موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

فقال الرجل : هو ذاك! فقال : والله ما عرفنا فضلهم إلّاباتباعهم إياه!

وكان أبو البلاد حاضراً فقال كلمة في عظيم منزلة أبان في التشيع. فقال له أبان :

يا أبا البلاد ، أتدري من «الشيعة»؟ «الشيعة» الذين إذا اختلف الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذوا بقول علي عليه‌السلام ، وإذا اختلف الناس عن علي أخذوا بقول جعفر بن محمّد عليه‌السلام.

وكأنه كان أكبر من الصادق عليه‌السلام عمراً وراوياً عن كثير غيره فعابه بعضهم لروايته عن الصادق عليه‌السلام فقال لهم : كيف تلوموني في روايتي عن رجل ما سألته عن شيء إلّاقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟!

وعن مبلغ رواياته عنه قال الصادق عليه‌السلام لأبان بن عثمان الأحمر البجلي : إن أبان بن تغلب روى عنّي ثلاثين ألف حديث! فاروها عنه!

ولذا لما دخل عليه مع ابنه محمّد ، قال محمّد : فلمّا بصر به أمر بوسادة له وقام إليه ورحّب به وصافحه واعتنقه ثمّ جلس إليه وساء له (١).

وكان الصادق عليه‌السلام في موسم الحج قبل المواقف يستقر أياماً في جبل في طرف الحرم في خيمة صغيرة ، وقد اجتمع حوله أبان بن تغلب والأحول مؤمن الطاق محمّد بن علي وحُمران بن أعين مولى شيبان ، وقيس بن الماصر وهشام بن سالم الجواليقي وهشام بن الحكم مولى كندة ، ويونس بن يعقوب البجلي عنده في الخيمة.

وكان يونس قد استأنس إلى مزاولة الكلام ولكنّه سمع الصادق عليه‌السلام يقول : ويل لأصحاب الكلام ، يقولون : هذا نعقله وهذا لا نعقله ، هذا ينقاد وهذا لا ينقاد ، هذا ينساق وهذا لا ينساق. فترك يونس الكلام (٢).

__________________

(١) رجال النجاشي : ١١ ـ ١٢.

(٢) أُصول الكافي ١ : ١٧١ ، الباب الأوّل ، كتاب الحجة ، الحديث ٤.

٢٦١

واليوم ورد رجل من أهل الشام فاستأذن فأذن له فدخل وسلم وأذن له بالجلوس فجلس ، ثمّ قال له : حاجتك أيها الرجل؟ قال : بلغني أنك عالم بكل ما تُسأل عنه ، فصرت إليك لُاناظرك! قال : في ماذا؟ قال : في مقاطع القرآن ورفعه ونصبه وخفضه وإسكانه (١).

ثمّ قال ليونس : اخرج إلى الباب فانظر من ترى من المتكلمين فأدخله. قال يونس : فأَدخلت الأحول الطاقي محمّد بن علي ، وحُمران بن أعين مولى شيبان ، وقيس بن الماصر وهشام بن سالم الجواليقي ، فلمّا استقر بنا المجلس أخرج الصادق عليه‌السلام رأسه من الخيمة فإذا هو براكب على بعير يخبّ ، فقال : هشام (بن الحكم) ورب الكعبة! فورد هشام بن الحكم وهو أول ما اختطّت لحيته وكلّنا أكبر سنّاً منه ، فوسّع له الصادق عليه‌السلام وقال له : ناصرنا بقلبه ولسانه ويده (٢).

ثمّ قال لحُمران : يا حُمران! دونك الرجل! فقال الرجل : إنّما أُريدك لا حُمران! قال : فإن غلبت حُمران فقد غلبتني! فأقبل الشامي يسأل حُمران حتّى ملّ وحُمران يجيبه. فقال الصادق للشامي : كيف رأيته؟ قال : رأيته حاذقاً ، ما سألته عن شيء إلّاأجابني فيه.

ثمّ قال : يا أبا عبد الله ، اريد أن اناظرك في العربية. فالتفت إلى أبان بن تغلب وقال له : ناظِره. فناظره فما ترك الشاميّ يكشّر!

فقال الشامي للصادق عليه‌السلام : اريد أن اناظرك في الفقه. فالتفت إلى زرارة بن أعين مولى شيبان أخي حُمران وقال له : يا زرارة ، ناظِره ، فناظره فما ترك الشامي يكشّر ....

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٧٥ ، الحديث ٤٩٤.

(٢) أُصول الكافي ١ : ١٧١ ـ ١٧٢.

٢٦٢

ثمّ ناظره في التوحيد هشام بن سالم الجواليقي ، وفي الاستطاعة حمزة الطيار مولى فزارة ، وفي الإمامة هشام بن الحكم مولى كندة ، فتركه لا يُحير جواباً ، وبقي الصادق عليه‌السلام يضحك حتّى بدت نواجذه! فقال الشامي : كأنك أردت أن تخبرني أنّ في «شيعتك» مثل هؤلاء الرجال! قال : هو ذاك.

ثمّ قال له : يا أخا أهل الشام ، إن الله أخذ ضغثاً من الحق وضغثاً من الباطل ، فمغثهما ثمّ أخرجهما للناس ، ثمّ بعث أنبياء يفرّقون بينهما ، وجعل بعد الأنبياء أوصياء ، ولو كان كل واحد من الحق والباطل قائماً بشأنه على حدة ما احتاج الناس إلى نبي ولا وصيّ ، ولكن الله خلطهما وجعل تفريقهما إلى الأنبياء والأئمة من عباده!

فقال الشامي : قد أفلح من جالسك. ثمّ قال : اجعلني من شيعتك وعلّمني.

فقال الصادق لهشام بن الحكم : يا هشام ، علّمه فإني احبّ أن يكون تلميذاً لك. فكان الشامي يأتي هشاماً بهدايا أهل الشام ، وهشام يزوّده بهدايا أهل العراق (١).

أو قال الشامي للصادق عليه‌السلام : صدقت ، ثمّ قال : الساعة أسلمت لله! قال الصادق : بل قل : آمنت بالله ، فإن الإسلام قبل الإيمان ، بالإسلام يتناكحون ويتوارثون ، وبالإيمان يثابون! فقال الشامي : فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلّاالله ، وأن محمّداً رسول الله ، وأنك وصيّ الأوصياء (٢).

فمن هذا الخبر يظهر أن أبان بن تغلب على حفظه لثلاثين ألف حديث لم يقدمه الإمام في الفقه على زرارة ، وإنّما قدمه في العربية!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٧٦ ـ ٢٧٨ ، الحديث ٤٩٤.

(٢) أُصول الكافي ١ : ١٧٣ ، الباب الأوّل ، الحديث ٤ ، كتاب الحجة.

٢٦٣

وكان عليه‌السلام يحوّل أهل الكوفة للأخذ منه والرواية عنه : فعن مسلم أو سليم بن أبي حبة قال : كنت في خدمة الصادق عليه‌السلام عنده ، فلمّا أردت أن افارقه ودّعته وقلت له : احبّ أن تزوّدني. فقال : ائت أبان بن تغلب فإنه قد سمع مني حديثاً كثيراً فما روى لك فاروه عنّي (١).

وحجّ جميل بن درّاج فذكر أباناً عند الصادق عليه‌السلام ونعاه إليه فقال : رحمه‌الله ، أما والله لقد أوجع قلبي موت أبان (٢).

* * *

مرّ الخبر عن اليعقوبي : أن مكان عمّه الخارج عليه عبد الله بن علي عند أخيه والي البصرة سليمان ، فطلبه منه فأنكر ذلك ، ثمّ طلب له الأمان على نسخة وضعها له كاتبه عبد الله بن المقفّع (٣) بأغلظ العهود والمواثيق ، ثمّ قدم به عليه مع أخيهما عيسى بن علي يوم الغدير سنة (١٣٧ ه‍) بالحيرة (٤).

وقيل : كان في كتاب الأمان : إن أنا نلت من عبد الله بن علي أو أحد ممن أقدمه معه! بصغير أو كبير أو أوصلت إلى أحد منهم ضرراً سراً أو علانية تصريحاً أو كناية أو بحيلة فأنا نفي من محمّد بن علي بن عبد الله ومولود لغير رَشدة (٥).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٣٣١ ، الحديث ٦٠٤ ، ورجال النجاشي : ١٣.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٣٣٠ ، الحديث ٦٠١ ، والفهرست للطوسي : ٦ ، والنجاشي : ١٠.

(٣) كان اسم أبيه مباركاً ، وكان فارسياً من كرمان ، وكان من كتّاب الحساب للحجّاج فاتهمه بشيء وضربه بالسياط حتّى تقفعت يداه أي تشنّجت فدُعي المقفّع! كما في هامش بحار الأنوار ٣ : ٤٢ ، عن وفيات الأعيان ١ : ٤١٧ ، وذكر قتله في (١٤٢ ه‍) ، وقبله في البخلاء للجاحظ البصري : ٣٦٨.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٨.

(٥) امراء البيان : ١٠٨ ـ ١٠٩.

٢٦٤

مع ذلك نراه حبس عمّه عبد الله ، وعزل عن البصرة عمّه سليمان ، وولّى بمكانه سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلّب الأزدي البصري في شهر رمضان سنة (١٣٩ ه‍) وأمره بقتل ابن المقفّع ، وكان سفيان واجداً على ابن المقفّع لأنه كان يضحك منه ويعبث به معتصماً وممتنعاً عليه بعيسى وسليمان ابني علي العباسي ، فكان سفيان حاقداً عليه ، فلمّا كوتب في أمره بما كوتب عزم على قتله (١) وسيأتي خبره ، وقبله نذكر هنا بعض أخباره مع الصادق عليه‌السلام :

ابن المقفّع ومعارضة القرآن :

أرسل الطبرسي عن هشام بن الحكم مولى بني كندة (٢) قال : اجتمع أبو شاكر عبد الله الديصاني الزنديق ، وعبد الكريم بن أبي العوجاء ، وعبد الملك البصري وصاحبه عبد الله بن المقفّع عند بيت الله الحرام (في الموسم) يستهزئون بالحاج!

وقال لهم ابن أبي العوجاء : إن في نقض القرآن إبطال نبوة محمّد ، وفي إبطال نبوته إبطال الإسلام وإثبات ما نحن عليه! فتعالوا ينقض كل واحد منّا ربع القرآن ، فنجتمع من قابل في هذا الموضع وقد نقضنا القرآن كلّه! فاتفقوا على ذلك وافترقوا.

فلمّا كان من قابل (وقد حجّ الصادق عليه‌السلام فلعلّها عام ١٤٠ ه‍) اجتمعوا عند بيت الله الحرام.

فقال ابن أبي العوجاء : أما أنا فمنذ افترقنا أُفكر في هذه الآية : (فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً (٣)) فما أقدر أن أضم إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئاً ، فشغلتني هذه الآية عن التفكير فيما سواها.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٨ : ٢٧٠.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢٥٦ ، الحديث ٤٧٥.

(٣) يوسف : ٨٠.

٢٦٥

فقال عبد الملك : وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَايَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (١)) فلم أقدر على الإتيان بمثلها.

فقال أبو شاكر : وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا (٢)) فلم أقدر على الإتيان بمثلها.

فقال ابن المقفّع : يا قوم إن هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر ، فأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية : (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِىَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٣)) فلم أبلغ غاية المعرفة بها ولم أقدر على الإتيان بمثلها.

فبينماهم كذلك إذ مرّ بهم الصادق عليه‌السلام فقرأ عليهم : (قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَايَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٤)).

فنظر القوم بعضهم إلى بعض وقالوا : لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهت أمر وصية محمّد إلّاإلى جعفر بن محمّد ، والله ما رأيناه قط إلّاهبناه واقشعرّت جلودنا لهيبته! ثمّ تفرقوا مقرّين بالعجز (٥).

__________________

(١) الحج : ٧٣.

(٢) الأنبياء : ٢٤.

(٣) هود : ٤٤.

(٤) الإسراء : ٨٨.

(٥) الاحتجاج ٢ : ١٤٢ ـ ١٤٣.

٢٦٦

ولا يكشف الخبر عن من قال ما قال بشأن الصادق عليه‌السلام فكشف عن سابق معرفته بحقّه.

وروى الصدوق بسنده خبراً آخر يكشف عن سابق معرفة المقفّع على ابن أبي العوجاء في الموسم أيضاً : عن أبي منصور المتطبّب عن صاحبه قال : كنت مع ابن أبي العوجاء وابن المقفّع في المسجد الحرام وفي موضع الطواف منه جعفر بن محمّد جالس ، ونظر ابن المقفّع إلى موضع الطواف وأومأ بيده إلى الطائفين وقال لنا : ترون هذا الخلق؟ فما منهم أحد أوجب له اسم الإنسانية إلّاذلك الشيخ الجالس! يعني جعفر بن محمّد (وهو دون الخامسة والخمسين من عمره) قال : فأما الباقون فرُعاع وبهائم!

فقال له ابن أبي العوجاء : وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟

قال : لأني رأيت عنده ما لم أره عندهم! (هكذا مجملاً بلا بيان).

فقال ابن أبي العوجاء : لابدّ من اختبار ما قلت فيه ، منه!

فقال ابن المقفّع : لا تفعل ، فإني أخاف أن يُفسد عليك ما في يدك! فقال ابن أبي العوجاء : ليس رأيك هذا ، ولكنّك تخاف أن يضعف رأيك عندي في إحلالك إياه المحل الذي وصفته له!

فقال ابن المقفّع : أما إذا توهمت هذا عليّ فقم إليه وتحفّظ ما استطعت من الزلل ، ولا تثن عنانك إلى إرسال يسلّمك إلى عقال ، وسمه مالك أو عليك.

فقام ابن أبي العوجاء إليه ، وبقيت أنا وابن المقفّع ننتظره حتّى رجع إلينا فقال :

يابن المقفّع! ما هذا بشر : وإن كان في الدنيا روحاني يتروّح إذا شاء باطناً ويتجسّد إذا شاء ظاهراً فهو هذا! فقال : وكيف ذاك؟ قال : جلست إليه ، فلمّا لم يبقَ عنده غيري ابتدأني فقال :

٢٦٧

إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء (يعني أهل الطواف) وهو على ما يقولون : فقد سلموا وعطبتم! وإن يكن الأمر على ما تقولون ، وليس كما تقولون ؛ فقد استويتم أنتم وهم!

فقلت له : يرحمك الله وأي شيء نقول وأي شيء يقولون؟ ما قولي وقولهم إلّا واحداً (نفاقاً).

قال : كيف يكون قولك وقولهم واحداً وهم يقولون : إنّهم يدينون بأن للسماء إلهاً وأنها عمران ، وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد! وهم يقولون إن لهم معاداً وثواباً وعقاباً!

قال ابن أبي العوجاء : فقلت له : إن كان الأمر كما تقول فما منعه أن يظهر لخلقه ويدعوهم إلى عبادته ، حتّى لا يختلف منهم اثنان؟! فلِم احتجب عنهم وأرسل الرسل؟! ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به.

فقال لي : وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نشوئك ولم تكن ، وكبرك بعد صغرك ، وقواك بعد ضعفك وضعفك بعد قوتك ، وسقمك بعد صحتك وصحتك بعد سقمك ، ورضاك بعد غضبك وغضبك بعد رضاك ، وحزنك بعد فرحك وفرحك بعد حزنك ، وحبّك بعد بغضك وبغضك بعد حبّك ، وعزمك بعد إبائك وإبائك بعد عزمك ، وشهوتك بعد كراهتك وكراهتك بعد شهوتك ، ورغبتك بعد رهبتك ورهبتك بعد رغبتك ، ورجاك بعد يأسك ويأسك بعد رجائك ، وخاطرك بما لم يكن في وهمك وغروب ما أنت معتقده عن ذهنك ... وما زال يعد عليَّ قدرته في نفسي التي لا أدفعها ، حتّى ظننت أنّه سيظهر على ما بيني وبينه (١) (أي على ضميري).

__________________

(١) التوحيد : ١٢٦ ـ ١٢٧.

٢٦٨

ومن خبر المفضل بن عمر الجعفي الكوفي عن ابن أبي العوجاء هذا يظهر أنّه التقى الصادق عليه‌السلام مناظراً له غير مرة ، وكان مع صاحبه ـ ولعلّه ابن المقفّع ـ في روضة المسجد النبوي الشريف ، وتذاكرا ابتداء الأشياء فزعم ابن أبي العوجاء أن ذلك كان بلا صنعة ولا تدبير ولا صانع ولا تقدير ؛ بل الأشياء تتكون من ذاتها بلا مدبّر ، فهي على هذا لم تزل ولا تزال!

وسمعهما المفضل فلم يتمالك نفسه غضباً حتّى صاح به منكراً عليه قائلاً له : يا عدو الله! أنكرت الباري جلّ قدسه الذي خلقك في أحسن تقويم وصوّرك في أتم صورة ونقلك في أحوالك حتّى بلغ بك إلى حيث انتهيت ، وألحدت في دين الله!

فقال : يا هذا ، إن كنت من أهل الكلام كلّمناك .. وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمّد الصادق.

فلقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت .. فهو يسمع كلامنا ويصغى إلينا ويتعرّف حجّتنا حتّى إذا استفرغنا ما عندنا وظننا أنّا قطعناه ، دحض حجّتنا بكلام يسير وخطاب قصير ، يُلزمنا به الحجّة ويقطع العذر ولا نستطيع لجوابه ردّاً! فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه ، فإنه ما أفحش في خطابنا ولا تعدى في جوابنا ، وإنّه الحليم الرزين والعاقل الرصين ، لا يعتريه خرق ولا نزق ، وما هكذا يخاطبنا ولا بمثل دليلك يجادلنا.

قال المفضّل : فخرجت من المسجد مفكّراً فيما بلي به الإسلام وأهله من كفر هذه العصابة.

ودخلت على مولاي (الصادق عليه‌السلام) فرآني منكسراً فقال : مالك؟ فأخبرته بما سمعته من هذين الدهريَّين وبما رددت عليهما.

فقال : يا مفضل لألقينّ عليك من حكمة الباري «جلّ وعلا وتقدّس اسمه» في خلق العالم والسباع والبهائم والطير والهوام ، وكل ذوي روح من الأنعام ،

٢٦٩

والنباتات والشجرة المثمرة وغير ذات الثمر ، والحبوب والبقول ، المأكول من ذلك وغير المأكول ، ما يعتبر به المعتبرون ، ويحنّ إلى معرفة المؤمنون ، ويتحيّر فيه الملحدون. فبكّر عليَّ غداً. فانصرفت من عنده فرحاً مسروراً (١).

ثمّ بكّر إليه غداً وبعد غد إلى أربعة أيام إلى زوالها ، فأملى عليه مما قال ما عُرف بكتاب توحيد المفضّل.

وقد مرّ في الخبر الثاني في هذا العنوان ما كان يمثل أول معرفة لابن أبي العوجاء بالصادق عليه‌السلام. إلّاأن المفيد انفرد بما أفاد إغراءً آخر عن ابن المقفّع لابن أبي العوجاء بالصادق عليه‌السلام مما ظاهره أنّه أول إغراء منه له به عليه‌السلام :

عن ابن قولويه عن الكليني عن القمي عن الفُقيمي : أن نفراً من الزنادقة منهم ابن أبي العوجاء وابن الأعمى وابن طالوت وابن المقفّع كانوا في الموسم بعد الحج مجتمعين في المسجد الحرام ، والصادق عليه‌السلام إذ ذاك يفتي الناس ويجيب عن مسائلهم بالحجج والبيّنات ويفسّر لهم القرآن. فقال القوم لابن أبي العوجاء : «هذا الجالس علّامة زمانه! وقد ترى فتنة الناس به! فهل لك في تغليطه بسؤاله عمّا يفضحه عند المحيطين به»؟! مما ظاهره عدم سابق معرفة له به عليه‌السلام. ولكنّه قال :

فتقدم إليه وفرّق الناس عنه حتّى وقف عليه وقال له : أبا عبد الله! لابدّ لكل من كان به سُعال أن يسعل! فهل تأذن لي بالسؤال؟ قال عليه‌السلام : سل إن شئت!

فقال : إلى كم تدوسون هذا البيدر! وتلوذون بهذا الحجر؟ وتعبدون هذا البيت! المرفوع بالطوب والمدر ، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر! من فكّر في هذا وقدّر علم أنّه فعل غير حكيم ولاذي نظر! فقل فإنّك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك اسّه ونظامه!

__________________

(١) توحيد المفضل : ٣٩ ـ ٤٤ ، وشرحه المرحوم العلّامة الشيخ ميرزا محمّد الخليلي النجفي في أربعة أجزاء ، باسم : من أمالي الإمام الصادق عليه‌السلام.

٢٧٠

فقال عليه‌السلام : إن من أضلّه الله وأعمى قلبه استوخم الحق فلم يستعذ به ، وصار الشيطان وليّه وربّه ، يورده موارد الهلكة. (إنّ) هذا بيت استعبد الله به خلقه! ليختبر طاعتهم في إتيانه ، فحثّهم على تعظيمه وزيارته ، وجعله قبلة للمصلّين له ، فهو شعبة من رضوانه ، وطريق يؤدّي إلى عرفانه ، منصوب على استواء الكمال ومجمع العظمة والجلال ، خلقه قبل دحو الأرض بألفي عام. فأحقّ من يُطاع في ما أمر وينتهى عمّا زجر هو الله عزوجل المنشئ للأرواح والصور!

فقال ابن أبي العوجاء : أبا عبد الله ، ذكرت الله فأحلت على غائب!

فقال عليه‌السلام : يا ويلك! كيف يكون عنّا غائباً من هو مع خلقه شهيد ، وهو إليهم أقرب من حبل الوريد ، يسمع كلامهم وإسرارهم ، لا يخلو منه مكان ولا يشغل به مكان ، ولا يكون إلى مكان أقرب من مكان. تشهد بذلك له آثاره وتدل عليه أفعاله ، والذي بعثه بالآيات المحكمة والبراهين الواضحة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قد جاءنا بهذه العبادة ؛ فإن شككت في شيء من أمره فسل عنه أوضحه لك.

فسكت ابن أبي العوجاء وجاء إلى أصحابه وقال لهم : سألتكم أن تلتمسوا لي خُمرة فألقيتموني على جَمرة! وقالوا له : لقد فضحتنا بحيرتك وانقطاعك! وما رأينا أحقر منك اليوم في مجلسه!

فأومأ بيده إلى الناس وكانوا محلَّقين فقال : إنّه ابن من حلق رؤوس من ترون (١)! وعلى ذكر ابن المقفّع في مقدمة الخبر هذا ، يظهر منه أنّه كان ذلك قبل مقتله.

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ١٩٩ ـ ٢٠١ ، عن الكليني في الكافي ٤ : ١٩٧ ، الحديث ١ ، ولكن الخبر هنا أتمّ وأكمل ، وكذا الصدوق في الأمالي والعلل بدون المقدّمة فليس فيه ذكر ابن المقفّع وأصحابه ، ولذا نقلته من الإرشاد. وانظر بعض الأخبار عنه في أمالي المرتضى ١ : ١٣٤ ـ ١٣٧.

٢٧١

مقتل ابن المقّفع :

ذكر ابن الخياط العصفري البصري : أن سفيان بن معاوية المهلّبي الأزدي تولّى البصرة مرتين الأُولى سنة (١٣٤ ه‍) ثمّ سنة (١٣٧ ه‍) (١) وكأنّ قتله لابن المقفّع كان في ولايته الثانية ، كما يلي :

استأذن عليه جمع من أهل البصرة فيهم ابن المقفّع (فلعلّه استأمنه قياساً على ولايته الأُولى) وكان سفيان قد أعدّ له عُدّة قتله في حجرة في دهليز داره ، فأدخل ابن المقفّع قبلهم وجلس غلامه بدابته على باب سفيان ، فلمّا دخل عدل به إلى الحجرة وعنده غلمانه وتنور نار مستعرة! وقال له سفيان : أتذكر يوم قلت لي : امي مغتلمة (٢) أجل أُمّي مغتلمة إن لم أقتلك قِتلة لم يُقتل بها أحد! ثمّ أمر بقطع يديه ورجليه وإلقائها في النار ثمّ أتبعها جسده وأطبق عليه التنّور! وخرج إلى الناس ، وخرجوا من عنده دون ابن المقفّع.

وتخلّف غلامه ينتظره فلم يخرج ، فأخبر بذلك عيسى وسليمان ابني علي العباسي ، فخاصما سفيان في أمره فجحد دخوله عليه ، فاشخصاه إلى المنصور وأقاموا البيّنة على دخول ابن المقفّع عليه سليماً. ثمّ لم يخرج من عنده. فأجّل المنصور الحكم تلك الليلة إلى غد. وجاءه سفيان ليلاً وقال له : يا أمير المؤمنين! اتقِ الله في متّبع أمرك! فقال له : لا تخف! وفي غد قال لهم : أرأيتم إن قتلت سفيان بابن المقفّع ثمّ خرج ابن المقفّع عليكم من هذا الباب من ينصب لي نفسه حتّى أقتله بسفيان؟! وهكذا ذهب دمه هدراً!

ذكر ذلك المعتزلي في شرح النهج ، في شرح كلمة له عليه‌السلام قال : ربّ عالم

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٧٦ و ٢٨٤.

(٢) أي ذات شهوة كثيرة للرجال!

٢٧٢

قد قتله جهله وعلمه معه لا ينفعه! فقال : كما جرى لابن المقفّع ، وفضله مشهور وحكمته أشهر من أن تُذكر ، ولو لم يكن له إلّا «كتاب اليتيمة» لكفى (١).

ونقل ابن خلكان مقتله وقال : قال له سفيان : لا حرج عليّ في المثلة بك وأنت زنديق قد أفسدت الناس (٢).

وذكر المسعودي : أن دبشليم ملك الهند القديم هو الواضع لكتاب «كليلة ودمنة» الذي ترجمه ابن المقفّع (٣) بعد أن نُقل من الهندية إلى الفارسية لأنوشيروان مع الشطرنج (٤) وقال : نقل ابن المقفّع من الفارسية الفهلوية إلى العربية كتب ماني وابن ديصان ومرقيون في تأييد المذاهب المانوية والديصانية والمرقيونية ، فكثرت بذلك الزنادقة وظهرت آراؤهم في الناس (٥).

وفي صيت ابن المقفّع في التصنيف قال الجاحظ : أنّه كان يؤلف الكتاب الكثير المعاني الحسن النظم فينسبه إلى نفسه فلا يرى الارادات تيمّم نحوه ولا الأسماع تُصغي إليه! ثمّ يؤلف ما هو أنقص منه مرتبة وأقل فائدة فيُنحله إلى ابن المقفّع أو سهل بن هارون ممن قد طارت أسماؤهم في المصنّفين ، فيُسارعون إلى نسخها ويُقبلون عليها ، لا لشيء إلّالنسبتها إلى القدماء (٦).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٨ : ٢٦٩ ، ٢٧٠. واليتيمة وسائر آثاره الباقية طبعت ونُشرت باسم : الآثار الكاملة له ، للدكتور عمر الطبّاع السوري ، بيروت دار الأرقم. وانظر كتاب : ابن المقفّع بين حضارتين ، للدكتور حسين علي جمعة.

(٢) وفيات الأعيان ٢ : ١٥٢ ، وفي تاريخ مقتله انظر : ابن المقفّع بين حضارتين : ٦٤.

(٣) مروج الذهب ١ : ٩٦.

(٤) مروج الذهب ١ : ٢٩٤.

(٥) مروج الذهب ٤ : ٢٢٤.

(٦) التنبيه والإشراف : ٦٦.

٢٧٣

آذربايجان وأرمينية والخزر :

كان على شُرَط السفّاح عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي (١) في سنة (١٤٠ ه‍) ولّاه المنصور على خراسان فبلغه أنّه جعل يتتبّع شيعتهم حتّى قتل منهم مقتلة عظيمة ، فوجّه المنصور بابنه المهدي إلى الريّ سنة (١٤١ ه‍) واستعمل على خراسان اسيد بن عبد الله الخزاعي ووجّه معه بالجيوش فالتقوا في مرو ، فهزم عسكر الأزدي وهرب فأسره وأرسله إلى المنصور فقتله وصلبه.

وولّى المنصور آذربايجان يزيد بن حاتم المهلّبي البصري فكان أول من نقل قومه اليمانية من البصرة إلى آذربايجان ، فأنزل الروّاد الأزدي في تبريز ومرّ بن علي الطائي في نيريز ، وفرّق قبائل اليمن. وولّى المنصور أرمينية يزيد بن اسيد السُلمي ، فكتب إليه يعلمه أن رأس طرخان ملك الخزر قد أقبل إليه في خلق عظيم! فوجّه إليه المنصور جبرئيل بن يحيى البجلي في عشرين ألفاً من أهل الشام والجزيرة والموصل ، فواقع الخزر وانهزم إلى خِرس ، وانتهى الخبر إلى المنصور فأخرج سبعة آلاف من أهل السجون ، وبعث فجمع من كل بلد خلقاً عظيماً معهم بنّاءون فبنوا مدن : كمخ والمحمدية وباب واق وعدّة مدن اخرى جعلها ردءاً للمسلمين وأنزل بها المقاتلين ، فقوي المسلمون بتلك المدن وأقاموا بالبلاد ساكنين وردّوا المحاربين.

ثمّ وجّه المنصور بالحسن بن قحطبة الطائي عاملاً على أرمينية ، فتحركت عليه الصَنّارية بها ، فكتب إلى المنصور بخبرهم وكثرتهم ، فوجّه إليه عامر بن إسماعيل الحارثي في عشرين ألفاً ، فأقام يحاربهم أياماً حتّى رزقهم الله الظفر عليهم ، فقتلوا منهم في يوم واحد ستة عشر ألف إنسان ، وانصرف بالأسرى إلى تفليس فقتلهم ، فولّى المنصور مولاه واضح على أرمينية فأقام بها.

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٧٢.

٢٧٤

ووثب أهل طبرستان وأظهروا الخلع والعصيان في جيش عظيم! فوجّه المهدي العباسي إليهم من الريّ بعسكرين مع خازم بن خزيمة التميمي وروح بن حاتم المهلّبي البصري فهزموهم وفتحوا طبرستان سنة (١٤٢ ه‍).

وفاة إسماعيل بن جعفر :

مرّ في أخبار الحسن عليه‌السلام أنّ أباه علياً عليه‌السلام بعد مقتل طلحة بن عُبيد الله التيمي بالبصرة ، زوجّ ابنه الحسن عليه‌السلام بنتاً من طلحة تدعى أُم إسحاق فلما رزق الحسن عليه‌السلام منها ابناً سمح لها أن تسمّيه باسم أبيها طلحة ، كما سمّى الآخر منها باسم أخيه الحسين عليه‌السلام ، ثمّ لُقّب بالأثرم (١) وعند وفاته أوصى إلى الحسين عليه‌السلام أن يتزوّجها فتربيا عنده عليه‌السلام ، ثمّ صاهر الأثرم عمه عمر الأطرف بن علي عليه‌السلام ابنته أُم حبيب (٢) فرزق منها فاطمة فتزوجها الباقر لابنه الصادق عليهما‌السلام فرزق منها ابنته أُم فروة وابناه عبد الله وإسماعيل (٣) فعبد الله أكبر أبنائه وبه كان يكنى ، ولكنه كأ نّه لأنه من أسباط طلحة التيمي لذا مال إلى قول الحشوية بأن المصيبين هم الذين قعدوا عن حربهم وأنهم يتولونهم جميعاً ويردون أمرهم إلى الله ، والأخير من قول المرجئة (٤) وإلى قول الزيدية ولذا خرج مع محمد الحسني كما سيأتي.

وأما ابنه الآخر منها : إسماعيل ؛ فقد روى الأهوازي بسنده عن عمّار بن

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٢٠.

(٢) شرح الأخبار ٣ : ٣٠٩.

(٣) عمدة الطالب : ٢٣٣ والتبس على المفيد فقال : فاطمة بنت الحسين بن علي بن الحسين عليه‌السلام خطأ.

(٤) الإرشاد ٢ : ١٨٤ ، ١٨٥.

٢٧٥

حيان عن الصادق عليه‌السلام أنّه أخبر عن برّ ابنه إسماعيل به وقال : لقد كنت أحبّه وقد ازداد إليّ حباً (١).

ولذا لما شوهد بمكة أيام الموسم مع قوم يشربون فيهم إسماعيل بن جعفر! فذكر ذلك للصادق عليه‌السلام قال : لقد ابتلى ابني بشيطان يتمثل بصورته (٢) فهو برّأه من ذلك وخطّأ ظاهر الحال.

لكنه يظهر من خبر آخر عن الرضا عليه‌السلام أنّه كان يشرب النبيذ (٣) وكأنّه لهذا لم يستعظم ذلك من رجل قرشيّ تاجر إلى اليمن ، كان إسماعيل قد سمع الناس يقولون فيه أنّه يشرب الخمر! ومع ذلك استشار أباه الصادق عليه‌السلام أن يأتمنه على رأسمال يبتاع به له بضاعة من اليمن ، فقال الإمام له : يا بني أما بلغك أنّه يشرب الخمر؟ قال إسماعيل : هكذا يقول الناس ، فقال : لا تفعل. وعصى إسماعيل أباه ودفع إليه دنانيره فاستهلكها ولم يأته بشيء منها (٤).

ومنه ما روى النعماني والكشي بسنده عن الفيض بن المختار الجعفي مولاهم أنّه سمع الصادق عليه‌السلام يقول لإسماعيل : أليس كثيراً ما أقول لك إلزمني فلا تفعل؟! فقام إسماعيل وخرج (٥).

وفي خبر له آخر كأنما يتبرّأ الإمام عليه‌السلام من ابنه إسماعيل يقول : والله ما أمرت ولا علمت ولا رضيت (٦).

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٧ : ٢٦٨ عن كتاب الزهد للأهوازي.

(٢) كمال الدين : ٧٠.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٤٧٢ ـ ٤٧٤ ، الحديث ٨٩٩ كما فسّره في بحار الأنوار ٢٥ : ١٦٠.

(٤) الكافي ٦ : ٢٩٩ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٢٦٧ ، الحديث ٣٨.

(٥) كتاب الغيبة للنعماني : ٢٢٤ ، الباب ٢٣ ، الحديث ٢. والكشي : ٣٥٤ ، الحديث ٦٦٣.

(٦) المصدر : ٣٩٠ ، الحديث ٧٣٤.

٢٧٦

ونرى فيض بن المختار يقول : قلت : جعلت فداك ، فما على اسماعيل أن لا يلزمك إذا كنت متى مضيت أُفضيت الأشياء إليه من بعدك ، كما أُفضيت الأشياء إليك من بعد أبيك؟! فقال لي : يا فيض ، إنّ إسماعيل ليس مني ما كنتُ من أبي! قلت : جعلت فداك ، قد كنت لا أشك في أنّ الرحال تُحطّ إليه من بعدك (١)! وفي الكشي : قد كنا لا نشك أن الرحال ستحطّ إليه من بعدك وقد قلت فيه ما قلت (٢)!

وروى النعماني بسنده عن إسحاق بن عمار الصيرفي قال : وصف أخي إسماعيل للصادق عليه‌السلام دينه واعتقاده فبدأ بالشهادتين ثمّ وصف الأئمة واحداً واحداً حتّى انتهى إليه فقال : وإسماعيل من بعدك. فقال : أما إسماعيل فلا (٣) وذكره الكشي باسم : إسماعيل بن عامر ولعلّه هو ابن عمّار ، لولا زيادة فيه عن حمّاد بن عثمان قال : قلت لإسماعيل : فما دعاك إلى أن تقول : وإسماعيل؟ قال : أمرني به المفضّل (٤) هذا وقد روى الكشي قبله عنه (حمّاد) قال : كان المفضّل قد انقطع مع أصحاب أبي الخطّاب يقول في إسماعيل بقولهم ، فسمعت الصادق عليه‌السلام يقول له : يا كافر! يا مشرك! مالك ولابني؟! يعني إسماعيل. ثمّ رجع بعد ذلك (٥) ولو كان خطّابياً حقاً صح كفره وشركه ، ولا يتعدّى الأمر في إسماعيل نفسه أكثر من العصيان والفسق كما مرّ ، وذلك لا يمنع ما يأتي في موته :

__________________

(١) كتاب غيبة النعماني : ٢٢٥ ، الباب ٢٣ ، الحديث ٢.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٣٥٤ ، الحديث ٦٦٣.

(٣) كتاب الغيبة للنعماني : ٢٢٤ ، الباب ٢٣ ، الحديث ١.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٣٢٥ ، الحديث ٥٩٠.

(٥) المصدر : ٣٢١ ، الحديث ٥٨١.

٢٧٧

سجد سجدة طويلة ثمّ رفع رأسه فنظر إليه قليلاً ثمّ سجد سجدة أطول ثمّ رفع رأسه وقد حضره الموت فغمّضه وربط لحييه وغطّى عليه بملحفة (١) وجزع عليه ، فلما رأى الأرقط ذلك وهو ابن عمّ الإمام قال له : يا أبا عبد الله قد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعزيه بذلك ، فارتدع عن الجزع ثمّ صدّقه وشكره (٢).

ثمّ أمر بتهيئته ، فلما فُرغ من أمره دعا بكفنه وكتب في حاشية الكفن : إسماعيل يشهد أن لا إله إلّاالله (٣) ودخل عليه زرارة بن أعين الرومي مولى بني شيبان فقال له : يا زرارة جئني بأخيك حُمران وأبي بصير وداود الرقي ، قال : فخرجت فاحضرت من أمرني بإحضاره ، ودخل عليه المفضل بن عمر ولم يزل يدخل الناس واحداً واحداً حتّى صرنا في البيت ثلاثين رجلاً ، فلما احتشد المجلس قال لداود : يا داود ، اكشف لي عن وجه إسماعيل! فكشف عن وجهه ، فقال له : يا داود ، أحيٌّ هو أم ميت؟! قال داود : يا مولاي هو ميت! فجعل يعرض ذلك على رجل رجل حتّى أتى على آخر من في المجلس وكل يقول : هو ميت يا مولاي! فقال : اللهمّ اشهد.

ولما فرغوا منه قال للمفضل : يا مفضل ، احسَر عن وجهه! فحسر عن وجهه فكرّر : أحيٌّ هو أم ميت؟ قال : ميت! قال : اللهمّ اشهد عليهم.

ثمّ حُمل إلى قبره ، فلما وُضع في لحده قال للمفضل : يا مفضل ، اكشف عن وجهه ، وقال للجماعة : أحي هو أم ميت؟! قلنا له : ميت ، فقال : اللهم اشهد ، واشهدوا ، فإنه سيرتاب المبطلون. ثمّ تلا قوله سبحانه : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) وكان ابنه موسى عنده فأومى إليه وتلا : (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ

__________________

(١) كمال الدين : ٧٢ و ٧٣ عن أبي كهمس.

(٢) كمال الدين : ٧٢.

(٣) كمال الدين : ٧٢ و ٧٣ عن أبي كهمس.

٢٧٨

الْكَافِرُونَ (١)) ثمّ حثونا عليه التراب ، ثمّ أعاد علينا القول فقال : هذا الميت المحنّط المكفّن المدفون في هذا اللحد من هو؟ قلنا : إسماعيل. قال : اللهم اشهد.

ثمّ أخذ بيد ابنه موسى وقال : هذا هو الحق والحق معه إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.

ثمّ قال : والله ليظهرن عليكم صاحبكم وليس في عنقه لأحد بيعة. ولا يظهر صاحبكم حتّى يشك فيه أهل اليقين! ثمّ تلا قوله سبحانه : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيم* أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٢)) وأرخى نفسه عند القبر فقعد وقال : رحمك الله وصلّى الله عليك وقال : هكذا صنع رسول الله بولده إبراهيم (٣).

ثمّ لما فرغوا من جنازته جلس الإمام وجلسوا حوله فرفع رأسه وقال فيما قال : على أن لفراق المألوف حرقةً لا تدفع ولوعةً لا تُردّ ، وإنما يتفاضل الناس بحسن العزاء وصحّة الفكر .. ثمّ تمثّل بقول الشاعر :

فلا تحسبن أني تناسيت عهده

ولكنّ صبري ـ يا اميمُ ـ جميل (٤)

وقال : إني سألت الله في إسماعيل أن يبقيه بعدي فأبى (٥) وهذا أعم من الإمامة ، ولكن :

جاء في أصل زيد النرسي عنه عليه‌السلام قال : إني ناجيت الله في إسماعيل ابني أن يكون من بعدي ، فأبى ربي إلّاأن يكون ابني موسى.

__________________

(١) الصف : ٨.

(٢) كتاب الغيبة للنعماني : ٢٢٧ ، ٢٢٨ ، أرسله أولاً ثمّ ذكر طرقه إليه ، وأرسله الحلبي في مناقب آل أبي طالب ١ : ٣٢٧ في الردّ على السبعية الاسماعيلية في الإمامة.

(٣) الكافي ٣ : ١٩٤ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٢٦٤.

(٤) كمال الدين : ٧٣.

(٥) اختيار معرفة الرجال : ٢١٧ ، الحديث ٣٩١.

٢٧٩

وفيه أيضاً : ما زلت أبتهل إلى الله عزوجل في إسماعيل ابني أن يحييه لي فيكون القيّم من بعدي ، فأبى ذلك ربّي ، وإنّ هذا شيء ليس إلى الرجل منا أن يضعه حيث يشاء ، وإنما ذلك عهد من الله عزوجل يعهده إلى من يشاء ، فشاء الله أن يكون ابني موسى وأبى أن يكون إسماعيل.

وانفرد هذا بما اشتهر أنّه قال : ما بدا لله بَداء أعظم من بداء بدا له في إسماعيل ابني (١).

وإنما البَداء بمعنى الظهور بعد الخفاء لا بعد النصّ ، نعم يظهر من الخبر التالي أن بعضهم كان ادّعى ذلك على الصادق عليه‌السلام فكذّبه : روى النعماني بسنده عن الوليد بن صُبيح قال له : إنّ عبد الجليل حدّثني بأنك كنت أوصيت إلى إسماعيل قبل موته بثلاث سنين؟ فقال عليه‌السلام : يا وليد ، لا والله ، فإن كنتُ فعلت فإلى موسى (٢).

ومع ذلك تمسك الزيدية بخبر البداء على بطلان أخبار «الأئمة اثنا عشر» وأنّ الصادق عليه‌السلام قد نصّ على إسماعيل ، كما ذكر اعتراضهم الصدوق.

ثمّ أجابهم : بمَ قلتم : إنّ جعفر بن محمد عليه‌السلام نصّ على إسماعيل بالإمامة؟ وما ذلك الخبر؟ ومن رواه؟ ومن تلقّاه بالقبول؟ ولن يجدوا إلى ذلك سبيلاً. وإنما هي حكاية من قال بإمامة إسماعيل وليس لها أصل. أما الخبر بذكر «الأئمة الاثني عشر» فقد رواه الخاص والعام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام. وأما قوله : «ما بدا لله في شيء كما بدا له في ابني إسماعيل» فإنه يقول : ما ظهر أمر من الله كما ظهر منه في ابني إسماعيل إذ اخترمه في حياتي ليُعلم بذلك أنه ليس بإمام بعدي.

__________________

(١) أصل زيد النرسي (ضعيف) في الأُصول الستة عشر : ٤٩ وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٢٦٩.

(٢) كتاب الغيبة للنعماني : ٢٢٦.

٢٨٠