موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

ليلة (؟!) من شهر صفر لسنة اثنتين وعشرين بعد المئة للهجرة ، وبلغ ذلك إلى الوالي الثقفي وهو بالحيرة ، وعلى شرطه بالكوفة عمرو بن عبد الرحمن من القارّة وامّه من ثقيف ، ومعهم جيش من الشام عليهم عُبيد الله بن العباس الكندي (١).

وبلغه خبر من بايع زيداً من أهل المدائن وواسط ، فشحن واسطاً بالخيول وحصّنها وتوثق من أبوابها واشتد عليهم ، وكذلك المدائن (٢) وكذلك الكوفة بل أشدّ كما سيأتي.

وقد مرّ الخبر أنّ زيداً كان ينزل فيمن ينزل عليه على عامر البارقي وطعمة التميمي وامّه من بني بارق وهو نازل فيهم ، فانطلق سُراقة بن مالك البارقي إلى يوسف بن عمر بالحيرة فأخبره بنزول زيد بدارهما في بني بارق! فبعث يوسف يطلب زيداً بدارهما فلم يوجد عندهما واخذا إليه ، واستبان منهما أمر زيد وأصحابه (دون مكانه). وتخوّف زيد أن يؤخذ فعجّل (٣) الأجل المعهود إلى اسبوع قبله.

وبلغ يوسف بن عمر : أنّ زيداً قد عزم على الخروج قريباً ، فبعث إلى الحكم بن الصلت يوم الثلاثاء لثمان بقين من شهر صفر (٤) وأمره أن يجمع أهل الكوفة في المسجد الأعظم ويحصرهم فيه! فبعث الحكم إلى العُرفاء والشُرط والمناكب والمقاتلين فأدخلهم المسجد ، يوم الثلاثاء قبل خروج زيد بيوم. ثمّ نادى مناديه : ألا إنّ الأمير يقول : من أدركناه في رحله فقد برئت منه الذمّة! فادخلوا المسجد الأعظم. فأتى بقية الناس إلى المسجد الأعظم (٥).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٠ ـ ١٨١.

(٢) أنساب الأشراف ٤ : ٢٤٨ ، الحديث ٢٥١.

(٣) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٠ عن أبي مخنف ، ومقاتل الطالبيين : ٩٢.

(٤) كذا هنا ، وسيأتي أنّه كان المحرم.

(٥) تاريخ الطبري ٧ : ١٨١ ، ومقاتل الطالبيين : ٩٢ كلاهما عن الكلبي عن أبي مخنف.

١٢١

وطلبوا زيداً من جملة مظانّه في دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري مساء الثلاثاء ليلة الأربعاء وكانت ليلة شديدة البرد ، وكان زيد هناك فخرج منها ليلاً ، وأخرجوا معهم أطنان القصب فكانوا يُشعلونها وينادون بشعارهم شعار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر : «يا منصور أمت ، أمت يا منصور».

فأمر الحكم بن الصلت فغلّقت أبواب المسجد على أهل الكوفة ، وغلقت الأبواب الكبار لدروب السوق. وكان يومئذ على أربعة أرباع الكوفة : على رُبع أهل المدينة إبراهيم بن عبد الله بن جرير بن عبد الله البجلي! وعلى ربيعة وكندة المنذر بن محمّد بن الأشعث بن قيس الكندي ، وعلى أسد ومذحج عمرو بن أبي بذل العبدي ، وعلى تميم وهمدان محمّد بن مالك الخَيواني الهمداني.

وبعث الحكم بن الصلت إلى يوسف بن عمر فأخبره الخبر ، وكان معه جيش الشام (وهم ستمئة) فأمر يوسف مناديه أن ينادي فيهم : من يذهب إلى الكوفة فيقترب من هؤلاء القوم فيأتيني بخبرهم؟ فانتدب له جعفر بن العباس الكندي الشامي فركب في خمسين فارساً منهم ، وأقبل إلى جَبّانة (محلّة) سالم السلولي وفيها زيد وأصحابه من الكوفة فاستخبر خبرهم ، ثمّ رجع إلى يوسف فأخبره بهم.

وكان من كبار أصحاب زيد نصر بن خزيمة العبسي (من رهط عمّار بن ياسر) وسمع نداء زيد وأصحابه فأقبل إليهم بأصحابه ، وكان عمر بن عبد الرحمن صاحب شرطة الكوفة مع خيله من جُهينة قد سدّ الطريق إلى مسجد بني عدي ، فلمّا رآه نصر العبسي ناداه بشعارهم فلم يجيبوا فشدّ عليهم بأصحابه ، فقتل نصر عبد الرحمن رئيس الشرطة وانهزم من معه ، وأقبل نصر ومن معه إلى زيد وأصحابه. فما زالو كذلك حتّى طلع الفجر.

١٢٢

وأصبح زيد فكان جميع من وافاه تلك الليلة مئتين وثمانية عشر رجلاً! فقال زيد : سبحان الله! أين الناس؟! فقيل له : هم محصورون في المسجد الأعظم! فقال : لا والله ما هذا عذر لمن بايعنا (١)!

يوم القتال الأول : الأربعاء :

ولمّا أصبح زيد وأصحابه وفي ميمنتهم أبو الجارود زياد بن المنذر الهمْداني ، فرفع طنّاً من أطنان القصب وبها اللهب ونادى بشعارهم ، وكان معهم أبو مَعمر سعيد بن خَيثم العبدي وكان رجلاً صيّتاً فبعثه زيد ومعه القاسم التّبعي وصدّام لينادوا الناس بشعارهم ، فتوجّهوا في الصحراء إلى دور عبد القيس. وكان الكندي الشامي وأصحابه الخمسون الشاميون بعد لم يعودوا إلى الحيرة فواجهوهم فقاتلوهم ، فقتل صدّام وارتثّ القاسم التّبعي فاخذ أسيراً إلى الحكم بن الصلت ، فكلّمه فلم يرد عليه ، فأمر به فاخرج إلى باب دار الإمارة وضربت عنقه ، فكان أوّل قتيل من أصحاب زيد رضي الله عنهم.

وكان على شرطة يوسف الثقفي : العباس بن سعيد المُرّي الغطفاني ، فجهّز ثلاثمئة من الرجّالة الرُماة بالنُشّاب ، وجهّز ألفي فارس وجعل عليهم العباس بن سعيد المُرّي الغطفاني وأرسلهم إلى الكوفة لحرب زيد. ومعهم خمسمئة من جيش الشام ، فهم جميعاً ألفان وثمانمئة فارس وراجل.

ولما أصبح يوسف الثقفي استدعى القرشيين وأشراف الناس وارتفع بهم إلى تلّ قرب الحيرة نحو الكوفة (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٨١ ـ ١٨٣ ، ومقاتل الطالبيين : ٩٢ ـ ٩٣.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٩٣ و ٩٤.

١٢٣

وكان رجل من بني نهد النجاري اشترى لزيد فرساً أدهم بهيم بخمسة وعشرين ديناراً ، فركبه زيد وخرج من جبّانة سالم إلى جبّانة بني صائد من همدان ، وإذا فيها خمسمئة من جيش الشام ، فحمل عليهم زيد بمن معه فهزمهم!

ثمّ مرّ زيد بدار أنس بن عمرو الأزدي فناداه زيد : يا أنس اخرج إليّ رحمك الله ، فقد (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً). فلم يخرج هذا وقد أجاب لمّا نادوه! فناداه زيد : ما أخلفكم! قد فعلتموها؟! الله حسيبكم!

ثمّ مضى إلى الكُناسة وبها جماعة من جيش الشام فهزمهم! ثمّ خرج إلى الجبّانة (المقبرة) ويوسف الثقفي على تلّ بينها وبين الحيرة ومعه حزام بن مرّة المزني في مئة من المجفّفة ، وزمزم بن سُليم الثعلبي في مئة منهم. وزيد في مئتين ، فلو أراد يوسفَ لقتله! ولكن الريان بن سلمة في جمع من جيش الشام كان يتبع أثر زيد فلم يقصد يوسف الثقفي.

بل أخذ يميناً على مصلى خالد القسري حتّى عاد إلى الكوفة فطلع عليهم جمع من جيش الشام! فلمّا رأوهم دخلوا زقاقاً فمضوا فيه ، وإنّما تخلّف منهم رجل فقتلوه ، واقتطعوا آخر ونجا سائرهم ، فأسروا الرجل وذهبوا به إلى يوسف الثقفي فقتل.

ولما رأى زيد خذلان أهل كوفان قال لنصر العبسي : يا نصر! أتخاف أن يكونوا قد فعلوها حسينية! فقال : أما أنا فوالله لأضربنّ معك بسيفي هذا حتّى أموت جعلني الله لك الفداء! إنّ الناس مَحصورون في المسجد الأعظم فامض بنا نحوهم (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٣ ـ ١٨٤.

١٢٤

زيد يُريد أهل المسجد :

كان عبيد الله بن العباس الكندي على جيش الشام يحاصرون المسجد الأعظم وبلغهم أنّ زيداً خرج بجمعه نحو المسجد وأقبل إليهم ، فخرج إليهم جيش الشام فالتقوا على باب عمر بن سعد الزهري فبرز الكندي فخرج إليه واصل الحنّاط فاضطربا بسيفهما وقال الحنّاط : خذها وأنا الغلام الحنّاط وانهزم الكندي وأصحابه نحو دار عمرو بن حريث المخزومي. وجاء زيد وأصحابه حتّى انتهوا إلى باب المسجد المعروف بباب الفيل وهو مغلق ، فجعل أصحاب زيد يُدخلون راياتهم من فوق الأبواب وينادون : يا أهل المسجد اخرجوا من الذلّ إلى العزّ في الدين والدنيا. فإنّكم لستم في دين ولا دنيا! فصعد جمع من جيش الشام إلى سطوح المسجد وجعلوا يرمونهم بالحجارة! فانصرف زيد عنهم بمن معه إلى دار الرزق.

فأتاهم الريّان بن سلمة بجمع من جيش الشام فقاتلهم عندها قتالاً شديداً وقتل وجُرح منهم ناس كثير ، وتبعهم أصحاب زيد من دار الرزق إلى المسجد مساء يوم الأربعاء أسوأ ظنّاً بأنفسهم ، وانصرف الريان بن سلمة عند المساء إلى الحيرة ، وانصرف زيد فيمن معه إلى دار الرزق (١).

يوم القتال الثاني : الخميس :

وفي غداة يوم الخميس دعا يوسف الثقفي الريّان بن سلمة فأتاه وليس عليه سلاحه أي غير مستعدّ للقتال ، فقال له يوسف : أفٍ لك من صاحب خيل! اجلس ، إذ لم يجده حاضراً للقتال تلك الساعة. ثمّ دعا صاحب شرطته العباس بن

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٤ ـ ١٨٥ ، ومقاتل الطالبيين : ٩٤ ـ ٩٥.

١٢٥

سعيد (١) المرّي الغطفاني (٢) فجعله على جيش الشام وبعثهم لقتال زيد ، فسار حتّى انتهى إلى زيد عند دار الرزق ، وهناك خشب كثير للتجّار مضايق للطريق (٣).

فروى الأموي الزيدي عن سعيد بن خيثم العبدي قال : كان قد بايع زيداً أكثر من اثني عشر ألفاً ، فغدروا به ، وكنّا نحن مع زيد في خمسمئة (في اليوم الثاني) وأهل الشام في اثني عشر ألف. فخرج زيد إليهم وصاحب لوائه عبد الصمد السعدي وجدّه صهر العباس بن عبد المطلب! وقد قسّم زيد أصحابه يمنة ويسرة على أحدهما معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري. وعلى الأُخرى نصر بن خزيمة العبسي.

وكان رجل من بني عبس الشام مع يوسف الثقفي يدعى نائل بن فروة ، فلمّا سمع بنصر العبسي قال : والله لئن ملأت عيني من نصر بن خزيمة لأقتلنّه أو ليقتلني! وكان ليوسف سيف لا يمرّ بشيء إلّاقطعه فقال له : خذ هذا السيف ، فدفعه إليه لذلك. فلمّا التقى أصحابه بأصحاب زيد وأبصر نائل نصراً فأقبل نائل إلى نصر فضربه على فخذه فقطعه! وضربه نصر ضربة فقتله ، ثمّ مات نصر «رحمه‌الله» ففقد زيد به أحد ركنيه.

ولمّا رأى العباس المُرّي أصحاب زيد (الخمسمئة) نادى بجيش الشام معه : يا أهل الشام الأرض الأرض! فنزل منهم ناس كثير واقتتلوا قتالاً شديداً في المعركة حتّى قتل منهم سبعون رجلاً! ثمّ إن زيداً وأصحابه هزموهم ، فانصرفوا عنهم بأسوأ حال. وعباس المرّي يناديهم أن اركبوا فإنّ الخيل لا تطيق الرجال في المضيق ، فركبوا وانصرفوا.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٥.

(٢) المعارف : ٢١٦ ، وتاريخ خليفة : ٢٤٠.

(٣) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٥.

١٢٦

فلمّا كان العشيّ (العصر) عبّأهم يوسف ثمّ سرّحهم نحو زيد ، فأقبلوا حتّى التقوا ، فحمل عليهم زيد فكشفهم ، ثمّ تبعهم حتّى أخرجهم إلى السبخة ، ثمّ شدّ عليهم حتّى أخرجهم من بني سليم فأخذوا على المسنّاة (لسدّ السيول) فلمّا صاروا بين بارق وبين رؤاس خرج عليهم زيد بأصحابه فقاتلوهم قتالاً شديداً.

وخرج منهم رجل كلبيّ من الشام على فرس ثمّ على بغلة ، فلم يزل يشتم فاطمة ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! فبكى زيد حتّى ابتلّت لحيته وقال : أما أحد يغضب لفاطمة بنت رسول الله؟ أما أحد يغضب لرسول الله؟ أما أحد يغضب لله؟! فاستتر له الراوي سعيد بن خيثم العبدي خلف النظّارة الواقفين حتّى صار وراء الكلبي الشامي فضرب عنقه فوقع رأسه ، وأخذ الراوي بغلته إلى زيد فنفّله زيد إياها وقال له : أدركت ثأرنا ، فوالله أدركت شرف الدنيا والآخرة وذخرها!

وقاتل معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري يومئذ قتالاً شديداً بين يدي زيد حتّى قتل بين يديه. ففقد زيد عضده الثاني.

وبعث العباس المُرّي إلى يوسف الثقفي يشكو إليه ما يلقى الشاميون معه من أصحاب زيد ، ويسأله أن يبعث إليه بالرّجالة الرّماة بالنُشّاب (الثلاثمئة) فبعثهم إليه مع سليمان بن كيسان ، فجعلوا يرمون زيداً وأصحابه ، وثبت لهم زيد في أصحابه (١).

مصرع زيد ومقتله ومدفنه :

روى الأموي الزيدي بطرقه الثلاثة قال : لمّا كان عند جنح الليل جاء سهم فأصاب جانب جبهته اليسرى ، فنفذ إلى الدماغ ، فتراجع زيد وتراجع معه

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٩٥ ـ ٩٦ ، وتاريخ الطبري ٧ : ١٨٥ ـ ١٨٦ ولم يلمّ بخبر شتم الزهراء عليها‌السلام.

١٢٧

أصحابه ، وظنّ جيش الشام أنّهم رجعوا للمساء فتراجعوا عنهم. فانصرف زيد حتّى بلغ سكّة البريد في دور بني شاكر من همدان وأرحب ، فادخل دار حرّان بن أبي كريمة مولى لبني شاكر.

وانطلق ناس من أصحابه فجاؤوا بسفيان مولى بني رؤاس رجل يتطبّب ليعالج السهم ، فلمّا رآه قال له : إنّك إن نزعته متّ! فقال : الموت أيسر عليّ ممّا أنا فيه! فأخرج الكلبتين وانتزع السهم فمات رضى الله عنه.

فقال القوم : أين ندفنه ونواريه؟ فقال بعضهم : نحتزّ رأسه ونلقيه بين القتلى! وكان ابنه يحيى حاضراً فأبى وقال : لا والله لا يأكل لحم أبي السباع! قال الراوي سلمة بن ثابت الليثي : فقلت : نحمله إلى العباسيّة فندفنه فيها. فقبلوا رأيي. قال :

فانطلقنا وحفرنا له حتّى إذا مكنّا له دفنّاه (بلا غسل ولا كفن) ثمّ أجرينا عليه الماء (تغطية).

قال : وكان معنا عبد سندي مملوك لزيد ، وقال غيره : بل هو عبد حبشي كان مولى لعبد الحميد الرؤاسي قد بايع زيداً ، وقال غيره : بل كان هناك نبطي يسقي زرعه فرآهم حيث دفنوه ، فلمّا أصبح ذهب إلى الحكم بن الصلت فدلّهم على موضع قبره ، فاستخرجوه وحملوه على جمل وشدّوه بالحبال ، وعليه قميص هروي أصفر ، وأقبلوا به إلى باب القصر فألقوه هناك ، وكان رحمه‌الله بديناً فخرّ كأنه جبل! فحزّوا رأسه! وحصلوا على نصر بن خزيمة العبسي ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري وزياد الهندي من أنصار زيد فحزّوا رؤوسهم ، وصلبوهم بالكُناسة بالكوفة.

ووجّهوا برأس زيد وخبره مع زهرة بن سليم إلى هشام بالشام ، فما أن وصل إلى ضيعة ابن أُم الحكم حتّى اصيب بالفالج! فانصرف مفلوجاً وحمله غيره إلى هشام بالرُّصافة من رقة الشام.

١٢٨

وبقي زيد بن علي مصلوباً بالكُناسة ، واسترسل جلده من بطنه ومن خلفه! حتّى ستر عورته (١).

فكانت شهادته ودفنه ليلة الجمعة السادس والعشرين من شهر محرّم الحرام سنة (١٢٢ ه‍) (٢).

وأعطى يوسف الثقفي لمن جاء برأس نصر العبسي : ألف درهم! ولمن جاء برأس معاوية الأنصاري : سبعمئة درهم! وكان مناديه قد نادى : مَن جاء برأس فله خمسمئة درهم! وأرسل يوسف الثقفي الشاميين إلى دور الكوفيين يلتمسون جرحى أصحاب زيد ، فكانوا يخرجون النساء إلى صحن الدار ويطوفون البيوت يلتمسون الجرحى!

وأمر الثقفي بحراسة جسد زيد لكي لا يُنزل فيدفن.

وأمر هشام أن يَنصب رأسه على باب مدينة دمشق! ثمّ أرسل به إلى المدينة! فصُلب بالمدينة! في سنة ثلاث وعشرين ومئة (٣) وواليها محمّد بن هشام بن إسماعيل المخزومي ابن خال هشام الأموي (٤). وكان عمره يوم شهادته ستّاً وخمسين سنة (٥).

خطبة الثقفي منتصراً ، وحالته :

كان مصرع زيد ومقتله ودفنه ليلة الجمعة السادس والعشرين من المحرّم ، والعثور على قبره يوم الجمعة.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٩٦ ـ ٩٨ ، وتاريخ الطبري ٧ : ١٨٦ ـ ١٨٧.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٩٢ ، وأنساب الأشراف ٤ : ٢٥٢ ، الحديث ٢٥٤.

(٣) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٧ ـ ١٨٩.

(٤) تاريخ خليفة : ٢٣٢.

(٥) على أن يكون مولده سنة (٦٧ ه‍) كما في زيد الشهيد للمقرم : ٩ ـ ١٢ ، ١٥٣.

١٢٩

فروى الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف : أنّ يوسف الثقفي أقبل (لزوال الجمعة من الحيرة) حتّى دخل الكوفة فصعد المنبر فأطال الخطبة وقال فيها : والله ما أطلت منبري إلّالأُسمعكم عليه ما تكرهون! فإنّكم أهل بغي وخلاف! ما منكم إلّا من حارب الله ورسوله! إلّاحُكيم بن شريك المحاربي (كان سعى بزيد إليه) يا أهل المِدرة الخبيثة! وإنّي والله ما تُقرن بي الصعبة ولا يُقعقع لي بالشِنان! ولا اخوَّف بالذئب أو الذنب! هيهات! حُبيتُ بالساعد الأشدّ! أبشروا ـ يا أهل الكوفة ـ بالصَغار والهَوان ؛ فلا عطاء لكم عندنا ولا رزق! ولقد هممت أن أُخرب بلادكم ودوركم! وأُحربكم أموالكم! ولقد سألت أمير المؤمنين! أن يأذن لي فيكم ، ولو أذن لقتلت مقاتلتكم ولسبيت ذراريكم (١)!

يا أهل الكوفة! إنّ يحيى بن زيد يتنقّل في حِجال نسائكم ، كما كان يفعل أبوه! والله لو أبدى لي صفحته لعرقت خُصييه كما عرقت خُصيي أبيه (٢) أو قال : ووالله لو ظفرت بيحياكم لعرقت ... (٣).

ثمّ وكّل الثقفي بخشبة صلب زيد لكلّ ليلة مئة رجل ، وكلّهم أربعمئة رجل ، وبنى لهم حول جذع زيد دكّة من آجر (٤).

وكان هشام حين بلغه أنّ زيداً بويع في الكوفة ، أمدّ يوسف الثقفي بثمانية آلاف مع عامر بن ضبارة المُرّي. واجتمع إلى زيد في أوّل الليل أربعمئة ، ثمّ أصبح وهم أقل من ثلاثمئة! ثمّ آب إليه بعضهم ، ودعا نصر العبسي القيسي قومه من

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٩١ ، وأنساب الأشراف ٤ : ٢٦٨ ، الحديث ٢٧٥ قال : قالوا.

(٢) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٩ عن أبي عبيدة معمر بن المثنّى البصري.

(٣) أنساب الأشراف ٤ : ٢٦٨ ، الحديث ٢٧٥.

(٤) أنساب الأشراف ٤ : ٢٦٥ ، الحديث ٢٧٤.

١٣٠

قيس فتكاملوا معه ألف رجل فقاتل بهم (١) فلمّا قتل زيد طلب يوسف الثقفي ابنه يحيى فلم يقدر عليه (٢) وعثر على امّ ولد لزيد ومعها منه ثلاثة صبيان ، فكتب فيهم إلى هشام ، فأمره أن يُدفعوا إلى أقرب الناس إليه ، فدفعوا إلى الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، ورثى هذا زيداً بقصيدة (٣).

وكان يوسف الثقفي دهره سكران من الخمر لا يفيق ، فكان يسمّى نصر بن خزيمة : نصر بن سبّار ، وجبانة سالم : أجمة سالم وهي على بعد خمسة عشر فرسخاً من جبانة سالم في الكوفة! وصحّحهما له عبد الله بن عياش الهمداني (٤).

موقف الإمام الصادق عليه‌السلام :

مرّ الخبر عن الصادق عليه‌السلام أنّه كان يرغّب في تأييد عمّه زيد ولا يوجب ذلك ممّا أفاد التخيير لا الإلزام ، ومن ذلك ما رواه الصدوق بسنده عن عبد الله بن سيابة الكوفي قال : خرجنا (من الكوفة) ونحن سبعة نفر إلى المدينة ، فدخلنا على الصادق عليه‌السلام فقال لنا : أعندكم خبر (عن) عمّي زيد؟ وكانوا قد علموا بموعده في هلال شهر صفر ، قال : فقلنا : قد خرج أو هو خارج. ولعلّ الترديد من الترديد في هلال شهر صفر في العراق عن المدينة. قال : فقال الصادق : فإن أتاكم خبر فأخبروني. ولم ينكر عليهم خروجهم إلى الحجاز!

__________________

(١) أنساب الأشراف ٤ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨ ، الحديث ٢٥٩ و ٢٦٠.

(٢) أنساب الأشراف ٤ : ٢٦١ ، الحديث ٢٦٦.

(٣) أنساب الأشراف ٤ : ٢٦٧ ، الحديث ٢٧٤.

(٤) أنساب الأشراف ٤ : ٢٥٧ ، الحديث ٢٥٨.

١٣١

قال : فمكثنا أيّاماً وإذا برسول بسّام الصيرفي (الكوفي مولى بني أسد) بكتاب فيه : أما بعد ، فإنّ زيد بن علي خرج يوم الأربعاء (غرة صفر (١)) فمكث الأربعاء والخميس وقُتل يوم الجمعة (٢).

قال : فدخلنا على الصادق عليه‌السلام ودفعنا إليه الكتاب ، فقرأه وبكى ثمّ قال : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون» عند الله أحتسب عمّي ، إنّه كان نعم العم ، إنّ عمّي كان لدنيانا وآخرتنا ، مضى ـ والله ـ عمّي شهيداً كشهداء استشهدوا مع رسول الله وعلي والحسن والحسين عليهم‌السلام (٣).

وأخو هذا الراوي عبد الله بن سيابة : عبد الرحمن روى ابن أبي عمير عنه قال : دفع إليّ الصادق عليه‌السلام دنانير وأمرني أن اقسمها في عيالات من اصيب مع عمّه زيد ، فقسمتها فأصاب عيال عبد الله بن الزبير الرّسان أربعة دنانير (٤).

ودخل أخو عبد الله الشهيد هذا : فُضيل الرسّان على الصادق عليه‌السلام في بيت جوف بيت! فقال له : يا فُضيل! قُتل عمّي زيد؟ قال : قلت : نعم جعلت فداك! قال : رحمه‌الله! أما إنّه كان مؤمناً وكان عارفاً وكان عالماً وكان صدوقاً! أما إنّه لو ظفر لوفى ، أما إنّه لو ملك لعرف كيف يضعها (٥).

وبعد مقتله تفرّق الباقون من أنصاره منهم الفُضيل بن يسار الكوفي مولى بني نهد وقد قتل ستة من الشاميين ، قال : لمّا قتل زيد اكتريت راحلة وتوجّهت

__________________

(١) هذا يُحمل على الموعد الأوّل قبل التغيير إلى الأربعاء لسبع بقين من المحرم كما في مقاتل الطالبيين : ٩٢.

(٢) اعلن عن قتله نهار الجمعة في خطب الصلاة ، والقتل كان في ليلة الجمعة كما مرّ خبره.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٤٨١ ، الباب ٤٧ ، الحديث ١٩٢.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٣٣٨ ، الحديث ٦٢٢.

(٥) اختيار معرفة الرجال : ٢٨٥ ، الحديث ٥٠٥.

١٣٢

نحو المدينة ، فدخلت على الصادق عليه‌السلام وفي نفسي أن لا اخبره بقتل زيد فيجزع عليه! ـ وكان ذلك قبل وصول رسول الصيرفي بكتابه ـ فقال لي : ما فعل عمّي زيد؟ فخنقتني العبرة! فقال : قتلوه؟ قلت : إي والله قتلوه! فقال : وصلبوه؟ قلت : إي والله وصلبوه! فأقبل يبكي ودموعه تنحدر على ديباجتي خدّه كأ نّها الجمان (حبّات فضة).

ثمّ قال لي : يا فُضيل! شهدتَ مع عمّي قتال أهل الشام؟ قلت : نعم. قال : فكم قتلت منهم؟ قلت : ستّة : قال : فلعلّك شاك في دمائهم؟! فقلت : لو كنت شاكاً ما قتلتهم. فقال : مضى ـ والله ـ عمّي زيد وأصحابه شهداء على ما مضى عليه علي بن أبي طالب وأصحابه (١) ثمّ انتقل الفضيل إلى البصرة.

ومن الناجين من أنصار زيد : سليمان بن خالد الأقطع وعمار الساباطي ، فروى الكشيّ بسنده عنه قال : حين خرج زيد كان في ناحية وأنا وسليمان في ناحية ، فسأله رجل : زيد خير أم جعفر (الصادق)؟ فقال سليمان : والله ليوم من جعفر خير من زيد أيام الدنيا! فحرك الرجل دابته إلى زيد فمضيت نحوه ، فقصّ عليه القصّة فانتهيت إلى زيد وهو يقول : جعفر إمامنا في الحلال والحرام (٢).

ومن الناجين أبو الجارود زياد بن المنذر الهمْداني ولكنّه بقي على زيديته فكان رأسهم.

دعاؤه على الهاجي زيداً :

ذكر ابن عساكر بسنده عن محمد بن راشد الأزدي من رواة أبي مخنف : أنّ رجلاً من أهل الكوفة رحل إلى المدينة ودخل إلى الصادق عليه‌السلام فقال له :

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٤٨٣ ، الحديث ١٩٣.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٣٦١ ، الحديث ٦٦٨.

١٣٣

يابن رسول الله هذا حُكيم (بن عياش الأعور) الكلبي بالكوفة ينشد الناس هجاءكم! قال : فهل علقت منه بشيء؟ قال : نعم وأنشده :

صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة

وما كان «مهدي» على الجذع يصلب

وقستم بعثمان علياً سفاهة

وعثمان خير من علي وأطيب

فرفع أبو عبد الله يديه إلى السماء وهما ينتفضان رعدة وقال : اللهمّ إن كان كاذباً فسلّط عليه كلباً!

فخرج حكيم من الكوفة فأدلج فافترسه الأسد وأكله.

وبشّر بذلك الصادق عليه‌السلام وهو في مسجد رسول الله فقال : الحمد لله الذي صدقنا وعده! وسجد شكراً (١).

يحيى بن زيد إلى خراسان :

روى الأموي الزيدي بخمسة أسانيد قد تتداخل عن سلمة بن ثابت الليثي الأسدي. وروى الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف عن سلمة بن ثابت قال : انصرفنا من دفن زيد في الحُفَر التي يؤخذ منها الطين. إلى جبّانة السُبيع

__________________

(١) تاريخ دمشق ١٥ : ١٣٤ وذكر البلاذري البيت الأوّل وقال : فلما ظهر السفّاح العباسي أخذ ذلك الشاعر وأخذ يضرب رأسه بعمود بيده حتّى تناثر دماغه ثمّ أمر فاحرق بالنار! أنساب الأشراف ٤ : ٢٤٠ ، الحديث ٢٤١ ، إلّاأ نّه لم يصرّح باسمه وإنّما : قال بعض الشعراء. فلعلّه آخر ونقله المعتزلي في شرح النهج ١٥ : ٢٣٨ عن رسائل الجاحظ فهو أقدم مصدر ، وأقدم من روى الخبر منّا الطبري الإمامي في دلائل الإمامة : ٢٥٣ ، الحديث ١٧٧ ، ثمّ الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥ ثمّ الإربلي في كشف الغمّة ٣ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، وبهامشه مصادر أُخر.

١٣٤

(من همدان) ومعنا ابنه يحيى ، ولم يزل الناس يتصدّعون عنّا حتّى بقينا في رهط لا يكونون عشرة ، ومع يحيى أبو الصبّار العبدي ، فقلت له : أين تريد؟ فهذا الصبح قد غشيك! فقال : اريد النهرين : نهري كربلاء.

فخرجنا نحن والرهط معه من الكوفة وسمعنا أذان المؤذّنين ، وبلغنا النُخيلة فصلينا فيها الصبح ، ثمّ توجّهنا نحو نينوى ، فقال : إنّي اريد دار سابق مولى بشر بن عبد الملك ، فانتهينا إلى نينوى ليلاً وأتينا منزل سابق فدعوته على الباب فخرج إلينا ، فخلّفته عنده ، وذلك آخر عهدي به (١).

وروى الطبري عن أبي عبيدة معمر بن المثنى البصري قال : قال رجل أسدي ليحيى بن زيد : إنّ أهل خراسان لكم «شيعة» فالرأي أن تخرج إليها. فلمّا سكن الطلب خرج يحيى في نفر من «الزيدية» إلى خراسان (٢) فخرج يحيى إلى المدائن في طريقه إلى خراسان ، ونزل بها على دهقان من أهلها إلى أن خرج منها إلى الريّ.

وبلغ ذلك يوسف بن عمر فسرّح في طلبه حريث الكلبي فورد المدائن وقد خرج منها يحيى ففاته (٣).

وكان الإمام السجّاد عليه‌السلام قد أملى على ابنيه زيد والباقر خمسة وسبعين دعاءً ، وهي التي تسمّى «الصحيفة السجادية» فورثها الصادق عن الباقر عليهما‌السلام ، وورثها عن زيد ابنه يحيى ، وكأنّه أدرك دعاءً منها في الصحيفة عند الصادق عليه‌السلام فكان يطلبه منه فيأبى عليه.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٧ ومقاتل الطالبيين : ١٠٤.

(٢) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٩.

(٣) مقاتل الطالبيين : ١٠٤.

١٣٥

وكان زيد قبل شهادته قد حوّل صحيفته إلى ابنه يحيى وأوصاه بصونها ومنعها عن غير أهلها (١).

وكان متوكّل بن هارون الثقفي البلخي قد تشرّف للحج سنة شهادة زيد وتردّد على الصادق عليه‌السلام ورأى حزنه على عمّه زيد ، وسمعه يقول عن يحيى أنّه سيقتل ويصلب كما قتل أبوه وصُلب! وكتب عنه وجوهاً من العلم ، وأخرج له دعاءً أملاه عليه وحدّثه أنّ أباه الباقر عليه‌السلام أملاه عليه وأخبره أنّه من دعاء أبيه السجّاد عليه‌السلام من أدعية «الصحيفة الكاملة» وتوجّه إلى خراسان فالتقى في طريقه بيحيى فسلّم عليه ، فسأله : من أين أقبلتَ؟ قال : من الحج ، فسأله عن أهله وبني عمّه بالمدينة ، وأحفى السؤال عن الصادق عليه‌السلام ، فأخبره بخبره وخبرهم وحزنهم على أبيه زيد عليه‌السلام.

فقال : فهل سمعته يذكر شيئاً من أمري؟ قال : نعم ، قال : خبِّرني بمَ ذكرني؟ فقال له : جعلت فداك ، ما أحبّ أن استقبلك بما سمعته منه! فقال : أبالموت تخوّفني؟! هات ما سمعته. فقال له : سمعته يقول : إنّك تقتل وتصلب كما قتل أبوك وصُلب! فتغيّر وجهه ثمّ تلا قوله سبحانه : «يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» (٢).

ثمّ قال : يا متوكّل! إنّ الله عزوجل أيّد هذا الأمر بنا وجعل لنا العلم والسيف فجُمعا لنا ، وخُصّ بنو عمّنا بالعلم وحده!

فقلت له : يابن رسول الله ، أهم أعلم أم أنتم؟ فأطرق إلى الأرض مليّاً ثمّ رفع رأسه وقال : كلّنا له علم! غير أنّهم يعلمون كلّما نعلم ولا نعلم كلّما يعلمون!

فقلت له : جعلت فداك إنّي رأيت الناس أميل إلى ابن عمّك جعفر منهم إلى أبيك وإليك؟!

__________________

(١) مقدمة الصحيفة السجادية : ١٦ ، ط. المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الرعد : ٣٩.

١٣٦

فقال : إنّ عمّي محمّد بن علي وابنه جعفراً دعوا الناس إلى الحياة ونحن دعوناهم إلى الموت!

ثمّ قال لي : أكتبت من ابن عمّي شيئاً؟ قلت : نعم. قال : أرنيه. فأخرجت له الدعاء فقال لي : أتأذنُ لي في نسخه؟ ثمّ رمى بصحيفتي إلى غلام معه وقال له : اكتب هذا الدعاء بخطّ حسن بيّن لعلّي احفظه ، فإنّي كنت أطلبه من جعفر «حفظه الله» فيمنعنيه!

ثمّ استخرج صحيفة مختومة وقبّل الخاتم وبكى ثمّ فضّه ونشر الصحيفة ووضعها على عينه وأمرّها على وجهه وقال لي : يا متوكل ، والله لولا ما ذكرت من قول ابن عمي أنني اقتل واصلب لما دفعتها إليك ولكنّي أعلم أنّ قوله حقّ أخذه عن آبائه وأ نّه سيصح ، فخفت أن يقع هذا العلم إلى بني أُمية ، فاقبضها وتربّص بها ، فإذا قضى الله من أمري وأمر هؤلاء القوم ما هو قاضٍ فهي أمانة لي عندك توصلها إلى ابني عمّي محمّد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن ، فإنّهما القائمان في هذا الأمر بعدي!

فلمّا قُتل يحيى (١) صرت إلى المدينة والتقيت بأبي عبد الله عليه‌السلام وناولته الصحيفة فأخرج لي مثلها وقال لي : هذا إملاء جدّي وخط أبي بمشهد منّي ، فإذا هما أمر واحد ، ثمّ استأذنته عليه‌السلام أن أدفع الصحيفة إلى ابني عبد الله بن الحسن ، فقال : نعم فادفعها إليهما. ثمّ وجّه إليهما فجاءا فقال لهما : هذا ميراث ابن عمّكما يحيى من أبيه قد خصّكما به دون إخوته. ثمّ قال لهما : وأنتما فلا تأمنا! فو الله إنّي لأعلم أنّكما ستخرجان كما خرج وستقتلان كما قُتل! فقاما وهما يُحوقلان : لا حول ولا قوة إلّابالله العلي العظيم (٢).

__________________

(١) سيأتي في حوادث سنة (١٢٥ ه‍) أي بعد مقتل أبيه بثلاث سنين.

(٢) الصحيفة السجادية : ٩ ـ ١٩ ، ط. المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام.

١٣٧

مصير يحيى في خراسان :

كان خالد بن عبد الله القَسري قد جعل على خراسان أخاه أسد القسري فمات عليها قبل عزل خالد عن الكوفة سنة عشرين بعد المئة الهجرية ، فاستخلف على خراسان جعفر بن حنظلة البهراني (١).

قال اليعقوبي : ولمّا قُتل زيد تحرّكت «الشيعة» في خراسان وجعلوا يذكرون للناس أفعال بني امية وما نالوا من آل رسول الله ، حتّى لم يبقَ بلد إلّا فشت فيه هذه الأخبار.

واستخبر يوسف بن عمر : أنّ يحيى بن زيد هرب إلى خراسان فتوارى في بلخ ، فكتب يوسف إلى هشام بالشام بحال يحيى ، وبلغه اضطراب خراسان عليه وكثرة مَن بها ممّن يميل معه ويأتيه. فكتب هشام إلى يوسف بن عمر : ابعث إليّ برجل له علم بخراسان! فبعث إليه بعبد الكريم بن سليط الحنفي التميمي. فسأله عن أمر خراسان وأهلها ومَن بها ممّن يصلح أن يوليه عليها. فكان إذا سمّى له رجلاً من ربيعة قال : إنّ ربيعة لا يُسدّ بها الثغور! ولمّا سمّى له نصر بن سيّار الليثي تفأل باسمه وقال : كأ نّه نصر وسيّار! وكان على كورة من كور خراسان ، فالتفت هشام إلى الغلام وقال له : يا غلام اكتب عهده ، فكتب العهد له وولّاه البلد وعزل جعفر البهراني (٢).

وكتب هشام إلى نصر بشأن يحيى بن زيد ، فأَعدّ نصر جيشاً وجعل عليهم هُدبة بن عامر السعدي ووجّهه بهم إلى يحيى في بلخ ، فطلبوه حتّى ظفروا به فأتوا به إلى نصر فحبسه في حصن في مرو يسمّى «كُهندژ» (٣) أي القلعة القديمة.

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٣٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٦ ـ ٣٢٧.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٦.

١٣٨

وأعقب هشاماً ابن أخيه الوليد :

كان يزيد بن عبد الملك قد عقد ولاية العهد لأخيه هشام ثمّ لابنه الوليد ، وظهر من الوليد استخفاف بالدين وتهاون به وشرب الشراب والمجون ، فبدأ هشام يعتبه وينتقصه ويقصّر به ويتنكّر له (١).

وكانت الملاحاة لا تزال تجري بينه وبين هشام ، حتّى دخل الوليد يوماً على هشام فلم يجده في مجلسه ، ثمّ خرج هشام فلم يقم له الوليد ، فقال له هشام : كيف أنت يا وليد؟ قال : صالح! قال : ما فعلت طنابيرك وما فعل جلساؤك جلساء السوء؟! قال : إن كانوا شرّاً من جلسائك فعليهم لعنة الله! فغضب هشام وقال للغلام : أقيموه! فأخذوا بيده وأقاموه من مجلسه (٢).

فكان الوليد يقول لأصحابه : إنّ أبي قدّم هذا العمّ المشؤوم على أهل بيته فصيّره وليّ عهده ، ثمّ هو يصنع بي ما ترون ، لا يعلم أنّ لي في أحد هوى إلّاعبث به. ثمّ خرج بهم ومعه ناس من خاصّته ومواليه إلى قرية في بريّة الشام تسمّى الأزرق ، فلم يزل مقيماً بها حتّى مات هشام (٣).

في يوم الأربعاء التاسع من شهر ربيع الأول سنة (١٢٥ ه‍) وله ثلاث وخمسون سنة ، وكان بخيلاً حسوداً فظّاً غليظاً ، شديد القسوة ، بعيد الرحمة ، طويل اللسان (٤).

وقال المسعودي : توفي في الرُّصافة من أرض قنّسرين بالبرّ وكان أحول خشناً فظّاً غليظاً (٥) وكان أبيض إلى الصفرة ، وأحول شديد الحوَل ، خشن الجانب ،

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول لابن العربي : ١١٧.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٧.

(٣) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١١٧.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٨.

(٥) مروج الذهب ٣ : ٢٠٥.

١٣٩

شكِس الأخلاق ، جامعاً للأموال وقليل البذل للنوال ، ربعة من الرجال حسن البدن يخضب لحيته بالسواد (١) فشا الطاعون في زمانه حتّى هلك عامّة الناس! وذهب البقر والدّواب. وصُنع له أصناف الثياب الأرمني والوشمي والخزّ وغيره (٢) فسلك الناس في أيّامه مذهبه فمنعوا ما في أيديهم وقلّ الإفضال وانقطع الرّفد ، فلم يُرَ زمان أصعب من زمانه! وكان يستجيد الخيل ويقيم حلبات السباق بها ، حتّى اجتمع له فيها من خيله وغيره أربعة آلاف فرس ، ولم يعرف ذلك لأحد من الناس في جاهلية ولا إسلام. واصطنع الرجال وعُدد الحرب وقوّى الثغور ، واتّخذ القنوات والبُرك في طريق الحجّ إلى مكّة (٣).

ولمّا دخل هشام في سكرات الموت ، ركب رجلان من البريد من الرُّصافة إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك في قرية الأزرق فسلّما عليه بالخلافة ، فوجم ثمّ قال : أمات هشام؟! قالا : نعم ، فأرسلهم إلى الخزّان : أن احتفظوا بما في أيديكم! وكان له كاتب في سجن هشام يدعى عياض فخرج من سجنه وختم أبواب الخزائن ، فأفاق هشام وطلب شيئاً فمنعوه! فقال : إنّا لله! كأ نّا كنّا خُزّاناً للوليد! ثمّ مات. فأنزله عياض عن فراشه! وما وجدوا له قمقماً يسخّن له فيه الماء لغسله حتّى استعاروه ولا وجدوا له كفناً حتّى كفنه مولاه غالب ، والوليد يُنشد :

كِلناه بالصاع الذي كاله

وما ظلمناه به إصبعا (٤)!

__________________

(١) التنبيه والاشراف : ٢٧٩

(٢) تاريخ اليعقوبى ٢ : ٣٢٨.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٢٠٥.

(٤) تاريخ مختصر الدول ١١٧

١٤٠