موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر ، وكان أسمر حسن الوجه نحيف الجسم ، حسن اللحية ، غائر العينين ، بوجهه أثر من ضربة دابة في صباه ، قد وخطه الشيب (١) وقال : قبره مشهور في هذا الموضع إلى هذه الغاية (كتابة مروج الذهب) يغشاه كثير من الناس من الحاضرة والبادية ، لم يتعرّض أحد لنبشه كما تعرّضوا لقبور غيره من بني امية (٢) ونقل ابن الوردي وأيّد أنّ دير سمعان الآن (كتابة تاريخه) هو المعروف بدير النُقيرة من نواحي معرة النعمان وقبره بها مشهور يزار ، وأنا زرته مراراً (٣).

وقال السيوطي : لأنّ عمر شدّد على بني امية وانتزع من أيديهم كثيراً ممّا غصبوه ، تبرّموا منه ، وكان هو قد أهمل التحرّز ، فسقوه سمّاً ، فكان وفاته بالسم.

ثمّ نقل عن مجاهد قال : عدت عمر بن عبد العزيز ، فقال لي : ما يقول الناس فيّ؟ قلت : يقولون : إنّه مسحور! قال : ما أنا بمسحور ، ثمّ دعا غلاماً له فقال له : ويحك! ما حملك على أن تسقيني السمّ؟ قال : على أن اعتق وقد اعطيت بذلك ألف دينار! فقال له : هاتها واذهب حيث لا يراك أحد! فجاءه بها وذهب ، فألقاها عمر في بيت المال (٤).

وكان عمر يومذاك في قرية خناصرة ، والوليّ بعده بسابق عهد من سليمان أخوه يزيد بن عبد الملك بدمشق ، فكأنّ عمر شعر به من وراء الغلام ،

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٢٧٦ ، وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٩٠ : كان آخر خليفة أصلع! بعد مروان وعثمان!

(٢) مروج الذهب ٣ : ١٨٢.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٧٢.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٩٢ ـ ٢٩٣.

٤١

فأمر كاتبه أن يكتب إليه فيما يكتب : فعليك بتقوى الله والرعيّة الرعيّة ، فإنّك لن تبقى بعدي إلّاقليلاً! والسلام (١).

وكان مرضه عشرين يوماً (٢).

ونقل المعتزلي عن رسالة الجاحظ قال عمر : لولا بيعة في أعناق الناس (أخذها سليمان) ليزيد بن عبد الملك (ابن عاتكة) لجعلت هذا الأمر شورى بين القاسم بن محمّد بن أبي بكر ، وسالم بن عبد الله بن عمر! وحفيد عمرو بن سعيد الأشدق! فقال الجاحظ : لم يكن عنده من يصلح للشورى أحد من بني هاشم؟! بل دبّر الأمر ليبايع لأخيه أبي بكر بن عبد العزيز من بعده ، فعاجلوه بالسم!

قال : وكان قد قدم عليه عبد الله بن الحسن المثنّى ، فلمّا رأى بيانه وكماله وعرف نسبه وموضعه وكيف ذلك في صدور المؤمنين وقلوب المسلمين ، قال له : إلحق بأهلك فإني أخاف عليك طواعين أو طواغيت الشام ، وسنلحقك بحوائجك على ما تشتهي! ولم يَدْعه يبيت بالشام ليلة واحدة! لأنّه كره أن يروه ، ويسمعوه فلعله يبذّر في قلوبهم بذراً!

وكان ـ مع جهله بالكلام وقلة اختلافه إلى أهل النظر ـ من أعظم خلق الله قولاً بالجبر! وكان يضع في ذلك الكتاب (٣) ولعل منه أنّه لما مرض قيل له : لو تداويت؟ فقال : لقد علمت الساعة التي سقيت فيها ، ولو كان شفائي أن أمسح شحمة اذني ما فعلت (٤)!

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٩٢ عن حلية الأولياء للإصفهاني.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ٥٦٥ ، وهذا خلاف الأعراف الشرعية.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ١٥ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥ عن رسالة الجاحظ ، وخالفه غيلان الدمشقي فاستتابه ، كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٩٠.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٩١ عن الحلية ، ونحوه في مختصر تاريخ الدول : ١١٥.

٤٢

ونقل السيوطي عن الاصفهاني عن عمر بن اسيد قال : والله ما مات عمر حتّى أغنى الناس ، وحتّى أن الرجل كان يأتينا بالمال يقول : اجعلوا هذا حيث ترون ، فنجد عمر قد أغنى الناس (١).

هذا ، ولكنّه زاد في اعطيات أهل الشامات عشرة دنانير دون أهل العراق (٢)!

نعم ، جعل على الكوفة عبد الحميد العدوي حفيد جدّه لُامه عمر بن الخطاب (٣) ، وكتب إليه : أما بعد ، فإنّ أهل الكوفة أصابهم بلاء وشدة في أحكام الله ، وسنّة خبيثة! سنّها عليهم عمّال السوء! وإن قوام الدين العدل والإحسان ، فلا يكن شيء أهم إليك من نفسك فلا تحملها قليلاً من الإثم ، ولا تحمل خراباً على عامر ، وخذ من العامر ما يطيق وأصلح غيره حتّى يعمر ، ولا تأخذ من العامر إلّا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض.

ولا تأخذ من اجور الضرّابين ، ولا هدية النوروز والمهرجان ، ولا ثمن المصحف ، ولا من اجور البيوت ، ولا من (مهور) النكاح! ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض.

ولا تعجل دوني بقطع ولا صلب حتّى تراجعني فيه! ومن أراد من الذرية الحج فعجّل له مئة (دينار) ليحجّ بها ، والسلام (٤).

وكأنّه بما أظهر من العدل والإحسان وإيتاء ذوي قربى النبيّ ومنع لعن الوصيّ عليه‌السلام ، كان يتوقع من الإمام الباقر عليه‌السلام الكلام الجميل مدحاً وتقريضاً ، فلمّا لم يجد ذلك بدأ هو فكتب إلى أبي جعفر عليه‌السلام يختبره ، فأجابه الإمام بكلام فيه وعظ

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٨١ عن حلية الأولياء.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٠٦.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٠٦.

(٤) انظر الإمام الصادق لأسد حيدر ١ : ١٦٤.

٤٣

وتحذير! وجاء في هذا الخبر لدى اليعقوبي أن عمر كان يعلم للإمام كتاباً إلى سليمان من قبل ، فأمر بإخراجه فاخرج فوجد فيه مدحاً وتقريظاً! فأنفد به إلى عامله على المدينة (ابن حزم) وقال له : أحضر محمّد بن علي وقل له : هذا كتابك إلى سليمان تقرّظه! وهذا كتابك إليّ مع ما أظهرتُ من العدل والإحسان!

فأحضره أمير المدينة (ابن حزم) وعرّفه ما كتب به عمر فقال الباقر عليه‌السلام : إنّ سليمان كان جبّاراً فكتبت إليه بما يُكتب إلى الجبّارين! وإنّ صاحبك أظهر أمراً! فكتبت إليه بما شاكله! وكتب العامل إلى عمر بذلك فقال عمر : إنّ أهل هذا البيت لا يُخليهم الله من فضل (١)!

وعن عمرو بن عبيد قال : مات عمر بن عبد العزيز وخلّف أحد عشر ذكراً وتركته سبعة عشر ديناراً! كُفّن منها بخمسة دنانير واشتري موضع قبره بدينارين ، وما أصاب كلّ ولد إلّاأقل من دينار (٢).

وفد عمر وخبره عند الروم :

مرّ عن المسعودي : أن البطريرك أليون (لاون) بن قُسطنطين تغلّب بالحيلة على ملك الروم بالقُسطنطينية تيودوس (ثاوذوسيوس) الأرمني ، وولِى عمر فاستردّ عسكَر المسلمين (مئة ألف) المحاصِر للقسطنطينية بإمرة مَسلمة بن عبد الملك (٣).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٠٥.

(٢) انظر شرح النهج للمعتزلي ٢ : ١٠٠ ـ ١٠١ وللخبر تتمة. قالها للمنصور العباسي ، وقد قال عبد العزيز بن عمر للمنصور إنّ أباه ترك أربعمئة دينار ، كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٨٠ فالرواية السابقة مبالغة.

(٣) التنبيه والإشراف : ١٤١.

٤٤

وقال : ثمّ بعث عمر وفداً إلى ملك الروم (أليون / لاون) في حقّ من مصالح المسلمين يدعوه إليه.

فدخلوا عليه أوّل يوم وهو جالس على سرير ملكه وعليه التاج ، والبطارقة عن يمينه وشماله ، وسائر الناس بين يديه على مراتبهم ، وله ترجمان يترجم له ويفسّر فأدى إليه ما قصدوا له.

فتلقّاهم بجميل وأجابهم بأحسن جواب ، وانصرفوا عنه في ذلك اليوم.

فلمّا كان الغد أتاهم رسوله يدعوهم ، فدخلوا عليه وإذا به ليس على سريره وبلا تاج على رأسه وكأنّه في كارثة ، وقال لهم : هل تدرون لماذا دعوتكم؟ قالوا : لا ، قال : إنّ صاحب مَسلحتي (المخفر الحدودي) التي تلي بلادكم جاءني كتابه الآن : بأنّ ملك العرب قد مات! فبكوا ، فسألهم : تبكون له أو لأنفسكم؟ قالوا : له ولأنفسنا. فقال لهم : لا تبكوا له وابكوا لأنفسكم ؛ فإنّه قد خرج إلى خير ممّا خلّف! فلقد كانت تأتيني أخباره ظاهراً وباطناً! فلم أجد أمره مع ربّه إلّا واحداً ، ولقد بلغني برّه وصدقه وفضله (١).

وهكذا أعلمهم استحكام استعلاماته عن المسلمين ظاهراً وباطناً! وسرعتها. والخبر هكذا مبتور عن مَن استخلفه بعده ، اللهمّ إلّاقوله : إنّ أهل الخير لا يبقون مع أهل الشر إلّاقليلاً! فكأ نّه يشير إلى كونه أهل خير بين أهل شرّ قبله وبعده!

وعاد يزيد ، في يزيد الجديد :

حتّى في كنيته أبي خالد! وكان بنو امية قد أشاعوا غناء الإماء في الرحاب الطاهرة مكّة وطيبة! وحجّ يزيد بن عبد الملك على عهد أخيه سليمان ، وكان

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٨٥ ـ ١٨٦.

٤٥

صاحب لهو وقصف ، وأسمعوه غناء حَبابة المغنّية الشهيرة فشغف بها حتّى اشتراها بأربعة آلاف دينار! فلمّا بلغ ذلك إلى سليمان قال : لقد هممت أن أحجر على يزيد! وسمع بذلك يزيد وهو يريد استمالته فردّها (١) ومع ذلك عهد إليه بعد عمر.

ومع ذلك وصفه ابن قتيبة : أنّه كان محبوباً في قريش بجميل مأخذه في نفسه وهديه وتواضعه! وقصده! فكان الناس لا يشكّون في أنّه إذا صار الأمر إليه أن يسير بسيرة عمر.

وكان قوم من أشراف قريش وخيار بني امية! بعد الإنكار لسيرة عمر والنفار منها قد سكنت قلوبهم إلى هديه واطمأنت إلى عدله ، وعادت قلوبهم إلى الرضا بأمره والقنوع بقصده فيهم ، وتقصيره في إدراك العطايا والمطامع عليهم (٢).

أضف إلى ذلك ما مرّ من خبر خروج شوذب الشاكري بثمانين فارساً من ربيعة الكوفة إلى جوخى ثمّ الجزيرة ، واعتراضهم على عمر في تقريره لعهد يزيد ، فلعله لذلك اشير عليه بالتظاهر بسيرة عمر ، فلمّا مات عمر وصلّى عليه يزيد قال : والله ما عمر بأحوج إلى الله منّي! سيروا بسيرة عمر! فأقام أربعين يوماً يسير بسيرة عمر ، ثمّ أعاد تاريخُ شهادةِ الزور بالبصرة نفسَه فأقام له الأمويون أربعين شيخاً شهدوا له : ما على الخلفاء عذاب بل ولا حساب (٣) وكان كلامهم هذا موافقاً لهواه فانخدع بهم وانهمك في اللذات والطرب ، ولم يراقب (٤).

وقال ابن قتيبة : حال عمّا كان يُظنّ به وسار بسيرة أخويه الوليد وسليمان وأخذ مأخذه واحتذى مثاله حتّى كأ نّه لم يمت الوليد بعد ، فعظم ذلك على الناس ،

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول لابن العبري الملطي : ١١٥.

(٢) الإمامة والسياسة ٢ : ١٢٤.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٩٤ ، وقبله ابن كثير ٩ : ٢٣٢.

(٤) سمط النجوم العوالي ٣ : ٢٠٩ ، وانظر الإمام الصادق لأسد حيدر ١ : ١٦٨.

٤٦

وجاءه بذلك قوم من أشراف قريش وخيار بني امية! فاتّهم نفراً منهم بالخلع والخروج وحوّلهم على عمّه محمّد بن مروان فأسكنهم السجون عشرين شهراً حتّى سمّهم فماتوا جميعاً! ومعهم ثلاثون رجلاً من سائر قريش أغرمهم مئة ألف ألف (مليون!) وباع لذلك أموالهم ورباعهم حتّى صيّرهم عالة يتكفّفون الناس متفرّقين في كور الشام وآفاق البلاد! وجملة من الناس ممن كان يألف هؤلاء القوم اتهمهم بمصاحبتهم ومصانعتهم فصلب جملة منهم (١) ممّا يورث اتّهامه بأ نّه إنّما تظاهر بسيرة عمر ليستظهر من هؤلاء بواطنهم فيؤاخذهم بها ويعاقبهم عليها!

وطبيعي أنّ ذلك كان بعد أن عزل جميع عمّال عمر وكتب إليهم : أمّا بعد فإنّ عمر بن عبد العزيز كان مغروراً! فدعوا ما كنتم تعرفون من عهده ، وأعيدوا الناس إلى طبقتهم الأُولى! (فاستخرِجوا الخراج) أخصبوا أم أجدبوا! أحبّوا أم كرهوا! حيوا أم ماتوا (٢) ولعامله على اليمن : خذها منهم ولو صاروا حرضاً (هالكين) والسلام (٣).

وانتقم من ابن حزم :

مرّ الخبر : أن سليمان كان أكولاً ولم يُعرف بشرب الخمور ، وأن عامله على المدينة عثمان بن حيّان المُرّي كان قد شرب الخمر فقرف على عبد الله بن عمرو بن عثمان ، فشكاه إلى سليمان ، فعزله واستعمل أبا بكر بن محمّد بن حزم الأنصاري فضربه حدَّين للخمر وللقرف (٤) وكأنّ عثمان المُرّي شكاه إلى يزيد بن

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) العقد الفريد ٣ : ١٨٠.

(٣) الكامل في التاريخ ٥ : ٢٢.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٤.

٤٧

عبد الملك ، وكان ابن حزم هو الذي جرى على يديه استعطاف عمر بن عبد العزيز لبني فاطمة من بني أبي طالب من بني هاشم ، ولمّا استولى يزيد قطع عنهم ذلك ، وعزل أبا بكر بن حزم الأنصاري واستبدل عنه بعبد الرحمان بن الضحّاك الفهري ، وكتب إليه مع عثمان بن حيّان المري : أن يجمع بينه وبين أبي بكر بن حزم في الحدَّين اللذَين أجراها أبو بكر على عثمان المرّي ، فإن وجد أن أبا بكر كان قد ظلمه أقاده منه! ففعل وتحامل على أبي بكر فجلده حدَّين قوداً لعثمان المرّي (١)!

وانتصر لفاطمة بنت الحسين عليه‌السلام :

وكان عبد الرحمان الفهري القرشي والي المدينة تراءى له أن يزيد الجديد يريد تصغيراً لشأن بني هاشم بل بني فاطمة بالخصوص.

وكانت فاطمة بنت الحسين عليه‌السلام قد توفى عنها زوجها الحسن المثنّى ولها منه ثلاثة أبناء : عبد الله ، فالحسن المثلث ، فإبراهيم. ثمّ تزوّجها ـ كيفما كان ـ عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفّان الأموي وتوفّى عنها ولها منه : محمّد الديباج فالقاسم فرقية (٢). واليوم ، بعد اللتيّا والّتي ، وبعد ستة أولاد وأكثر من ستّ وخمسين عاماً لها طمع فيها والي المدينة عبد الرحمان الفهري فخطبها ، فأبَته ، فأرسل إليها رجالاً يهدّدها : بالله لئن لم تستجيبي لأضربنّ أكبر ولدك (عبد الله) بالسياط!

فما رأت بدّاً إلّاأن تكتب إلى يزيد بن عبد الملك تشكوه إليه ، فكتبت إليه ، فلمّا قرأ كتابها قال : لقد ارتقى ابن الحجّام! مرتقىً صعباً! مَن يسمعني ضربه وأنا على فراشي هذا!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٢.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٢٢ ـ ١٢٣.

٤٨

ثمّ كتب إلى عبد الواحد بن بشر النضري في الطائف أن يتولى المدينة ويعذّبه حتّى يُسمعه ضربه! ويأخذ عبدَ الرحمان بأربعين ألف دينار! ففعل ذلك فرأوا عبد الرحمان وقد علّق بعنقه خرقة صوف يسأل الناس أن يعينوه (١).

خروج ابن المهلّب وقمعه :

مرّ الخبر أن يزيد بن المهلب الأزدي والي خراسان كان قد كتب إلى سليمان بن عبد الملك بوجود أموال ثقال عنده ، فلمّا مات سليمان وولِي عمر بن عبد العزيز رأى ذلك الكتاب ، فطلبه إليه وطالبه بها وأنكرها فحبسه. فلمّا مات عمر في رجب سنة (١٠١ ه‍) هرب يزيد من السجن وصار بأنصاره إلى البصرة ، وعليها عديّ بن أرطاة الفزاري ، وكان قد بلغه هروب ابن المهلّب من سجن دمشق فأخذ عديّ إخوة ابن المهلّب وسجنهم ، فلمّا وصل إلى البصرة طلب من عديّ تخليتهم فأبى.

وبذل ابن المهلّب من الأموال العظيمة لديه فاجتمع حوله جمع عظيم وكثر أتباعه.

وكتب يزيد بن عبد الملك إلى عديّ بن أرطاة يأمره بأخذ يزيد بن المهلّب ، فحاربه في شهر رمضان في داخل البصرة. وسار ابن المهلّب إلى عديّ فقبض عليه وسجنه ، وغلب على البصرة والأهواز وفارس وكرمان ، وخلع يزيد بن عبد الملك ، وحمل معه ابن أرطاة الفزاري أسيراً في الحديد ومعه جماعة إلى واسط فحبسهم بها.

فندب يزيدُ لقتال ابن المهلّب أخاه مَسلمة بن عبد الملك وابنَ أخيه العباسَ بن الوليد بن عبد الملك في جيش كثيف. وخرج يزيد بن المهلّب

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٢ ـ ٣١٣.

٤٩

عن البصرة وواسط في جموع كثيفة عظيمة فالتقوا بالعقر من بلاد بابل فاقتتلوا قتالاً شديداً. واصيب ابن المهلّب في بطنه فأصبح مبطوناً شديد العلة مصفرَّ الوجه حتّى كان مَسلمة يسمّيه الجرادة الصفراء! ولم يبرح مع ذلك حتّى قتل وعدة من إخوته في جمع من أهل العراق ، وانهزم الجمع وولّوا الدبر ، وذلك في سنة (١٠٢) في الثاني عشر من شهر صفر.

وكان ابن المهلّب قد خلّف بواسط أهل بيته مع ابنه معاوية وجمعٍ من أنصاره ، فلمّا انتهى خبر مقتله إلى ابنه معاوية أخرج عديّ بن أرطاة الفزاري ومن معه من السجن وقتلهم ، ثمّ أعدّ سفناً فركبها بمن معه من أهل بيته وأنصاره إلى البصرة ثمّ في البحر إلى قندابيل من أرض السند. فوجّه مَسلمة بن عبد الملك لاتّباعه جمعاً مع هلال بن أحوز المازني فلحقهم بها فقتل جمعاً منهم وأسر نفراً يسيراً من الباقين ، فحملهم إلى يزيد بدمشق ومعهم خمسون امرأة حبسهنّ بدمشق (١) ونادى مناديه : من كان له قِبل آل المهلّب دم فليقم ولينتقم منهم (عشوائياً وليس شرعياً) فدفعهم إليهم نحواً من ثمانين. ثمّ عزل أخاه مَسلمة عن العراق في آخر تلك السنة ، وجمع العراقَين لعمر بن هبيرة الفزاري (٢).

وكان ذلك بعد انقضاء حرب ابن المهلّب وقتلهم ، فلقي جماعة من آل المهلب أسرى في الحديد في طريقهم إلى الشام فردّهم ، وكتب فيهم كتاباً إلى يزيد بأن الإحسان إليهم يعمّ قومهم ، فأبى يزيد وسبّه وشتمه ، فعاوده الفزاري وكتب إليه : إنّهم ليسوا بعشيرتي وما أردت إلّاالنظر لأمير المؤمنين في تأ لّف عشائرهم لئلّا تفسد قلوبهم وطاعتهم. فقبل بذلك يزيدُ وفكّ الفزاريُّ أسرهم (٣).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٠٨ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٠ ـ ٣١١ ، والتنبيه والاشراف : ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

(٢) تاريخ خليفة : ٢١٠.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٢.

٥٠

وكان العراق حتّى يومئذ على مساحة عثمان بن حُنيف الأنصاري على عهد عمر بن الخطاب ، ففي سنة (١٠٥ ه‍) قبل موته كتب يزيد إلى عمر بن هبيرة يأمره أن يمسح السواد فمسحه ، ثمّ وضع الخراج على النخل والشجر ، وأعاد ما أبطله ابن عبد العزيز من تسخير الناس في أعمال الدولة ، وأعاد أخذ الهدايا في النيروز والمهرجان (١) في وسط السنة الشمسية وغزا عمر بن هبيرة الروم فهزمهم وأسر منهم سبعمئة أسير (٢).

ولاية عهده لأخيه هشام :

جعل يزيد ولاية عهده لأخيه هشام بن عبد الملك وولّاه أرض الجزيرة ، ثمّ بدا له أن يولّي عهده لابنه الوليد بن يزيد ويخلع أخاه هشاماً على أن يجعل له الجزيرة طُعمة! وانتدب لتحسين ذلك له خالد بن عبد الله القسري ، وأجاب هشام لذلك ولكنّه حسَّن له أن يبقى على عهده وإنّما يولي الوليد بعده ، وعاد بذلك إلى يزيد فأجاب إلى ذلك ، وجعل العهد بعد أخيه هشام لابنه الوليد بن يزيد (٣).

التقيّة في قول الشعبي وابن سيرين :

قال المسعودي : لما ولّى يزيدُ بن عبد الملك عمرَ بن هبيرة الفزاري على العراق وخراسان ، واستقام أمره ، ففي سنة ثلاث ومئة بعث ابنُ هبيرة إلى الحسن بن أبي الحسن يسار البصري ومحمّد بن سيرين (مولى أنس بن مالك) وعامر بن شُرَحبيل الشعبي فقال لهم :

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٤.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٣ ـ ٣١٤.

٥١

إنّ يزيد بن عبد الملك «خليفة الله» استخلفه الله! على عباده ، وأخذ ميثاقهم بطاعته! وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة ، وقد ولّاني ما ترون يكتب إليّ بالأمر من أمره فانفّذه ، وأُقلده ما تقلّده من ذلك ، فما ترون؟

قال المسعودي : فقال ابن سيرين والشعبي قولاً فيه «تقيّة»! وتأخّر الحسن! حتّى قال له عمر : فما تقول أنت يا حسن! فقال :

يابن هبيرة! خفِ الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله! إنّ الله يمنعك من يزيد وإنّ يزيد لا يمنعك من الله ، ويوشك أن يبعث عليك ملكاً فيزيلك عن سريرك ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك! فلا ينجيك إلّاعملك!

يابن هبيرة! إنّي احذّرك أن تعصي الله ، فإنّ الله إنّما جعل هذا السلطان ناصراً لدين الله وعباده فلا تركبنّ دين الله وعباده بسلطان الله! فإنّه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».

فلم يؤاخذه ابن هبيرة بل ضاعف في جائزة الحسن ، فلمّا رأى الشعبي ذلك قال : سفسفنا في الأقوال فسفسف لنا في الأموال (١).

يزيد اللهو واللعب :

حجّ يزيد بن عبد الملك أيّام أخيه سليمان ، فعرضوا عليه جارية مغنّية تدعى حُبابة وغنّت له فأحبّها بل وشُغف بحبّها فاشتراها بأربعة آلاف دينار! فلمّا بلغ ذلك إلى أخيه سليمان قال : لقد هممت أن أحجر على يزيد! فلمّا سمع بذلك يزيد وهو يريد استمالة أخيه سليمان فردّ الجارية ، واشتراها رجل من مصر.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٠٢ وقال : وكان أبوه يسار مولى امرأة من الأنصار ، ومات سنة (١١٠ ه‍).

٥٢

فلمّا أفضت الخلافة إليه قالت له امرأته سعدة (أو جدّته ـ امّ سعيدة العثمانية ـ المسعودي) : هل بقي شيء تتمنّاه من الدنيا؟ فقال : نعم ، حَبابة ؛ فأرسلت في طلبها إلى مصر فاشترتها وزيّنتها وأجلستها وراء الستر ودخلت هي عليه وأعادت عليه كلمتها فقال : قد أعلمتكِ! فرفعت الستر وقالت : هذه حَبابة! وقامت وتركتها عنده فحظيتا عنده (١).

وكان لسهيل بن عبد الرحمان بن عوف الزهري المدني بالمدينة جارية مغنّية يقال لها سلّامة. وكان عبد الرحمان بن عبد الله بن عمار يقال له القسّ لكثرة عبادته ، ومرّ بمنزل سهيل فسمع غناء سلّامة فهواها واجتمعا فعُرفت بسلّامة القُسّ (٢) وهواها يزيد فاشتراها منه بثلاثة آلاف دينار ، ثمّ أُعجب بها حتّى غلبت على أمره!

قال المسعودي : ثمّ غلبت عليه حَبابة ، فوهب سلّامة لُامّ سعيد!

ولما احتجب عن الناس وأقبل على الشرب واللهو ، وعمّ الناس الظلم والجور ، قال له أخوه مَسلمة :

إنّما مات عمر أمسِ ، وقد كان من عدله ما قد علمت ، فينبغي أن تُظهر للناس! العدل وترفض هذا اللهو ، فقد اقتدى بك عمّالك في سائر أفعالك وسيرتك!

قال : فارتدع عما كان عليه وأظهر الإقلاع والندم وأقام مدّة على ذلك ، فغلظ ذلك على حَبابة ، فبعثت إلى الشاعر الأحوص والمغنّي مَعبد واحتالت بهما لاستمالته فاستمالته وعاد إلى لهوه وقصفه ورفض ما كان عليه. وطلب منها

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١١٥.

(٢) مروج الذهب ٣ : ١٩٦ ، وتاريخ ابن الوردي ١ : ١٧٤.

٥٣

أن تغنّي له بشعر خاصّ فقالت له : هذا شعر لا أعرف أحداً يغنّي به إلّاالمغنّي المكي الأحول! فوجّه يزيد إلى صاحب مكّة : إذا أتاك كتابي هذا فادفع إلى فلان بن أبي لهب ألف دينار لنفقة طريقه واحمله على دوابّ البريد (ليكون أسرع) ففعل ذلك! فغنّى له فوصله وكساه وردّه إلى مكّة مكّرماً!

وكان يُقعد حَبابة عن يمينه وسلّامة عن يساره ، فغنّته حَبابة ثمّ سلّامة فطرب طرباً شديداً حتّى قال : اريد أن أطير فرحاً! فقالت له حَبابة : يا مولاي! فعلى من تدع الامة وتدعنا (١)؟! وأهوى ليطير! فقالت له : يا أمير المؤمنين إنّ لنا فيك حاجة! فقال : والله لأطيرنّ! فقالت : فعلى من تدع الملك والامّة؟! قال لها : عليك والله! وأخذ يدها فقبّلها! فخرج خادمه وهو يقول : سخنت عينك! ما أسخفك!

وخرج بهما يوماً إلى ناحية الاردن يتنزّه ، فرمى حَبابة بحبّة عنب استقبلتها بفيها فدخلت حلقها فشرقت ومرضت بها وماتت ، فتركها ثلاثة أيام لا يدفنها حتّى نتِنت وهو يشمّها ويقبّلها وينظر إليها ويبكي! فلمّا دفنت بقي بعدها أُسبوعين ثمّ أوصى أن يدفن إليها ثمّ مات فدفن إلى جانبها سنة مئة وخمس (٢) في الخامس والعشرين من شعبان بإربد من بلاد البلقاء وله ثلاث وثلاثون سنة! وصلّى عليه أخوه هشام بن عبد الملك (٣) وقال اليعقوبي : كان ابن سبع وثلاثين سنة وصلّى عليه ابنه الوليد بن يزيد! ودفن بالبلقاء وخلف عشرة ذكور (٤) وقال المسعودي : كان ابن تسع وثلاثين سنة! وكان طويلاً جسيماً أبيض مدوّر الوجه ،

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٩٧ ـ ١٩٩.

(٢) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١١٥ ـ ١١٦.

(٣) تاريخ خليفة : ٢١٣.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٤.

٥٤

فتىّ الشباب ، شديد الفخر! ظاهر الكبر! يحبّ اللهو ويستعمل الحُجّاب ، لا يعرف صواباً فيأتيه ولا خطأ فيدعه (١).

ولذا تذكّرت زينب بنت أبي سلمة المخزومي وتجرّأت أن تحدّث عن امّها امّ سلمة أنّها قالت : دخل النبيّ عليَّ وعندي غلام من آل المغيرة المخزومي فسألني : يا امّ سلمة مَن هذا؟ قالت : قلت له : هذا الوليد (ابن أخي) فقال : قد اتخذتم الوليد حناناً! غيّروا اسمه فإنّه سيكون في هذه الامة فرعون يقال له الوليد (٢).

وأصبح هشام الخليفة والإمام :

عاد الأمويون من خلال عبد الملك بن مروان إلى تحالفهم الجاهلي مع بني مخزوم ، لمّا تزوّج بامّ هشام بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي ، فولدت له رابع أبنائه : عبد العزيز فالوليد فيزيد فهشام ، وكما تُرك تسمية يزيد لأُمّه عاتكة بنت يزيد بن معاوية فسمّته بأبيها ، كذلك تُرك تسمية هشام لُامّه فسمّته بأبيها.

وكان هشام في شهر رمضان سنة (١٠٥ ه‍) بقرية زيتونة من قرى الجزيرة ، إذ جاءه بريد دمشق فسلّم عليه بالخلافة (٣) وأتاه بالخاتم والقضيب فركب إلى دمشق ، وعمره أربع وثلاثون سنة (٤).

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٢٧٧.

(٢) انظر الإمام الصادق لأسد حيدر ١ : ١٧٧ ـ ١٧٨ عن مسند أحمد ودلائل النبوة وتاريخ الذهبي وابن كثير.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٦.

(٤) مختصر تاريخ الدول : ١١٦.

٥٥

وكان أبيض أصفر أحول ، رَبعة البدن ، شكس الأخلاق خشن الجانب ، لا يغيب عنه شيء من أمر مملكته ويباشر الامور بنفسه ، جامعاً للأموال قليل البذل للسؤال (١) فسلك الناس جميعاً في أيامه مذهبه ، فمنعوا ما في أيديهم ، وقلّ الإفضال ، وانقطع الرفد ، فلم يُر زمان أصعب من زمانه! ومع ذلك استجاد الكساء والفرش ، وفي أيّامه عُملت قطفُ الخزّ. واستجاد الخيل ، وأقام حلبات السباق بها ، فاجتمع له فيها من خيله وغيرها أربعة آلاف فرس ، حتّى ذكر الشعراء ذلك في شعرهم ، ولم يعرف ذلك في جاهلية ولا إسلام لأحد من الناس! إلّاأ نّه عمّر الأرض ، واتّخذ في طرق مكّة القنوات والبُرك (٢).

وقد مرّ الخبر أن يزيد بن عبد الملك أراد خلع أخيه هشام عن العهد لما بعده ، فأقنعه خالد بن عبد الله القسري البجلي اليماني الشامي بأن يقدّم ابنه الوليد ويجعل العهد بعده لهشام ، ففعل ذلك. فاليوم عزل هشام أخاه مَسلمة بن عبد الملك عن العراقَين وولّاها خالد القسري باليد التي كانت له عنده (٣) فولّى أخاه أسدَ بن عبد الله القَسري على خراسان في شهر ربيع الآخر من سنة (١٠٦ ه‍) ثمّ حجّ هشام فمات طاووس بن كيسان اليماني فصلّى عليه هشام قبل الموقف (٤) وكان معه أخوه مَسلمة بن عبد الملك.

هشام والباقر عليه‌السلام في المسجد الحرام :

مرّ الخبر عن حجّ هشام على عهد أبيه عبد الملك متزامناً مع حجّ الإمام

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٢٧٩.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢٠٥ وقال : وأزال آثارها داوود بن علي العباسي في صدر دولتهم!

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٣ ـ ٣١٤ و ٣١٦. أي في مقابل نعمته ومنّته عليه.

(٤) تاريخ خليفة : ٢١٦ ـ ٢١٧.

٥٦

السجاد عليه‌السلام ، وفي هذه السنة الثانية من عهده أعاد حجّه فتزامن مع حجّ الإمام الباقر عليه‌السلام (١) وكان مع هشام نافع مولى عبد الله بن عمر ، فنظر نافع إلى أبي جعفر عليه‌السلام في ركن البيت وقد اجتمع عليه الناس فقال نافع :

يا أمير المؤمنين! مَن هذا الذي قد تداكّ عليه الناس؟ فقال : هذا محمّد بن علي نبيّ أهل الكوفة!

فقال : لآتينّه فلأسألنّه عن مسائل لا يجيبني فيها إلّانبي أو ابن نبي أو وصي نبيّ!

قال : فاذهب إليه لعلّك تخجله! فجاء نافع حتّى أشرف على أبي جعفر متكئاً على الناس وقال :

يا محمّد بن علي : إنّي قرأت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان! وقد عرفت حلالها وحرامها! وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلّانبي أو ابن نبي أو وصي نبي! فرفع أبو جعفر رأسه وقال له : سل عمّا بدالك!

قال : أخبرني كم بين عيسى وبين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله من سنة؟

قال : أما في قولك فستمئة سنة وأ مّا في قولي فخمسمئة سنة.

قال : فأخبرني عن قول الله عزوجل لنبيّه : «وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ» (٢) فمن سأل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبينه وبين عيسى خمسمئة سنة؟

فتلا أبو جعفر عليه‌السلام هذه الآية : «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ

__________________

(١) ذلك أنّه تملك من سنة (١٠٦ ه‍) إلى (١٢٥ ه‍) ولم يحج إلّاهذه السنة كما في تاريخ خليفة : ٢١٣ ـ ٢٣٢.

(٢) الزخرف : ٤٥.

٥٧

الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا» (١) فكان من الآيات التي أراها الله تبارك وتعالى محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث أسرى به إلى بيت المقدس (وليس المعراج؟) أن حشر الله عزّ ذكره الأوّلين والآخرين من النبيين والمرسلين ، ثمّ أمر جبرئيل عليه‌السلام فأذّن شفعاً وأقام شفعاً (بخلاف أهل السنة) وقال في أذانه : «حيّ على خير العمل» ثمّ تقدم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فصلّى بالقوم ، فلمّا انصرف قال لهم : ما كنتم تعبدون وعلامَ تشهدون؟ قالوا : نشهد أن لا إله إلّاالله وحده لا شريك له ، وأ نّك رسول الله ، اخذ على ذلك عهودنا ومواثيقنا! ثمّ سكت. فقال نافع : صدقت يا أبا جعفر.

ثمّ قال : فأخبرني عن قول الله عزوجل : «أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا» (٢) فقال عليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى لمّا أهبط آدم إلى الأرض ، وكانت السماوات رتقاً لا تمطر شيئاً ، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت شيئاً ، فلمّا أن تاب الله عزوجل على آدم عليه‌السلام أمر السماء فتفطّرت بالغمام ثمّ أمرها فأرخت عزالَيها ، ثمّ أمر الأرض فأنبتت الأشجار وأثمرت الثمار وتفهّقت بالأنهار ، فكان ذلك رتقها وهذا فتقها. ثمّ سكت. فقال نافع : صدقت يابن رسول الله!

ثمّ قال : فأخبرني عن قول الله عزوجل : «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ» (٣) أيُّ أرض تبدَّل يومئذ؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : تبدّل بأرض تبقى خبزةً يأكلون منها حتّى يفرغ الله عزوجل من الحساب!

__________________

(١) الإسراء : ١.

(٢) الأنبياء : ٣٠.

(٣) إبراهيم : ٤٨.

٥٨

فقال نافع : إنّهم يومئذ لمشغولون عن الأكل! فقال أبو جعفر : أهم يومئذٍ أشغل أم إذ هم في النار! قال نافع : بل إذ هم في النار. قال : فو الله ما شغلهم إذ دعوا بالطعام فاطعموا الزقوم ، ودعوا بالشراب فسقوا الحميم! قال نافع : صدقت يابن رسول الله.

ثمّ قال : ولقد بقيت مسألة واحدة : أخبرني عن الله تبارك وتعالى متى كان؟ قال : ويلك متى لم يكن حتّى اخبرك متى كان؟ سبحان من لم يزل ولا يزال فرداً صمداً لم يتّخذ صاحبة ولا ولداً!

فولّى نافع من عنده وهو يقول : أنت والله أعلم الناس حقّاً حقّاً! فلمّا وصل إلى هشام سأله : ما صنعت؟ قال : دعني ، فهذا والله أعلم الناس حقّاً حقّاً ، وهو ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حقّاً ، ويحقّ لأصحابه أن يتّخذوه نبيّاً (١)!

وأخرجه الكليني بسنده عن أبي حمزة الثُمالي قال : حججنا مع أبي جعفر عليه‌السلام. وعن أبي الربيع ، ولعلّه كان مع هشام فنقل ما عن جانبه ، وجمعهما الراوي عنهما الحسن بن محبوب السرّاد الأزدي الكوفي.

وأخرج مختصره المفيد بسنده عن عبد الرحمان بن عبد الله الزُهري ، وأنّ هشاماً أمر مولاه سالماً أن يسأل الإمام عليه‌السلام (٢).

وأرسل مختصره أيضاً الحلبي ، وأنّ الذي كان مع هشام هو أبو مجاشع الأبرش بن الوليد القضاعي الكلبي وأمره هشام أن يسأل الإمام عليه‌السلام ثمّ أكمله بتكملة خبر الكليني (٣).

__________________

(١) روضة الكافي : ١٠٣ ـ ١٠٥ ، الحديث ٩٣.

(٢) الإرشاد ٢ : ١٦٣ ـ ١٦٤ وبهامشه مصادر عديدة اخرى. وقبله شرح الأخبار ٣ : ٢٨٠.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢١٤ ـ ٢١٥.

٥٩

وعليه ، فلو كان هشام القم حجراً من شاعره الفرزدق الأسدي البصري يوم لقائه بالإمام السجاد عليه‌السلام على عهد أبيه عبد الملك ، فاليوم القم حجراً من الإمام الباقر عليه‌السلام وهو خليفة ، وبلا تقية منه في الأذان والإقامة و «حيّ على خير العمل» فما رأى الإمام تلك الأيام أيام تقية ولا كان أمر بها يومئذ.

بل أُرسل الحلبي عن أبي حمزة الثمالي قال : أقبل الناس ينثالون عليه وعند هِشام عِكرمة غلام ابن عباس فقال : مَن هذا؟ كأن عليه سيماء أهل العلم! لُاجربنّه! وقام إليه فلمّا مثل بين يديه قال له : يابن رسول الله ، لقد جلست مجالس كثيرة بين يدي ابن عباس وغيره فما أدركني ما أدركني الآن! فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : ويلك يا عُبيد أهل الشام! إنّك بين يدي (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ). ثمّ قام على صَعدة من الأرض بين الباب والحجر أو الملتزم وقد حزَّم وسطه على المِئزر بعمامة خز! والوقت ضحى والشمس على الرؤوس فصعَّد كفه وطرفه نحو السماء ودعا ، وانثال الناس عليه يستفتونه عن المعضلات ويستفتحون به أبواب المشكلات ، فلم يَرُح حتّى أفتاهم في ألف مسألة (١).

ولئن كان الفرزدق الشاعر الأسدي البصري قرأ شعره في مديح الإمام السجّاد عليه‌السلام معلناً ، فهنا الكميت بن زيد الأسدي البصري أيضاً ابن اخت الفرزدق قرأ شعره على الباقر عليه‌السلام غير معلن ، فتوجّه الباقر عليه‌السلام إلى جهة الكعبة ودعا له ثلاثاً : اللهم ارحم الكميت واغفر له. ثمّ جمع له من أهل بيته مئة ألف درهم وقال له : يا كميت ، هذه مئة ألف قد جمعتها لك من أهل بيتي.

فقال الكميت : لا والله لا يعلم أحد أني أخذت منها ، حتّى يكون الله عزوجل هو الذي يكافيني؟ ثمّ قال له : ولكن تكرمني بقميص من قُمصك. فأعطاه (٢).

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ١٩٨ ، والآية ٣٦ من النور.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢١٤.

٦٠