موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

وإنّما قال بهذا بعد وفاة الباقر عليه‌السلام ، وأظهر المقالة بذلك ، فبرئ منه الصادق عليه‌السلام فبرئت منه «الشيعة» ورفضوه ، فهو سمّاهم «الرافضة» فهو أوّل من سمّاهم بها!

ثمّ ترقى الأمر بالمغيرة إلى أن زعم أنّه رسول نبيّ وأنّ جبرئيل يأتيه بالوحي من عند الله! فأخذه خالد القسري فسأله عن ذلك فأقرّ به ودعاه إليه! فاستتابه خالد فأبى أن يرجع من قوله (١).

وروى الطبري عن سليمان بن مهران الأعمش قال : كان المغيرة بن سعيد يخرج إلى المقبرة فيتكلّم (بكلمات) فيُرى على القبور مثل الجراد! وسمعته يقول : لو أردت أن أُحيي عاداً وثمود وقروناً بين ذلك كثيراً لأحييتهم (٢)! وصحّحه الدينوري : قال الأعمش : قلت للمغيرة : هل كان عليّ يُحيي الموتى؟ فقال : لو شاء لأحيا عاداً وثمود وقروناً بين ذلك كثيراً! وكان صاحب نيرنجات (٣).

ذكروا أنّه كان مولى بجيلة ، ونصّ النوبختي أنّه كان مولى خالد القسري البجلي (٤) فهو ليس العجلي كما قالوا! بل البجليّ مولاهم بل مولى القسري وجاسوسه المدسوس بين بني علي عليه‌السلام ليدسّ الكفر في كتب الأخبار من أنصارهم كما مرّ عن الصادق عليه‌السلام ، وليشقّوا به عصاهم ، وليشرخوا به شرخاً بين أتباعهم ومذهبهم كما فعلوا ذلك فعلاً ، فلمّا قضوا به وطرهم قضوا عليه قبل أن يكشف نفسه فيكشفهم ، كان كلّ ذلك عام (١١٩ ه‍).

__________________

(١) فرق الشيعة : ٦٢ و ٦٣ ، وفي المقالات والفرق : ٧٦ و ٧٧ وفيهما : فقتله وصلبه!

(٢) تاريخ الطبري ٧ : ١٢٨.

(٣) عيون الأخبار ٢ : ١٤٨ ، والنيرنج معرّب نيرنگ بالفارسية أي الحيلة.

(٤) فرق الشيعة : ٦٣ ، وفي المقالات والفِرق : ٧٧.

١٠١

تسليط الثقفي لتسقيط القسري :

لمّا دخلت سنة العشرين بعد المئة للهجرة بلغت عن خالد إلى هشام أُمور أنكرها ، منها : أنّه فرّق في من أراد مبلغ ستة وثلاثين ألف ألف (مليون) درهم! فاستعظمها. ومنها : أنّ خالداً كأنه سمع قائلاً يشير إلى تشريفه ببني امية فقال : ما زادت امية في شرف قَسر (قبيلته) إلّاهكذا! وجمع بين إصبعيه!

فلمّا بلغ هشاماً ذلك كتب إليه : «أمّا بعد ؛ فقد بلغني مقالتك ؛ وإنّما أنت من بَجيلة ، الحقيرة الذليلة! وستعلم ـ يابن النصرانية ـ أنّ الذي رفعك سيضعك»!

وكان الناظر في أُمور خالد : حسّان النبطي فاستحضره هشام وحلف له بالله الذي لا إله إلّاهو ليصدقنّه أو ليقتلنّه! فأتاه حسّان بصناديق وقائع على خالد وفيها : أنّه فرّق فيمن أراد ستة وثلاثين ألف ألف درهم! فاستعظمها هشام.

وكان عامل هشام على اليمن يوسف بن عمر الثقفي ، فكتب إليه هشام كتاباً بخطّ يده لم يُطلع عليه أحداً يأمره بالنفوذ إلى العراق ساتراً خبره حتّى يقدمها ، فيقبض على خالد وأصحابه ، فيأخذه بستة وثلاثين ألف ألف درهم.

فاستخلص يوسف سبعة نفر واستسرّ أمرهم حتّى قدم بهم العراق سنة (١٢٠ ه‍) عشيّة قبل صلاة العشاء. وخلّف على رحالهم اثنين وصار إلى المسجد الجامع في خمسة نفر وقف بهم قبال المحراب ، فلمّا اقيمت الصلاة تقدّم خالد ليصلّي ، فتقدم إليه يوسف فأخرجه من المحراب وتقدّم وأحرم وقرأ بعد الفاتحة الواقعة ، وفي الثانية بعد الفاتحة : «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ» (١) ثمّ أقبل على الناس بوجهه فعرّفهم نفسه (٢) وقرأ عليهم كتاب هشام إليه ، ودخل هو وأصحابه

__________________

(١) يلاحظ أنّه أتمّ السورتين ولم يكتفِ ببعضها.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

١٠٢

دار الإمارة وأخذ أصحاب خالد ونزعه ثيابه وملابسه وألبسه جبّة صوف وجمع يديه إلى عنقه بقيود جامعة ، وحبسهم يطالبهم بالستة والثلاثين مليون درهم.

وبلغ ذلك الناس فاجتمع جماعة دهاقين العراق ومياسير الناس وقالوا ليوسف : نحن نتحمّل هذا المال عن خالد ونؤدّيه. فقبل يوسف ذلك منهم ، فلمّا حملوا المال إليه عاد فطالب خالداً بالمال.

وعزل يوسف طارق بن أبي زياد عامل خالد على فارس وطالبه بعشرين مليوناً ، وعزل الزبير عامل خالد على إصفهان والريّ وقومس وطالبه بمثله ، وعزل أبان بن الوليد البجلي وطالبه بعشرة ملايين ، وعزل بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عامل خالد على البصرة وسجنه يطالبه بمثله ، فهرب من سجنه إلى هشام بالشام ، فأعاده هشام إلى يوسف فعذّبه حتّى قتله ، واستصفى داره بالبصرة وجعل داره بالكوفة سجناً! وكان الحكم بن عوانة عامل خالد على السند ومعه عمرو بن محمد بن القاسم الثقفي ، فلمّا بلغ الحكم أخبار يوسف استخلف الثقفيّ على الخيل وأوغل بخيله في بلاد السند ولم يزل يقاتل حتّى قتل (١).

فروى الأموي الزيديّ بثلاثة طرق : أنّ خالداً ادّعى (بالتعذيب) أموالاً على رجال من بني هاشم وغيرهم ، أحدهم من خؤولة هشام من بني مخزوم هو أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة المخزومي ، فاجتنبوه لخؤولته لهشام فلم يؤاخذ بشيء من ذلك. وثانيهم من بني زهرة هو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ، ومن بني هاشم هم : داوود بن علي بن عبد الله بن العباس ، ومحمّد بن عمر بن علي بن أبي طالب ، وزيد بن علي عليهما‌السلام ، فكتب يوسف بهم إلى هشام (٢).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٣ ـ ٣٢٤.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٩٠.

١٠٣

زيد عند هشام بالشام :

فروى الأموي الزيديّ بطرقه الثلاثة : أنّ هشاماً كان يومئذ بالرُّصافة من رقة الشام ، وأنّ زيداً كان قد تخاصم مع (عبد الله) بن الحسن بن الحسن على ولاية صدقات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى هشام بالرُّصافة ، ومع زيد محمّد بن عمر بن علي بن أبي طالب (١).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٩٠ وفيه : الحسن بن الحسن ، وصحّحناه من الطبري ٦ : ١٦٣ وفي : ١٦١ : بني الحسن بن الحسن. و (بني) محذوفة من المقاتل. ومحمّد بن عمر بن علي كان قد صاهر ابن عمّه السجّاد عليه‌السلام كما في قاموس الرجال ٩ : ٤٨٨. وعلي عليه‌السلام أوقف عيونه السبعة صدقة في مرجعه من صفّين وجعل ولايتها وولاية صدقات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أبنائه من بني فاطمة عليها‌السلام ، فتولّاها بعد الحسين عليه‌السلام ابن أخيه وصهره الحسن المثنّى ، كما في الإرشاد ٢ : ٢٣ عن الزبير بن بكار ولكن في نسب قريش : ٤٦ ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٧٤ ثمّ ابنه جعفر بن الحسن ، فخاصمه عن بني الحسين زيد بن علي إلى الوالي إبراهيم بن هشام المخزومي (ق ١١٤ ه‍) فلمّا مات جعفر قال عبد الله بن الحسن : من يكفينا زيداً؟ فقال الحسن المثلث : أنا أكفيكه! قال : كلّا إنّا نخاف لسانك ويدك ، ولكنّي أنا. فتنازعا إلى الوالي. حتّى ولّى هشام خالد بن عبد الملك بن الحارث الأموي المدينة بعد إبراهيم المخزومي (عام ١١٤ ه‍ إلى ١١٩ ه‍ : تاريخ خليفة : ٢٣٢) فتنازعا (الطبري ٧ : ١٦٣ ـ ١٦٤) ثمّ شخص زيد إلى هشام بن عبد الملك فلم يأذن له ، فجعل يرفع إليه القصص ويكتب هشام في أسفلها : ارجع إلى أميرك ، حتّى أذن له يوماً بعد مدّة طويلة (الطبري ٧ : ١٦٥) وروى عن أبي عبيدة القاسم بن سلّام البصري : أنّ يوسف بن عمر عذّب خالد بن عبد الله فادّعى خالد أنّه استودع داوود بن علي وزيد بن علي وآخرَين من قريش : جمحي ومخزومي مالاً عظيماً. فكتب يوسف بذلك إلى هشام ، فكتب هشام إلى (ابن خاله محمّد) ابن إبراهيم بن هشام المخزومي وهو عامله على المدينة (١١٩ ه‍ ـ ١٢٦ ه‍ : تاريخ خليفة : ٢٣٢) يأمره بحملهم إليه.

١٠٤

فلمّا وصل كتاب يوسف إلى هشام أحضرهم فذكر لهم ما كتب به يوسف إليه فأنكروا ، فقال لهم هشام : فإنّا باعثون بكم إلى يوسف يجمع بينكم وبين خالد (١)!

وقال اليعقوبي : إنّ هشاماً أقدم زيداً فقال له : إنّ يوسف بن عمر الثقفي في الكوفة كتب إليّ يذكر أنّ خالد بن عبد الله القَسري ذكر له أنّ له عندك وديعة ستمئة ألف درهم! فقال زيد : ما لخالد عندي شيء! قال : فلابدّ من أن تشخص إلى يوسف بن عمر حتّى يجمع بينك وبين خالد! قال : لا تُوجّه بي إلى عبد ثقيف! يتلاعب بي! فقال : لابدّ من إشخاصك إليه! فكلّمه زيد بكلام كثير ، فقال له هشام : لقد بلغني أنّك تؤهّل نفسك للخلافة وأنت ابن أمة!

فقال له زيد : ويلك! أمكان امّي يضعني؟! والله لقد كان إسحاق ابن حرّة وإسماعيل ابن أمة ، فاختصّ الله «عزوجل» ولد إسماعيل فجعل منهم العرب ، فما زال ذلك يُنمى حتّى كان منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ثمّ قال له : اتّقِ الله يا هشام! (كذا بلا لقب) فقال : أوَ مثلك يأمرني بتقوى الله؟! فقال : نعم! إنّه ليس أحد دون أن يأمر بها ، ولا أحد فوق أن يسمعها! فأمر هشام بإخراجه فأخرجوه وهو يقول : والله إنّي لأعلم أنّه ما أحبّ الحياة أحد قطّ إلّا ذلّ (٢).

__________________

فدعا (محمّد بن) إبراهيم زيداً وداوود فسألهما عمّا ذكر خالد ، فحلفا ما أودعهما خالد شيئاً ، فصدّقهما وقال : لكن كتاب أمير المؤمنين قد جاء بما تريان فلابد من إنفاذه ، فحملهما إلى الشام (الطبري ٧ : ١٦٢).

(١) مقاتل الطالبيين : ٩٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٥.

١٠٥

ومع وجود أصل الكتاب المعروف بمقاتل الطالبيين بخطّ أبي الفرج الإصفهاني لدى المفيد (١) ما أفاد شيئاً عن علّة وصول زيد عند هشام إلّاأ نّه قال : جمع له هشام أهل الشام وأمرهم أن يتضايقوا في المجلس حتّى لا يتمكّن زيد من الوصول إليه ، ودخل زيد عليه فقال له : إنّه ليس من عباد الله أحد فوق أن يوصى بتقوى الله ، ولا من عباده أحد دون أن يوصى بتقوى الله ، وأنا أُوصيك بتقوى الله فاتّقه يا أمير المؤمنين (٢).

فقال له هشام : أنت المؤمّل نفسك للخلافة الراجي لها (٣) فما أنت وذاك ـ لا أُمّ لك ـ وإنّما أنت ابن أمة!

فقال له زيد : إنّي لا أعلم أحداً أعظم منزلة عند الله من نبيّ بعثه الله وهو ابن أمة ، فلو كان ذلك يُقصّر عن منتهى غاية ، لم يُبعث ، وهو إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام ، فالنبوة أعظم منزلة عند الله أم الخلافة يا هشام! (كذا بلا لقب) وبعدُ فما يقصر برجل أبوه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ابن علي بن أبي طالب؟!

فوثب هشام من مجلسه ودعا بقهرمانه لإخراجه ، فخرج زيد وهو يقول : إنّه لم يكره قوم قط حرّ السيوف إلّاذلّوا (٤).

ورووا عن زيد قال : شاهدت هشاماً ورجل عنده يسبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ١٩٠.

(٢) ولا محمل له إلّاالتقية ، فكيف ينكرها الزيدية؟!

(٣) ممّا يدلّ على سبق ذلك قبل سفرته هذه بعد وفاة أخيه الباقر عليه‌السلام ، وعليه فالقضية سياسية ولست مالية ، وإنّما هي شكلية صورية لتشويه الصورة.

(٤) الإرشاد ٢ : ١٧٢ ـ ١٧٣ ، وقبله مثله في مروج الذهب ٣ : ٢٠٦. ولعلّه من الكلام الكثير المذكور في قول اليعقوبي السابق.

١٠٦

فقلت له : ويلك يا كافر ؛ أما إنّي لو تمكّنت منك لاختطفت روحك وعجّلت بك إلى النار! فقال لي هشام : يا زيد ؛ مَه عن جليسنا (١). فلم ينكر ذلك ولم يغيّره (٢).

وانفرد بالرواية عن ابن منبّه بأنّ هشاماً أمر بضرب زيد ثمانين سوطاً (٣).

ثمّ حمل زيداً إلى الكوفة :

روى الأموي الزيديّ بطرقه الثلاثة : أنّ هشاماً دعا كاتبه فأمره أن يكتب إلى يوسف بن عمر الثقفي في الكوفة : أمّا بعد ، فإذا قدم عليك زيد و... فاجمع بينهم وبين (خالد القسري) فإن أقرّوا بما ادّعى عليهم فسرّح بهم إليّ! وإن هم أنكروا فاسأل (خالداً) البيّنة ، فإن لم يقمها فاستحلفهم بعد صلاة العصر بالله الذي لا إله إلّاهو ما استودعهم (خالد) وديعة ولا له قبلهم شيء ، ثمّ خلّ سبيلهم.

فقالوا لهشام : إنّا نخاف أن يتعدّى كتابك ويطول علينا! قال : كلّا أنا باعث معكم رجلاً من الحرس ليأخذه بذلك ويعجل حتّى يفرغ.

ثمّ سرّح بهم إلى يوسف ، وكان يومئذ بالحيرة ، فلمّا قدموا عليه ودخلوا وسلّموا ، أجلس زيداً قريباً منه ولاطفه في المسألة ؛ ثمّ سألهم عن الأموال فانكروا ، فأمر يوسف بإخراج خالد إليهم ، فلمّا جيء به قال له يوسف : يا خالد ، هذا زيد بن علي وهذا محمّد بن عمر بن علي اللذان ادّعيت قِبلهما ما ادّعيت. قال : مالي قِبلهما قليل ولا كثير! فقال له يوسف : أفَبي كنت تهزأ أم بأمير المؤمنين (٤)؟!

__________________

(١) تيسير المطالب : ١٠٨ ـ ١٠٩ ، الباب ٧.

(٢) كشف الغمة ٣ : ١٢٣ عن دلائل الإمامة للحميري.

(٣) تذكرة الخواص ٢ : ٤١٥ ونبّه على أنّ المخاصِم لزيد كان عبد الله بن الحسن المثنّى وهو الصحيح.

(٤) مقاتل الطالبيين : ٩٠ ـ ٩١.

١٠٧

ورواه الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف ، ثمّ قال : وقال عطاء بن مسلم الخفّاف : إنّ زيداً قال ليوسف : أنّى يودعني خالد مالاً وهو يشتم آبائي على منبره (بمكّة) فأرسل يوسف فأحضر خالداً في عباءة وقال له : هذا زيدٌ ، وقد زعمت أنّك قد أودعته مالاً ، وقد أنكر! فنظر خالد في وجههما ثمّ قال ليوسف : أتريد أن تجمع مع إثمك فيّ إثماً في هذا؟! وكيف اودعه مالاً وأنا أشتم آباءه على المنبر (بمكّة) فشتمه يوسف ثمّ أمر بردّه.

وعن أبي عبيدة معمّر بن المثنّى البصري قال : قال له يوسف : فهل عندك بيّنة بما ادّعيت؟ قال : لا ، فقالوا له : فما دعاك إلى ما ادّعيت؟ قال : غلّظ يوسف العذاب عليّ فادّعيت ما ادّعيت وأمّلت أن يأتي الله بفرج قبل قدومكم (١).

وقال اليعقوبي : قال زيد ليوسف : لِم أشخصتني من عند أمير المؤمنين (!) قال يوسف : ذكر خالد بن عبد الله أنّ له عندك ستمئة ألف درهم! قال زيد : فأحضِر خالداً. فأحضَره وعليه حديد ثقيل ، فقال له يوسف : هذا زيد بن علي فاذكر ما لك عنده! فقال خالد : والله الذي لا إله إلّاهو مالي عنده قليل ولا كثير ، ولا أردتم بإحضاره إلّاظلمه (٢)!

ثمّ أخرج يوسف زيداً ومن معه إلى المسجد بعد صلاة العصر استحلفهم فحلفوا له. فكفّ عن زيد ولكنّه بسط يده على من سواه منهم فلم يقدر منهم على شيء ، فكتب إلى هشام يعلمه الحال. فكتب إليه هشام : أن خلِّ سبيلهم (٣).

وكتب إليه : «إذا جمعت بين زيد وبين خالد فلا يقيمنّ عندك ساعة واحدة! فإنّي رأيته رجلاً حلو اللسان سديد البيان خليقاً بتمويه الكلام! وأهل العراق

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ١٦٦ ـ ١٦٧.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٥.

(٣) تاريخ الطبري ٧ : ١٦٢ عن أبي مخنف.

١٠٨

أسرع شيء إلى مثله». فأقبل يوسف على زيد وقال له : إنّ أمير المؤمنين! أمرني أن اخرجك من الكوفة ساعة قدومك! قال : فأستريح ثلاثاً؟ قال : ما إلى ذلك سبيل! قال : فيومي هذا؟! قال : ولا ساعة واحدة! فأرسل معه رسلاً أخرجوه وتمثّل يقول :

منخرق الخُفّين يشكو الوجأ

تنكبه أطراف مرو حِداد

شرّده الخوف وأزرى به

كذاك من يكره حرّ الجِلاد

قد كان في الموت له راحة

والموت حتم في رقاب العباد

فبلغ رسل يوسف بزيد إلى عُذيب الهجانات ثمّ انصرفوا (١).

وعاد إلى البلاد :

ولحقه قوم من «الشيعة» فقالوا له : إنّا نرجو أن تكون المنصور! وأن يكون هذا الزمان زمان هلاك بني أُمية! فاطّلع على أمره داود بن علي فقال له : يا أبا الحسين : إنّ أهل الكوفة أصحاب عليّ وأصحاب الحسين ، فاحذرهم! وصدّقه محمّد بن عمر بن علي فلم يقبل (٢).

وقال لهما : اعزلوا متاعي عن متاعكم ، وذلك بالقادسية. فقال له محمّد بن عمر : ما تريد؟ قال : أُريد أن أرجع إلى الكوفة ، فوالله لو علمت أنّ رضا الله «عزوجل» عنّي في أن أقدح ناراً بيدي حتّى إذا اضطرمت رميت نفسي فيها لفعلت! وما أعلم شيئاً أرضى لله «عزوجل» عنّي من جهاد بني امية (٣)! فرجع معهم إلى الكوفة ومعه ابنه يحيى ، ورجع من معه إلى المدينة.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

(٢) أنساب الأشراف ٤ : ٢٤٤ ، الحديث ٢٤٦.

(٣) تيسير المطالب : ١٠٨ ـ ١٠٩ ، الباب ٧.

١٠٩

وفصّل الطبري عن أبي عُبيدة قال : اتبعه «الشيعة» إلى الثعلبية ، وقالوا له : نحن أربعون ألفاً لا يتخلّف عنك أحد! فقال له داود بن علي : يابن عم ، إنّ هؤلاء يغرّونك من نفسك! أليس قد خذلوا من كان أعزّ عليهم منك : جدّك علي بن أبي طالب ، حتّى قُتل! وبايعوا الحسن من بعده ثمّ وثبوا عليه فانتزعوا رداءه من عنقه وانتهبوا فُسطاطه وجرحوه! أو ليس قد أخرجوا جدّك الحسين وحلفوا له بأوكد الأيمان ، ثمّ خذلوه وأسلموه ، ثمّ لم يرضوا بذلك حتّى قتلوه! فلا ترجع معهم.

فقال زيد لداوود : إنّ علياً كان يقاتله معاوية بدُهائه ونكرائه بأهل الشام ، وإن الحسين قاتله يزيد بن معاوية والأمر مُقبل عليهم.

فقال داوود : إني لخائف إن رجعت معهم أن لا يكون أحد أشدّ عليك منهم ، وأنت أعلم.

فقالوا له : إنّ هذا يزعم أنّه وأهل بيته أحقّ منكم بهذا الأمر ، ولا يريد أن تظهر أنت!

فمضى داوود (ومحمّد بن عمر) إلى المدينة ، ورجع زيد معهم الكوفة (١) ومعه ابنه يحيى.

ولم يكن عبد الله بن الحسن ممّن اتّهم على لسان خالد القسري ، فلم يكن معهم إلى الكوفة بل عاد من الشام إلى المدينة ، فلمّا عاد هؤلاء إلى المدينة وعلم بعودة زيد إلى الكوفة كتب إليه : يابن عم ، إنّ أهل الكوفة نُفُخ العلانية خائروا السريرة ، يهيجون في الرخاء ويجزعون في اللقاء ، يتقدّمون بألسنتهم ولا تشايعهم قلوبهم ، لا يبيتون بعُدّة ولا يبوؤن بدولة!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٦٧ ـ ١٦٨.

١١٠

ولقد تواترت إليّ كتبهم بدعوتهم فصممت عن ندائهم ، وألبست قلبي غشاءً عن ذكرهم ، يأساً منهم وإطّراحاً لهم. وما لهم مثَل إلّاكما قال علي بن أبي طالب : «إن اهملتم خُضتم ، وإن حوربتم خُرتم ، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم وإن أجبتم إلى مشاقّة نكصتم» (١).

ولم يُعلم عن الصادق عليه‌السلام أيّ شيء مثل هذا.

منازله ومصاهرته ودعوته وبيعته :

قال البلاذري : نزل بالكوفة في منزل حُميد بن دينار من موالي بني أحمس ، ثمّ في منزل نصر بن خُزيمة العبسي ، ثمّ تحوّل إلى منزل نصر بن عبد الرحيم البارقي ثمّ إلى بني يربوع ثمّ بني بكر بن وائل (٢).

وزاره في بعض هذه الدور شيعة الكوفة رجالاً ونساءً ، ومنهن من الأزد أُمّ عمرو ابنة الصلت الأزدي أرملة عبد الله بن أبي العنبس الأزدي وكانت ترى رأي «الشيعة» فبلغها مكان زيد فأتته لتسلّم عليه ، وهي امرأة أرملة مسنّة ولكنّها جميلة جسيمة ولا يتبيّن عليها عمرها ، وهي حجازية فصيحة ، فسألها عن نسبها فأخبرته ، فخطبها فعرضت عليه ابنتها ، فواعدها موعداً ثمّ ذهب إليها فتزوّج ابنتها ، فولدت له جارية ماتت بعد ذلك (٣) فكان ينزل فيهم أيضاً.

__________________

(١) تاريخ الطبري عن النُميرى البصري ٧ : ١٦٩ وأنساب الأشراف ٤ : ٢٤٩. والخطبة في نهج البلاغة : ١٧٩. وخبر الكتاب عن أبي إسحاق الإصفهاني!

(٢) أنساب الأشراف ٤ : ٢٤٦ ، الحديث ٢٤٧.

(٣) روى البلاذري : أنّ يوسف الثقفي بعد قتل زيد جاء بيعقوب هذا وطلب منه ابنته زوجة زيد فأبى أن يأتيه بها فقتله! ثمّ طلبها من عرّيفهم فأبى فكسر يديه ورجليه! أنساب الأشراف ٤ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥ ، الحديث ٢٧٤.

١١١

وتزوّج اخرى ابنة يعقوب بن عبد الله السُلمي من بني فرقد (١) ، فكان ينزل فيهم أيضاً.

وينزل في بني غُبر ، ثمّ إلى دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري الكلبي في بني سلول ، وفي بني نهد ، وبني تغلب. وأقبلت «الشيعة» يختلفون إليه ويبايعونه في أكثر من عشرة أشهر ، حتّى أحصى ديوانه خمسة عشر ألف رجل من الكوفة. وأرسل إلى أهل السواد وحتّى الموصل رجالاً يدعون إليه ، وصار هو إلى البصرة شهرين ثمّ عاد إلى الكوفة.

وكانت دعوته لبيعته : إنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجهاد الظالمين ، والدفع عن المستضعفين ، وإعطاء المحرومين ، وقسم الفي بالسواء وردّ الظالمين ، وإقفال المجمَّرين (المجاهدين في الثغور) ونصرنا «أهل البيت» على من جهل حقّنا و «نصب» لنا. فهل تبايعون على ذلك؟

فإذا قالوا : نعم ، وضع يده على يد الرجل وقال له : عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله لتفينّ ببيعتي ، ولتقاتلنّ عدوّي ، ولتنصحنّ في السرّ والعلانية! فإذا قال : نعم ، مسح يده على يده ودعا : اللهمّ اشهد (٢)! ويقول لهم :

__________________

قال : وامرأة أعانت زيداً فأمر بقتل زوجها وبقطع يديها ورجليها ، فقالت : اقطعوا رجلي أوّلاً حتّى أجمع عليّ ثيابي! فقطع يدها ورجلها فنزفت حتّى ماتت ، ثمّ قتل زوجها!

(١) روى البلاذري : أنّ يوسف الثقفي بعد قتل زيد بعث فهدم دارها وحُملت إليه فأمر بشق ثيابها عليها فصاحت عليه : ما أنت بعربي! أتعرّيني وتضربني لعنك الله! فأمر بجلدها حتّى ماتت تحت السياط ، فأمر أن تُلقى في العَراء! فأخذها قومها الأزد ودفنوها بين قبورهم. أنساب الأشراف ٤ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥ ، الحديث ٢٧٤.

(٢) تاريخ الطبري ٧ : ١٧١ ـ ١٧٣ وفي أنساب الأشراف ٤ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦ ، الحديث ٢٤٧ وهو خبر الكلبي عن أبي مخنف.

١١٢

قولوا : خرجنا غضباً لله ودينه ، ولا تقولوا : خرجنا غضباً لكم!

وكتب إلى الآفاق كتباً يصف فيها جور بني أُميّة وسوء سيرتهم ، ويحثّهم على الجهاد ويدعوهم إليه.

وبعث إلى سليمان بن مهران الأعمش (م ١٤٨ ه‍) فقال معتذراً : لو وثقت بثلاثمئة رجل منهم لغيّرنا لك جوانبها!

وبعث إلى زبيد بن الحارث اليامي الهمداني يدعوه إلى الجهاد معه فقال للرسول : أخبره أنّ نصرته حقّ وحظّ ، ولكنّي أخاف أن يُخذل كما خُذل جدّه الحسين عليه‌السلام.

وأجابه من فقهائهم (الموالي) : أبو هاشم الرماني يحيى بن دينار ويزيد بن أبي زياد مولى بني هاشم (م ١٣٧ ه‍) وهاشم بن البريد ، وبعث إلى أبي حنيفة النعمان فسأل عن الفقهاء معه فاخبر بهم ، فبعث إليه بمال وقال : لست أقوى على الخروج (١).

وكتب إلى قاضي المدائن : هلال بن خبّاب فأجاب (٢).

وكان زيد قد حفظ على الكميت بن زيد الأسدي البصري قصيدته التي أنشأها وأنشدها للباقر عليه‌السلام :

ما لقلب متيمّ مستهام

غير ما صبوةٍ ولا أحلام

__________________

(١) أنساب الأءاف ٤ : ٢٤٧ ، الحديث ٢٤٩. وقال الخوارزمي الحنفي في مناقب ابي حنيفة ١ : ٢٥٥ ط الهند : قال أبو حنيفة : إنّه إمام حقّ ، ولو علمت أنّ الناس لا بسم الله الرحمن الرحيم ذلونه كأ خذلوا آباءه كاهدت معه! وقال للرسول (الفضل بن الزبف الأسدي) ابسط عذري عنده وأرسل معه مالاً (ثلاثغ ألف دينار أو درهم) فقيل له : فهرس اًلّفت عنه؟ قال : فبكى وقال : عرضت ودائع الناس عندي عط أض ليط فلم يقبل! فخفت أن أموت ث هلاً؟!

(٢) أنساب الاشراف ٤ : ٢٤٦ ، الحديث ٢٤٧ ، وراجع عنوان : من بايعه من الفقهاء ص كتاب زيد اللاك يد للمقرّم : ١٢٧ ـ ١٣١.

١١٣

ومنها يقول للباقر عليه‌السلام :

ما ابالي ـ إذا حفظت أبا القا

سم فيكم ـ ملامةَ اللُوّام

وكان الكميت أعمش العين فكتب الأموي الزيدي أنّ زيداً كتب إليه :

أن اخرج معنا يا اعيمش ؛ ألست القائل ... وذكر له البيت ، فكتب الكميت إليه معتذراً منه :

تجود لكم نفسي بما دون وثبة

تظلّ لها الغربان حولي تحجّلُ (١)!

فأشعره أنّ شجاعة الشاعر في شعوره وأشعاره وإشعاره! وليس إلى حدّ الاستشهاد!

إلى الرضى من آل محمّد :

وليس في هذه الأخبار أيّ دعوة إلى الإمام الصادق عليه‌السلام بظاهر الكلام أو بكناية : «الرضا من آل محمّد» أيّ الرضى المرضيّ منهم ، ممّا ظاهره الدعوة لنفسه.

وهذا ما جاء في خبر أنّه عرضه المأمون العباسي على الرضا عليه‌السلام ظاناً أنّ زيداً ممّن ادّعى الإمامة بغير حقّها وأ نّه ادّعى ما ليس حقاً له. فأجابه الرضا عليه‌السلام :

إنّما جاء ما جاء في من ادّعى الإمامة بغير حقها ، في من يدّعي أنّ الله تعالى

__________________

(١) عن الأغاني ١٧ : ٣٤ في ترجمة الكميت. وندم بعد مقتل زيد فقال :

دعاني ابن الرسول فلم أُجبه

فلهفي اليوم للرأي الغبين

على ألا أكن عاضدت زيداً

حفاظاً لابن آمنة الأمين

دعاني ابن الرسول فلم أُجبه

أيا لهفي على القلب الفروق

حذارَ منيّة لابُدّ منها

وهل دون المنيّة من طريق؟!

كما في أنساب الأشراف ٤ : ٢٤٠ ، الحديث ٢٤١.

١١٤

نصّ عليه ، ثمّ يدعو إلى غير دين الله فيضلّ عن سبيله بغير علم. وكان زيد أتقى لله من ذلك ، إنّه قال : أدعوكم إلى الرضا من آل محمّد ، فلقد حدّثني أبي موسى بن جعفر : أنّه سمع أباه جعفر بن محمّد عليهما‌السلام يقول : رحم الله عمّي زيداً ، إنّه دعا إلى الرضا من آل محمّد (١).

وزاد العياشي عنه عليه‌السلام : وأنا الرضا. ثمّ قال العياشي : وتصديق ذلك ما حدثنا به عليّ بن الحسن عن عامر بن عيسى السيرافي بمكّة في ذي الحجّة سنة (٣٨١ ه‍) بسنده عن المتوكّل بن هارون البجلي : أنّه لقى يحيى بن زيد فقال له :

يابن رسول الله! إنّ أباك ادّعى الإمامة وخرج (لذلك) وقد جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في من ادّعى الإمامة كاذباً!

فقال : مه يا عبد الله إنّ أبي كان أعقل من أن يدّعي ما ليس بحقّ ، وإنّما قال : أدعوكم إلى الرضا من آل محمّد

عليهم‌السلام وعنى بذلك ابن عمّي جعفراً!

قال المتوكّل : قلت : فهو اليوم صاحب الأمر؟ قال : هو أفقه بني هاشم.

وقبله نقل عن زيد نفسه كان يقول لهم : «من أراد الجهاد فإليّ ، ومن أراد العلم فإلى ابن أخي جعفر» ثمّ قال : ولو ادّعى الإمامة لنفسه لم ينفِ كمال العلم عن نفسه (٢).

ومن خبر آخر يظهر أنّ هذا قد بدا عن زيد لابنه يحيى على عهد الباقر عليه‌السلام ، قال : سألت أبي عن الأئمة فقال : الأئمة اثنا عشر! أربعة من الماضين وثمانية من الباقين! قلت : فسمّهم قال : أمّا من الماضين : فعلي بن أبي طالب ، والحسن

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٤٧٧ ، الباب ٤٧ ، الحديث ١٨٧ عن المبرّد النحوي البصري الأزدي.

(٢) قاموس الرجال ٤ : ٥٦٦ و ٥٦٥ عن مقتضب الأثر ، ولكن ليس في المنشور منه! فلعلّه كفاية الأثر.

١١٥

والحسين وعلي بن الحسين عليهم‌السلام ، ومن الباقين : أخي الباقر! وبعده جعفر الصادق ، وبعده ابنه موسى ، وبعده ابنه علي ، وبعده ابنه محمّد ، وبعده ابنه علي ، وبعده ابنه الحسن ، وبعده ابنه المهدي. فقلت : يا أبه ألست منهم؟ قال : لا ، ولكنّي من العترة. قلت : من أين عرفت أسماءهم؟ قال : عهد معهود عهده إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

إذن فلابدّ من الإذن لخروجه ؛ ولذا جاء في الخبر السابق عن الرضا عن جدّه الصادق عليهما‌السلام قال : ولقد استشارني (زيد) في خروجه ، فقلت له : يا عمّ ؛ إن رضيت أن تكون المقتول «المصلوب بالكُناسة» فشأنك (٢) فهو إذن بتطبيق حديث جدّه النبيّ وأبيه السجاد وأخيه الباقر عليهم‌السلام عليه ، ترخيصاً تخييرياً ، وليس فرضاً ولا واجباً عينياً ولا تعيينياً ولا تعيّنياً. وعليه فقوله بعده : «ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه» إنّما يُحمل على من بايعه للقتال ثمّ سمع واعيته واستغاثته ولم يجبه ، وليس من سمع واعيته ، وإنّما هو خطأ النسخة.

وإنّما جاء الخبر هكذا وليس فيه كيفية اتّصال زيد بالإمام عليه‌السلام ، فلابدّ أنّه كان مراسلة من الكوفة.

ومن أين جاءت الرافضة؟ :

طبيعيّ أن يكون قد تسرّب هذا ونحوه إلى الشيعة بالكوفة ، فروى الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف : أنّهم مرّوا ـ ولعلّه بالموسم ـ إلى جعفر بن محمّد عليه‌السلام فقالوا له : إنّ زيد بن علي فينا (في الكوفة) يبايَع ، افترى لنا (وليس علينا)

__________________

(١) قاموس الرجال ٤ : ٥٧٥ وراجع الحاشية السابقة.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٤٧٧ ، الباب ٤٧ ، الحديث ١٨٧.

١١٦

أن نبايعه؟ فقال لهم : «نعم ، بايعوه» ثمّ قال الأزدي : ولكنّهم كتموا ما أمرهم به (١) والصحيح : ما أذن لهم فيه.

قال : وكان (هؤلاء) يزعمون أنّ أبا جعفر محمّد بن علي هو الإمام ، وكان قد هلك (!) يومئذ ، وكان ابنه جعفر بن محمّد حيّاً (٢) فقالوا : هو أحقّ بالأمر بعد أبيه! فهو إمامنا اليوم ، ولا نتّبع زيد بن علي فإنّه ليس بإمام. ففارقوه كما فارقوا من قبل المغيرة بن سعيد البجلي ، فهم يزعمون أنّه هو الذي سمّاهم «الرافضة» فسمّاهم زيد «الرافضة» أي لأنّهم رفضوه أو رفضوا الوفاء ببيعتهم له.

وذلك : أنّه اجتمعت جماعة من رؤوسهم إليه وقالوا له : رحمك الله! ما قولك في أبي بكر وعمر؟

قال زيد : ما سمعت أحداً من أهل بيتي يتبرّأ منهما ، ولا يقول فيهما إلّاخيراً!

فقالوا : فلِمَ تطلبُ بدم أهل هذا البيت؟! (أليس) لأنّهما وثبا على سلطانكم فنزعاه من أيديكم؟!

قال زيد : إنّ أشدّ ما أقول فيما ذكرتم هو : أنّا كنا أحقّ بسلطان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الناس أجمعين ، وأنّ القوم استأثروا علينا ودفعونا عنه (ولكن) لم يبلغ ذلك بهم عندنا كفراً.

قالوا : فإن كان اولئك لم يظلموك فلم يظلمك هؤلاء ، فلِمَ تدعو إلى قتال قوم ليسوا بظالمين لك؟!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٨١ ، ونسبه البلاذري في أنساب الأشراف ٤ : ٢٤٩ ، الحديث ٢٥١ خطأ إلى أخيه الباقر عليه‌السلام وزاد أنّ سؤالهم كان بطلب من زيد نفسه.

(٢) من قوله : كان حيّاً ، يفهم أنّه لم يكن حيّاً يوم كتابة أبي مخنف له ، أي يوم تأليفه لكتابه في أخبار زيد الشهيد ، أي كان ذلك بعد وفاة الصادق عليه‌السلام في (١٤٨) وقبل وفاته هو في (١٥٨ ه‍).

١١٧

فقال : إنّ هؤلاء ظالمون لي ولكم ولأنفسهم ، فهم ليسوا كأُولئك. وإنّما ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيّه لتُحيا ؛ وإلى أن تطفأ البدع ، فإن أنتم أجبتمونا سُعدتم ، وإن أنتم أبيتم فلست عليكم بوكيل. ففارقوه (١).

ولعلّ هؤلاء الكوفيين كانوا قد سمعوا من سَدير الصيرفي الكوفي قوله : أنّه دخل مع أبي المقدام ثابت الحدّاد وسالم بن أبي حفصة وسلمة بن كُهيل وكثير النّواء ومعهم جمع آخرون على الباقر عليه‌السلام ، فقالوا له : نحن نتولّى علياً وحسناً وحسيناً ونتبرّأ من أعدائهم. فقال الباقر عليه‌السلام : نعم. فقالوا : ونتولّى أبا بكر وعمر ونتبرّأ من أعدائهم! فالتفت إليهم زيد فقال لهم : أتتبرّؤون من فاطمة؟! ثمّ قال لهم : بترتم أمرنا بتركم الله (٢) فكانوا يتوقّعون اليوم أن يسمعوا منه مثله ، فأجابهم بما مرّ ، ممّا قال فيه علماؤنا : جوابه باطل لجلج! لكن لابدّ من تأويله ، بالتقية من جمهور أصحابه (٣) ذلك أنّه لاتَسعه المصارحة معهم بحقيقه معتقده لكي لاينفضّوا من حوله فيستغفر لأُولئك القدماء من الخلفاء. ولعلّه بعد مصارحته السابقة بمحضر الباقر عليه‌السلام تعلّم منه التأكيد على التقية خوفاً أو مداراة فتقيّد بها بعد ذلك ولا سيّما هنا.

كتاب هشام إلى الثقفي :

رفعت عيون هشام إليه ما وقفوا عليه من أُمور زيد في الكوفة ، فكتب إلى يوسف الثقفي يقول :

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٠ ـ ١٨١ عن الكلبي عن أبي مخنف ، ويدلّ الخبر على عدم تشيّعه للباقر والصادق عليهما‌السلام.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢٣٦ ، الحديث ٤٢٩.

(٣) قاموس الرجال ٤ : ٥٨١ برقم ٣٠٥٥.

١١٨

أمّا بعد ، فقد علمتَ بحال أهل الكوفة في حبّهم «أهل هذا البيت» ووضعهم إيّاهم في غير مواضعهم! لأنّهم افترضوا طاعتهم على أنفسهم ، ووظّفوا عليهم شرائع دينهم ، ونحلوهم علم ما هو كائن! حتّى حملوهم ـ من تفريق الجماعة ـ على حال استخفّوهم فيها إلى الخروج!

وقد قدم! زيد بن علي على أمير المؤمنين! في خصومة عمر بن (علي) ففصل أمير المؤمنين بينهما! ورأى رجلاً جَدلاً لسنا ، خليقاً بتمويه الكلام وصوغه ، واجترار الرجال بحلاوة لسانه وبكثرة مخارجه في حججه ، وما يدلي به عند لَدد الخصام من السطوة على الخصم بالقوة الحادّة لنيل الفلج!

فعجِّل إشخاصه إلى الحجاز ولا تخلّه والمقام قِبلك ، فإنّه إن أعاره القوم أسماعهم فحشاها من لين لفظه وحلاوة منطقه ـ مع ما يدلى به من القرابة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وجدَهم مُيَّلاً إليه ، غير متّئدة قلوبهم ولا ساكنة أحلامهم ولا مصونة أديانهم! وإخراجه وتركه (من التحامل عليه والأذى له) ـ مع السلامة للجميع والحقن للدماء و «الأمن» من الفُرقة ـ أحبّ إليّ من أمر فيه سفك دمائهم وانتشار كلمتهم وقطع نسلهم!

فادعُ إليك أشراف أهل المصر وأوعدهم العقوبة في الأبشار! واستصفاء الأموال! فإنّ من له منهم عقد أو عهد معي سيبطئ عنه ، ولا يخفّ معه إلّا الرُّعاع وأهل السواد ومن تُنهضه الحاجة! فبادهم بالوعيد ، واعضضهم بسوطك وجرّد فيهم سيفك! وأخِف الأشراف قبل الأوساط والأوساط قبل السفلة ... ولا تستوحش لكثرتهم!

واعلم أنّ من حجّتك عليهم توفيتَك أُعطية ذرّيتهم وأطماعهم! ونهيَك جندك (جند الشام) أن ينزلوا دورهم وحريمهم! فأمير المؤمنين! يسأل إلهه

١١٩

ومولاه ووليّه أن يصلح منهم ما كان فاسداً ، وأن يسرع بهم إلى النجاة والفوز ، إنّه سميع قريب (١).

وقالوا : إنّ يوسف بن عمر لم يعلم برجوع زيد من الطريق إلى الكوفة إلّا بعد أن كتب رجل من بني أُمية إلى هشام يذكر له أمر زيد ، فكتب هشام إلى يوسف يقول له : إنّك لغافل! وزيد غارز ذَنبه بالكوفة يبايَع له! فألحِح في طلبه فأعطه الأمان ، فإن لم يقبل فقاتله!

وكان يوسف استخلف على الكوفة الحكَم بن الصلت العقيلي وانتقل هو إلى الحيرة ، فكتب يوسف إلى الحكم بطلب زيد فلم يعلم به.

فطلب يوسف رجلاً من المماليك الخراسانيين وكان ألكن (بالعربية) فأعطاه خمسة آلاف درهم ، وأمره أن يلطف لبعض «الشيعة» فيخبره أنّه قد قدم من خراسان حبّاً «لأهل البيت» وأنّ معه مالاً يريد أن يقوّيهم به! فلم يزل المملوك يلقى «الشيعة» ويخبرهم عن المال الذي معه حتّى أدخلوه على زيد. فخرج فدلّ يوسف على موضعه (٢) إلّاأنّ زيداً لم يكن ليقيم بمقام معلوم.

واستبق الموعد زيد :

روى الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف الأزدي : أنّ زيداً أمر أصحابه بالاستعداد والتأهّب للخروج ، ومن كانوا يريدون الوفاء ببيعتهم له أخذوا فيما أمرهم به من ذلك ... ولمّا استتبّ له الخروج واعد أصحابه لليلة الأربعاء أوّل

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٦٩ ـ ١٧١ عن غير أبي مخنف ، ونقله البلاذري عن كتب سالم كاتب هشام في أنساب الأشراف ٤ : ٢٤٦ ، الحديث ٢٤٨ صدره إلى قوله : مُيّلاً إليه ، ولم يذكر الطبري مصدره.

(٢) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٨. وأنساب الأشراف ٤ : ٢٥٣ ، الحديث ٢٥٤.

١٢٠