا شريكك! فقال لي : وَلِمَ؟ قلت : لأنّك دعوت وأنا اؤمّن! فقال : تقدّم فكُل ولا تُخبِّئ شيئاً! فتقدّمت فأكلت عنباً لم آكل مثله قط وإذا هو عنب لا عجْم له ، فأكلنا حتّى شبعنا ولم تتغيّر السلّة ، وقال : لا تدّخر ولا تخبّئ منه شيئاً!

ثمّ قال لي خذ أحد البُردين ، ثمّ أخذ أحد البُردين ودفع إليّ الآخر. فقلت له : أنا في غنى عنه. فقال لي : فتوارَ عنّي حتّى ألبسهما. فتواريت عنه فاتّزر بأحدهما وارتدى بالآخر ، ثمّ أخذ البردين اللذين كانا عليه فجعلهما على يديه ونزل فاتبعته حتّى إذا كان بالمسعى لقيه رجل فقال له : اكسني يابن رسول الله! كساك الله فإنني عريان! فدفعهما إليه. فقلت له : مَن هذا [الذي قلت له : يابن رسول الله]؟! فقال : هذا جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

قال الليث : فطلبته بعد ذلك لأسمع منه شيئاً فلم أقدر عليه (١).

__________________

(١) دلائل الإمامة : ٢٧٧ ، الحديث ٢١٣ ونقله بعده الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٥٣ عن أمالي الكلوداني والوسيلة لعمر الملّا بلا ذكر السنة. وذكره ابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول ٢ : ٥٩ و ٦٠ ، وعنه في كشف الغمة ٣ : ١٦١ وذكره عن ابن الجوزي وابن بشكوال وبهامشه مصادر أُخرى ، وذكره سبط ابن الجوزي ٢ : ٤٤٩ ـ ٤٥١ بسنده ، وبهامشه مصادر أُخرى.

٧٦

ولا يخفى أن هذا كان على عهد الباقر عليه‌السلام ، وللصادق عليه‌السلام ثلاثون عاماً ، وللّيث بن سعد عشرون عاماً وهو صاحب مالك بن أنس والذي نشر مذهبه بالفسطاط من مصر ومنه في كل افريقيا.

وسائر أخبار عام (١١٤ ه‍):

وهذه السنة كان عبيدة بن عبد الرحمن بأفريقية قد أعدّ للغزو في البحر مئة وثمانين مركباً ، فأغزاها بإمرة المستنير بن الحارث ولكنّ الشتاء عاجلهم فعجّلوا بالرجوع وعادوا بريح طيبة ، ثمّ جاءتهم ريح عاصف فغرقت مراكبهم حتّى لم يسلم منها إلّاسبعة عشر مركباً (١).

وكان على أرمينية وآذربايجان قبل مَسلمة الجرّاح بن عبد الله الحكمي ، فأعاده هشام هذا العام وعزل أخاه مَسلمة ، فبدأ الجرّاح ببلدة البيضاء للخزر فافتتحها وانصرف إلى بَردة (بارتاف ألبانيا) ، فجمع مارتيك بن خاقان الخزر جموعاً كثيرة وصاروا إلى أردبيل فحاصروها ، فزحف الجرّاح من بَردة (بارتاف ألبانيا) إلى حصار أردبيل في شهر رمضان سنة (١١٢ ه‍) فقاتلهم قتالاً شديداً حتّى قُتل وقد استخلف عليهم أخاه الحجّاج الحرشي ، وغلب الخزر فنصبوا المجانيق على أردبيل وهم يقاتلونهم ، فلمّا طال الحصار استسلموا فدخلها الخزر فقتلوا المقاتلين وسبوا ذراريهم.

فوجّه هشام إليهم سعيد بن عمرو الحَرشي ومعه فرسان العرب ، فتوجّه سعيد إلى بَردة (ألبانيا) فجمع إليه مَن هناك من عسكر المسلمين وسار بهم إلى البلقان ثمّ إلى آذربايجان. فتوجّه إليهم عسكر الخزر ومعهم عجلات كثيرة عليها

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٢٠.

٧٧

غنائمهم وسباياهم من أردبيل ، وعاد طليعة الحرشي إليه وأخبره أنهم نيام ، فحضّض أصحابه وسار إليهم فاستنفذ العجلات بما عليها. ثمّ أُخبر بعجلات كثيرة أُخرى للخزر في ناحية ورثان وعليها سبايا وغنائم ، فبيّتهم كذلك وقاتلهم واستنقذ العجلات بما عليها فأدخلها بلدة ورثان ، ثمّ بيّت طاغيتهم مارتيك بن الخاقان ومن معه فقتل منهم مقتلة عظيمة حتّى هرب مارتيك بن الخاقان وهُزم من بقي منهم معه ، فكتب بالفتح إلى هشام (١).

وقال اليعقوبي : إن سعيد بن عمرو الحرشي كان على مقدمة مَسلمة بن عبد الملك ، ولما التقى بعسكر الخزر كان معهم عشرة آلاف من أُسارى المسلمين ، فحاربهم فقتل عامّتهم وهزم الباقين واستنقذ الأُسارى المسلمين. وعقّب اليعقوبي قال : فعل ذلك مرّة بعد أُخرى. فهو بهذا أشار إلى أنّ ذلك لم يكن في مرّة واحدة. إلّاأ نّه قال بشأن مارتيك بن الخاقان : أن الحَرشي قتله ووجّه برأسه إلى هشام (٢).

وخالفه خليفة فقال : إنّ هشاماً عزل سعيد بن عمرو الحَرشي وأعاد أخاه مَسلمة على أرمينية وآذربايجان ، فخرج في شوال سنة (١١٢ ه‍) في طلب الأتراك في شدّة الثلوج والأمطار ، حتّى أحاط بحيزان قرب شيروان فعرض عليهم الصلح فأبوا وقاتلوه ثمّ سألوه الأمان ، فحلف لهم أن لا يقتل منهم لا رجلاً ولا كلباً! فنزلوا على حكمه فاستثنى منهم كلباً ورجلاً واحداً ثمّ قتلهم أجمعين!

ثمّ سار إلى سوران فسأله ملكهم الصلح فصالحهم ، ثمّ انصرف إلى غزالة. وجمع الخاقان جيوش الخزر وتوجّه إليه فلم يشعر مَسلمة حتّى اطّلعوا عليه

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٢٠ ، ٢٢١.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٧.

٧٨

وأحاطوا به ، واقتتلوا قتالاً شديداً حتّى حال بينهم الليل ، فبات المسلمون يحيون ، وهرب الخاقان وانصرف الخزر ، فاستخلف مَسلمة عليهم مروان بن محمّد بن مروان وقفل راجعاً ، فلمّا هل المحرّم لسنة (١١٤ ه‍) عزله هشام وولّى مروان (١).

والجُنيد المُرّي على سمرقند والسند :

وقبل هذا كان هشام ولّى الجُنيد بن عبد الرحمن المُرّي على سمرقند وغزو طخارستان (١١٢ ه‍) ، فولّى الجنيد سورة بن أبجر الدارمي على سمرقند ، وخرج هو غازياً إلى طخارستان ، فجاش الترك هناك وخرجوا إليه بخاقانهم حتّى التقوه قبل سمرقند فاقتتلوا قتالاً شديداً حتّى أمسوا فتحاجزوا ، كتب الجُنيد إلى سورة يأمره بالمسير إليه فأتاه فلقيه الترك فقاتلوه حتّى قتلوا عامّة جيشه ، ثمّ لقيهم الجُنيد فقاتلهم فهزموا ، ومضى الجُنيد حتّى دخل سمرقند (٢).

وأقام الجُنيد مدّة ثمّ غزا الكيرج في السند فهرب الراه ملك الكيرج ، فافتتحها الجُنيد وغنم وسبى ، ثمّ وجّه عماله إلى بلاد المرمذ والمندل ودهنج والبروص وسُرَست والبيلمان ومالبه ، وغيرها من البلاد ، وعظم أمره ببلاد السند ثمّ صار إلى أرض الصين ووقف على أوّل حصن فيه ودعى ملكه إلى الإسلام فأبى فقاتله ورمى حصنه بالنفط والنار ، ولم يزل يقاتله حتّى طلب الصلح فصالحه.

وجاء فيج (پيك / بريد) من الروم إلى هشام يخبره أن المسلمين أسروا عدداً منهم ومعهم أبقاراً وحميراً ، فكتب هشام بذلك إلى الجُنيد! فكتب الجُنيد إليه : إنّي نظرت في ديواني فوجدت ما أفاء الله عليَّ : ستّمئة وخمسين ألف رأس من السبي! وحملت ثمانين ألف ألف درهم ، وقد فرّقت في الجند أمثالها مراراً!

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٢٢ ، ٢٢٣.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٢٠.

٧٩

وكان هشام قد كتب إلى الجُنيد أن يكاتب خالد القسري بالعراق ، وأقام الجُنيد عدّة سنين : ثمّ استعمل خالد القسري مكانه تميم بن زيد العتبي ، وكان الجُنيد قد خلّف في بيت ماله ثمانية عشر (مليون) فوجّه تميم العتبي بها إلى خالد. ثمّ ثار عليه أهل البلاد فكثرت حروبه وفشا القتل فيهم. فكتب خالد القسري إلى هشام أن يولّي الحكم بن عوانة الكلبي فولّاه ، فخرج إليها بجماعة من وجوه الناس معهم عمرو بن محمّد بن القاسم الثقفي فاتح السند الأوّل ، وقدم الحكم وبلاد الهند قد غُلب عليها إلّاأهل حصن قَصة ، وبعد حروب شديدة أجلى القوم المتغلّبين ، وبنى بلدة سمّاها المحفوظة ، وهدأت البلاد وسكنت (١).

مروان في أرمينية وآذربايجان :

في سنة (١١٤ ه‍) سار مروان بن محمّد بن مروان إلى الصقالبة (زاگرب / الروس) فأغار عليهم فقتل وسبى (٢) وفي سنة (١١٧ ه‍) أرسل بعثاً إلى جبل القبج واللان فافتتحوا ثلاثة حصون منها ، وأرسل بعثاً آخر إلى مملكة تومان شاه ، فنزل تومان على حكمه فبعث به مروان إلى هشام فأعاده هشام إلى مروان ، فأعاده مروان إلى مملكته (٣) وصار إلى حصن ملك السرير الذهبي فصالحه على ألف وخمسمئة غلام سود الشعور! ثمّ دخل إلى أرض زريگران فصالحه ملكها ، ثمّ صار إلى خُمرين فحاربوه فقاتلهم فقتل منهم خلقاً عظيماً حتّى فتح أكثر البلد! ثمّ عاد إلى مدينة الباب فأقام هناك (٤).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٦ ، ٣١٧.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٢٣.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٢٥.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٨.

٨٠