موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

ثمّ قال : وكيف ينصّ الصادق عليه‌السلام على إسماعيل بالإمامة مع قوله فيه : أنّه «عاص لا يشبهني ولا يشبه أحداً من آبائي» ثمّ ذكر الخبرين السابقين في ذلك (١).

ومع كل ذلك أقام على القول بحياته واستخلافه الامامة شرذمة من الأباعد والأطراف ، ولم يكونوا من خاصة الصادق عليه‌السلام ولا من الرواة عنه ، ويقول المفيد عنهم : وهم اليوم شذّاذ لا يُعرف منهم أحد يومى إليه.

ثمّ ادّعى ابنه محمد الإمامة في أبيه وبعده فيه ، فانتقل فريق منهم إلى هذا وسُمّوا بالإسماعيلية ، والمعروف اليوم منهم هم الذين يزعمون أنّ الإمامة بعد إسماعيل في ولده محمد ثمّ في ولده إلى آخر الزمان (٢).

وكانت وفاة إسماعيل في سنة (١٤٢ ه‍) أي قبل وفاة الصادق بستّ سنين (٣) وسنّ موسى الكاظم عليه‌السلام في المراهقة دون الحلم ، إذ كان يوم وفاة أبيه دون العشرين عاماً.

ومن أخبار المنصور :

خرج المنصور في سنة (١٤٢ ه‍) إلى البصرة للحج ، وعند الجسر الكبير بها أتاه الخبر بأن أهل اليمن وثبوا على عاملهم عبد الله بن الربيع وضعف عنهم فهرب منهم. وأن عامل السند عيينة بن موسى التميمي خلعه وتمرّد. فوجّه بعمر بن حفص هزارمرد وعسكر معه إلى السند ، ووجّه بمعن بن زائدة الشيباني وعسكر معه إلى اليمن ، وانصرف المنصور عن الحجّ ينتظر أخبارهم.

__________________

(١) كمال الدين : ٦٩ ، ٧٠.

(٢) الارشاد ٢ : ٢١٠ وانظر شرح الأخبار للقاضي الإسماعيلي ٣ : ٣٠٩ ، ٣١٠ ثمّ ٣٤٩ ـ ٤٤١.

(٣) تحفة الأزهار لابن شدقم ، كما في منتهى الآمال المعرّب ٢ : ٢٠٨.

٢٨١

فقدم معن إلى اليمن وقتل منهم قتلاً فاحشاً وأقام بها تسع سنين ، وتوجه عمر هزار مرد إلى الديبل ، وطلب عيينة الصلح فصالحه وبعث به إلى المنصور ، فهرب منهم في الطريق إلى الرُّخج من سجستان ، فقتله قوم من اليمانية وذهبوا برأسه إلى المنصور وأقام عمر هزارمرد بالمنصورة سنتين.

ثمّ ولّى المنصور عليها هشام بن عمرو التغلبي ، فاستخلف عليها أخاه بسطاماً ، وتوجّه بعسكره إلى الملتان ، وخرج إليه صاحبها بعسكره فكانت بينهما وقعة عظيمة وانهزم صاحب ملتان ، فدخلها هشام وسبى منها سبياً كثيراً ، وعمل السفن على نهر السند وحمل عليها عسكره إلى القندهار حتّى فتحها وسبى منها أيضاً ، وهدم صنمهم وبنى بموضعه مسجداً ، وقدم إلى المنصور بما لم يقدم به أحد من السند (١).

وفي هذه السنة وهي سنة (١٤٤ ه‍) انصرف المهدي من خراسان إلى العراق ، فخرج المنصور لاستقبال ابنه المهدي إلى نهاوند ، ثمّ عاد به إلى الهاشمية ثمّ الكوفة ثمّ الحيرة ، وبها عائلة عمّه السفّاح وابنته ريطة وتزوّجها هناك (٢).

عصر تدوين كتب العلوم :

قال الذهبي : إلى ما قبل هذا العصر كان الأئمة يروون العلم من صحف غير مرتبة ، أو يتكلمون من حفظهم ، وفي سنة (١٤٣ ه‍) شرع علماء الإسلام بتدوين الحديث والفقه والتفسير : فصنّف ابن جُريح بمكة ، ومالك الموطّأ بالمدينة (وقد مرّ خبره) والأوزاعي بالشام ، وابن أبي عروبة وحمّاد بن سلمة وغيرهما بالبصرة ، ومعمّر باليمن ، وسفيان الثوري وأبو حنيفة بالكوفة.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧١ ـ ٣٧٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٤.

٢٨٢

ودوّنت كتب اللغة والعربية والتاريخ ، وصنّف محمّد بن إسحاق المغازي (١).

دخل ابن اسحاق على المنصور بالحيرة وبين يديه ابنه المهدي ، فقال له المنصور : يابن اسحاق أتعرف هذا؟ قال : نعم ، هذا ابن أمير المؤمنين! قال : فاذهب وصنّف له كتاباً منذ خلق الله تعالى آدم عليه‌السلام إلى يومك هذا! فذهب ابن اسحاق وصنّف له كتاباً مطوّلاً وجاءه به ، فلمّا رآه المنصور قال : يابن اسحاق لقد طوّلته ، اذهب فاختصره. فاختصره (٢) ثمّ سمع منه ذلك أهل الكوفة (٣) منهم راويته الكوفي زياد بن عبد الله البَكّائي (١٨٣ ه‍) وقد قيل : إن لقاء ابن اسحاق بالمنصور وتعريفه بابنه المهدي وتكليفه بالكتابة له كان قبل إرسال المهدي إلى الريّ سنة (١٤١ ه‍) فكلّف المنصور ابن اسحاق بملازمة ابنه المهدي ، فصحبه طويلاً وسافر معه إلى خراسان حيث حدّث بالريّ وأملى وممن استملى منه في الريّ يونس بن بكير (م ١٩٩ ه‍) ومن روايته عن سلمان الفارسي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن علياً خير الوصيين ، وسبطاه خير الأسباط (٤)! وابن اسحاق معدود في كتب رجال الشيعة من رواة السجاد والباقر والصادق عليهم‌السلام (٥).

وأسّس بغداد العاصمة :

وفي هذه السنة (١٤٤ ه‍) صار المنصور إلى بغداد وقال : ما أرى موضعاً أصلح لبناء مدينة من هذا الموضع بين دجلة والفرات ، والبصرة والابلّة وفارس

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣١٦.

(٢) انظر مقدمة سيرة ابن هشام ١ : ي.

(٣) معجم الأُدباء ١٨ : ٦ ، ووفيات الأعيان ٤ : ٢٧٧.

(٤) مقدمة سيرة ابن اسحاق لسهيل زكار : ١٣.

(٥) راجع موسوعة التاريخ الإسلامي ١ : ٢٨ ـ ٣١.

٢٨٣

وما والاها ، والموصل والجزيرة والشام ، ثمّ مصر والمغرب ، والجبال وخراسان. وفي غرب دجلة اختطّ المدينة مدوّرة ولها أربعة أبواب : باب على دجلة إلى خراسان ، وباب على نهر الصراة التي تأخذ من الفرات وتصبّ في دجلة ، هي باب البصرة ، وباب إلى الكوفة ، وباب إلى الشام. وعرض أسفل السور سبعون ذراعاً ، وعلى كل باب قباب مذهّبة! يُصعد إليها بالخيل! وأحضر لبنائها البنّائين والمهندسين والفعلة من كل بلد ، ثمّ أقطع مواليه وقواده القطائع داخل المدينة ، فدروب المدينة تُنسب إليهم ، وأقطع آخرين على أبواب المدينة ، وأقطع الجند أرباض المدينة وأخذهم بالبناء (١).

ولما عزم على البناء أمر بنقض المدائن وايوان كسرى ، فنقضت ناحية من القصر الأبيض وحُمل نقضه إلى بغداد ، فنظروا فكان مقدار ما يلزمهم لنقضه وحمله أكثر من ثمن الجديد فأعرضوا عنه. وجعل بغداد مدورة لكي لا يكون بعض الناس أقرب إلى السلطان من بعض! وعمل لها سورين الخارج أقصر والداخل أعلى ، وبنى قصره في وسطها وبجنبه المسجد الجامع وقبلته منحرفة إلى باب البصرة (٢)! وكان يعمل له لبناء بغداد في كل يوم خمسون ألف رجل (٣).

وقيل : إن الذي عيّن له موقع بغداد هو المنجّم الفارسي نوبخت ، واصطحبه المنصور وهو أوّل خليفة اصطحب المنجّمين وعمل بأحكام النجوم ، كما يأتي عن السيوطي في وفاة المنصور.

ولما ضعفت صحة نوبخت قال له المنصور : أحضر ابنك ليقوم مقامك ، فأحضره وكان اسمه طويلاً بالفارسية ، فقال له : كل ما ذكرت فهو اسمك؟

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٣ ـ ٣٧٤.

(٢) تاريخ مختصر الدول لابن العبري : ١٢٢.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٣٠٨.

٢٨٤

قال : نعم! قال : ما صنع أبوك شيئاً ، فخيّره بين اختصار اسمه وبين تكنيته بأبي سهل ، فتكنّى بأبي سهل وعرف بأبي سهل النوبختي نسبة إلى أبيه (١).

وفي سنة (١٤٤ ه‍) توفي في الكوفة من فقهائها وقضاتها عبد الله بن شبرمة الضبي (٢) وله أخبار مع الصادق عليه‌السلام :

الصادق عليه‌السلام وابن شُبرمة :

عبد الله بن شُبرمة الضبّي ، عدّه الطوسي في أصحاب السجاد عليه‌السلام (٣) فله سابق معرفة بالصادق عليه‌السلام ، ويظهر من خبر في «الكافي» أنّ بني العباس استقضوه في أوّل أمرهم بالكوفة ، فلما استقدموا الصادق عليه‌السلام إلى الحيرة للسفاح ، خرج يوماً منها إلى عيسى العباسي بالكوفة فالتقى به بينهما ومعه قاضيه ابن شبرمة ، وقال هذا له : يا أبا عبد الله ، سألني الأمير عن شيء لم يكن عندي فيه شيء ... (٤).

وحجّ على عهد الصادق عليه‌السلام ودخل مسجد الخيف بمنى فرأى الصادق عليه‌السلام في حلقة فيها نحو مئتي رجل ، فدخل فيهم وقال : يا أبا عبد الله ، إنا نقضي بالعراق (وكأنه لا يعرفه) فنقضي بما نعلم من الكتاب والسنة ، ولكن قد ترد علينا المسألة فنجتهد فيها بالرأي؟

فأعرض عنه الصادق عليه‌السلام إلى من عن يمينه يحدّثهم ، فلمّا رأى الناس ذلك أقبل بعضهم على بعض وتركوا الإنصات وتحدثوا ما شاء الله.

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٢٥ ، وانظر مقدمة فِرق الشيعة لمحمد بن موسى النوبختي.

(٢) رجال الطوسي : ٩٧ ، والكنى والألقاب ١ : ١٩٨ ، وقاموس الرجال ٦ : ٣٩٧ ، وانظر تاريخ خليفة : ٢٧٦.

(٣) رجال الطوسي : ٩٧.

(٤) الكافي ٧ : ٣٧٨.

٢٨٥

ثمّ قال ابن شُبرمة : يا أبا عبد الله ، إنا قضاة العراق! نقضي بالكتاب والسنة ، وترد علينا أشياء نجتهد فيها بالرأي؟

فأعرض عنه الصادق عليه‌السلام إلى من عن يساره يحدثهم ، ولما رأى الناس ذلك تركوا الإنصات وأقبل بعضهم على بعض يتحدثون.

فمكث ابن شُبرمة ماشاء الله ثمّ عاد لمثل قوله ، ففي هذه المرّة الثالثة أقبل عليه أبو عبد الله وقال له : أي رجل كان علي بن أبي طالب؟ فقد كان عندكم بالعراق ولكم به خبر. فقال ابن شبرمة فيه إطراءً وقولاً عظيماً. فقال له أبو عبد الله : فإن علياً أبى أن يُدخل الرأي في دين الله ، وأن يقول في شيء من دين الله بالرأي والمقاييس (١).

وحجّ المنصور ومعه عدّة من الفقهاء والقضاة فيهم ابن شُبْرمة ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وفي الطواف أخبره حاجبه الربيع بن يونس أن أحد مواليه مات وأحد مواليه قطع رأسه بعد موته! فسأل الفقهاء والقضاة : ما تقولون؟ فقالوا : ما عندنا في هذا شيء! ثمّ رأوا الصادق عليه‌السلام دخل السعي فأخبروا به المنصور فقال للربيع : إذهب إليه وسله عن ذلك.

فلحقه الربيع وسأله عن ذلك فقال : قل له : عليه مئة دينار. فرجع الربيع وأبلغ المنصور ذلك فقالوا له : فاسأله : كيف صار عليه مئة دينار؟ فرجع إليه فسأله ذلك فقال : في النطفة عشرون وفي العلقة عشرون وفي المضغة عشرون وفي العظم عشرون وفي اللحم عشرون ، ثمّ أنشأه الله خلقاً آخر ، وهذا ميت بمنزلة جنين قبل أن ينفح الروح في بطن أُمه.

__________________

(١) المحاسن للبرقي ١ : ٣٣٢ ، الحديث ٧٧.

٢٨٦

فرجع إليه فأخبره بالجواب فأعجبهم ذلك ، ثمّ قالوا : ارجع إليه وسله : هل الدية لورثته؟ أم لا؟ فرجع وسأله ذلك فقال : لا ، لأنه اتي إليه في بدنه بعد موته ، فيُحجّ بها عنه أو يُتصدّق بها أو تصيَّر في سبيل من سُبل الخير (١).

وكما ألجأتهم مواجهة دعاوى عبد الله بن الحسن إلى الاستناد أحياناً إلى مصحف امهم فاطمة ، كذلك ألجأتهم مواجهة هؤلاء الفقهاء والقضاة أصحاب القياس والرأي ، إلى الاستناد إلى «الجامعة».

فقد روى الكليني بسنده عن أبي شيبة قال : سمعت أبا عبد الله يقول : ضلّ علم ابن شُبْرمة عند «الجامعة» فهو إملاء رسول الله وخط علي عليهما‌السلام ، إن «الجامعة» لم تدع لأحد كلاماً ، فيها علم الحلال والحرام (٢).

وتوفي في موسم الحج من هذه السنة (١٤٤ ه‍) عمرو بن عُبيد الكابلي مولى تيم البصرة المعتزلي صاحب الحسن البصري في مرّان (٣) قرب مكة.

ذكر ذلك الليثي البصري والمسعودي ولم يعيّنا قبل الموسم أم بعده. ويظهر من خبر ذكره الأموي الزيدي : أن ذلك كان بعد الموسم :

دعوة الحسني ومعتزلة البصرة :

قال : اجتمع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد المعتزليان في دار عثمان بن عبد الرحمن المخزومي البصري فتذاكروا الجور ، فقال عمرو : فمن يقوم بهذا الأمر ممن يستوجبه وهو له أهل؟ فقال واصل : يقوم به من أصبح خير هذه الأُمة! محمّد بن عبد الله بن الحسن! فقال عمرو : ما أرى أن نبايع ولا أن نقوم إلّا

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٨٥.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٧٥.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٧٦ ، ومروج الذهب ٣ : ٣٠٣.

٢٨٧

مع من اختبرناه وعرفنا سيرته. فقال واصل : والله لو لم يكن في محمّد بن عبد الله أمر يدل على فضله إلّاأن أباه عبد الله بن الحسن قد رآه أهلاً لهذا الأمر وقدّمه فيه على نفسه ، في سنّه وفضله وموضعه ، لكان يستحق ذلك ، فكيف بحال محمّد في نفسه وفضله!

ثمّ خرج هذان وجماعة من معتزلة البصرة معهما إلى موسم الحج فأتوا إلى عبد الله بن الحسن في السويقة ، فسألوه أن يخرج لهم ابنه محمّداً ليكلّموه. فضرب عبد الله لهم فسطاطاً ، وشاور ثقاته فاجتمعوا على أن يخرج إليهم أخاه إبراهيم ، فأخرجه إليهم وعليه ريطتان وبيده عُكازة حتّى أوقفه عليهم ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ ذكر أخاه محمّداً وحاله ودعاهم إلى بيعته.

فقالوا : اللهمّ انا نرضى برجل هذا رسوله! فبايعوه ثمّ انصرفوا إلى البصرة (١).

فيظهر من هذا الخبر أن ذلك كان بعد الموسم ، فلمّا وصلوا إلى مرّان مات عمرو بن عبيد! وهذا الخبر يفسّر لنا سوابق معتزلة البصرة لاستقبال إبراهيم الحسني داعية لأخيه محمّد. ويظهر منه أيضاً تواصل واصل لهذه الدعوة من قبل ، ومدى أثره في عمرو ، وأ نّه كان أكثر أثراً من كلام هشام بن الحكم مع عمرو في الإمامة قبل هذا ، كما يلي :

كلام هشام وعمرو بن عُبيد :

مرّ الخبر عن حج الإمام الصادق عليه‌السلام ، وأ نّه قبل المواقف كان يضرب له خيمة صغيرة بسفح جبل في طرف الحرم ، واجتمع عنده من أصحابه حُمران بن

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ١٩٦.

٢٨٨

أعين مولى شيبان ومؤمن الطاق محمّد بن علي وهشام بن سالم الجواليقي وحمزة الطيّار مولى فزارة وجماعة فيهم هشام بن الحكم مولى كندة وهو شاب ، وسمع شامي بصيت علم الصادق عليه‌السلام فجاءه يناظره فأجلسه الإمام ، وقال لهشام : يا هشام! قال : لبيّك يابن رسول الله. قال : ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عُبيد وكيف سألته؟

فقال هشام : إني اجلّك واستحيي منك فلا يعمل لساني بين يديك!

قال الصادق عليه‌السلام : إذا أمرتكم بشيء فافعلوه. فقال هشام : نعم ، بلغني ما كان فيه عمرو بن عُبيد وجلوسه في مسجد البصرة ، وعظم ذلك عليّ! فخرجت إليه حتّى دخلت البصرة يوم الجمعة ، وأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة حول عمرو بن عُبيد وهم يسألونه وعليه شملة صوف سوداء مئتزراً بها (فلعلّها رسمية عباسية) وشملة هو مرتد بها. فقعدت في آخر القوم.

ثمّ جثوت على ركبتي وقلت : أيها العالم! أنا رجل غريب فأذن لي أن أسألك مسألة. قال : نعم. قلت له : ألك عين؟ قال : يا بُني! أي شيء هذا من سؤال؟ قلت : هكذا مسألتي. قال : يا بني سل وإن كانت مسألتك حمقاء! قلت : أجبني فيها. قال : نعم. قلت : فما ترى بها؟ قال : الأشخاص والألوان. قلت : فلك أنف؟ قال : نعم. قلت : فما تصنع به؟ قال : أشمّ به الرائحة ، قلت : فلك فم؟ قال : نعم. قلت : فما تصنع به؟ قال : أذوق به الطعم. قلت : ألك قلب؟ قال : نعم. قلت : فما تصنع به؟ قال : اميّز به كل ما ورد على هذه الجوارح. قلت : أليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ قال : لا. قلت : وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟ قال : يا بني ، الجوارح إذا شكّت في شيء رأته أو ذاقته أو شمّته ، ردّته إلى القلب فيتيقّن اليقين ويبطل الشك. قلت وإنّما أقام الله القلب لرفع شك الجوارح؟ قال : نعم. قلت : فلابدّ من القلب وإلّا لم تستيقن الجوارح؟ قال : نعم.

٢٨٩

فقلت له : يا أبا مروان! إن الله لم يترك جوارحك حتّى جعل لها إماماً يصحّح لها الصحيح ويتيقّن لها ما شكّت فيه ، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكّهم واختلافاتهم لا يقيم لهم إماماً يردّون إليه شكّهم وحيرتهم ، ويقيم لك إماماً لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكّك؟!

فسكت هنيهة ثمّ التفت إليّ وقال لي : أنت هشام؟ قلت : لا! قال : أجالسته؟ قلت : لا. قال : فمن أين أنت؟ قلت : من الكوفة. قال : إذن فأنت هو! ثمّ دعاني إليه حتّى أضمّني إليه وأقعدني في مجلسه! وما نطق حتّى قمت.

فضحك الصادق عليه‌السلام ثمّ قال : يا هشام ، مَن علّمك هذا؟ قلت : يابن رسول الله هو شيء جرى على لساني! فقال : يا هشام ، هذا مكتوب ـ والله ـ في صحف إبراهيم وموسى (١).

ومن حوادث سنة (١٤٤ ه‍) حجّ المنصور وقبضه على آل الحسن وكبيرهم عبد الله بن الحسن ، وله أخبار مع الصادق عليه‌السلام قبل ذلك ، فإليها :

عبد الله بن الحسن والصادق عليه‌السلام :

روى الحلبي عن عبد الرحمن بن كثير الكوفي القرشي قال : نظر الصادق عليه‌السلام إلى رجل قصده فقال له : يا هذا ، إنك دخلت مدينتنا هذه تسأل عن الإمام ، فاستقبلك فتية من ولد الحسن عليه‌السلام فأرشدوك إلى عبد الله بن الحسن ، فسألته هنيهة ثمّ خرجت. ثمّ استقبلك فتية من ولد الحسين عليه‌السلام فقالوا لك : يا هذا إن رأيت أن تلقى جعفر بن محمّد فافعل. فقال : كان كما ذكرت. قال : فارجع إلى عبد الله بن الحسن فاسأله عن عمامة رسول الله ودرعه. فذهب الرجل.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٧١ ـ ٢٧٣ ، الحديث ٤٩٠ ، ومنه الحديث : ٤٩٤.

٢٩٠

ورجع إلى الصادق عليه‌السلام فأخبره أنّه ذهب فسأله عن عمامة رسول الله ودرعه فأخرج من كندوجه (صندوقه) درعاً فلبسها وقال : هكذا كان رسول الله يلبس الدرع.

فقال الصادق عليه‌السلام : ما صدق! ثمّ أخرج خاتمه فضرب به الأرض فإذا بدرع وعمامة سقطا من جوف الخاتم (١).

وكثير من بقايا الزيدية كانوا قد التفّوا حول عبد الله المحض أملاً في خروج ابنه محمّد ، ومنهم عبد الله النجاشي ، ودخل هذا يوماً على الصادق عليه‌السلام ـ مع صاحبه عمار السجستاني ـ فقال له : اتذكر يوماً مررت على دار قوم سال ميزابهم عليك ، فطرحت نفسك في النهر بثيابك فاجتمع عليك الصبيان يصيحون عليك ويضحكون منك؟! فما دعاك إلى ما صنعت؟! وخرج من عنده فقال لصاحبه عمار : يا عمّار ، هذا صاحبي لا غيره (٢) يعني عبد الله بن الحسن.

وبمثل ذلك اهتدى إليه محمّد بن الأشعث الكوفي وابنه جعفر ، فقال هذا يوماً لصفوان بن يحيى : إن سبب دخولنا في هذا الأمر : أن المنصور قال لأبي : محمّد بن الأشعث : يا محمّد ، ايتني برجل له عقل يؤدي عني! فعرّفه بخاله فلان بن مهاجر ، قال : فأتني به. فأتاه بخاله. فقال له : يابن مهاجر ؛ خذ هذا المال واذهب به إلى المدينة ، فالق عبد الله بن الحسن وجعفر بن محمّد وأهل بيتهما وقل لهم : إني رجل غريب من خراسان ، وبها شيعة من شيعتكم ، وقد وجّهوا إليكم بهذا المال ، فادفع إلى كل واحد منهم كذا وكذا وقل : إني رسول وأُحب أن يكون معي خطوطكم بقبض ما قبضتم.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٤١ فهي كانت عندهم إعجازياً وليس عادياً طبيعياً.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٤٠.

٢٩١

فأخذ المال ومضى ، فلمّا رجع قال للمنصور : هذه خطوطهم بقبض الأموال ، ما خلا جعفر بن محمّد ، فإني رأيته يصلّي في مسجد الرسول فجلست خلفه وقلت في نفسي : ينصرف فاذكر له ذلك.

فعجّل والتفت إليّ وقال له : يا هذا ، قل لصاحبك : اتقِ الله ولا تغرّ أهل بيت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنهم قريبو عهد بدولة بني مروان وكلهم محتاج! فقلت : وما ذاك أصلحك الله؟ قال : ادن مني ، فدنوت فأخبرني بجميع ما جرى بيني وبينك حتّى كأنه كان ثالثنا!

فقال المنصور : يابن مهاجر! اعلم أنّه ليس من «أهل بيت» نبوة إلّاوفيهم محدَّث ، وإن جعفر بن محمّد محدَّثنا اليوم!

فكانت هذه الدلالة سبب قولنا بهذه المقالة (١) يعني الإمامة.

هذا ما رواه الكليني مسنداً عن جعفر بن محمّد الأشعث عن خال أبيه فلان بن المهاجر ، إنّما فيه أنهم قالوا بإمامة الصادق عليه‌السلام وليس فيه أن ابن مهاجر هاجر ما كان عليه من القول.

بل أرسل الراوندي عن مهاجر بن عمار الخزاعي قال : بعثني أبو الدوانيق إلى المدينة بمال كثير وأمرني أن أتضرّع لأهل هذا البيت وأحفظ مقالتهم! فدخلت المسجد بالمدينة ولزمت الزاوية القبلية (الجنوبية) لم أكن اتنحّى عنها في ليل ولا نهار. وكان حول قبر الرسول سُوّال (يتسوّلون من الزائرين!) فأخذت إليهم الدراهم ، وإلى من هو فوقهم! الشيء بعد الشيء! حتّى أني ناولت شباباً من بني الحسن ومشيختهم ، وحتّى أني تأ لّفتهم وتأ لّفوني سرّاً!

ثمّ بعد ما نلت حاجتي ممن كنت اريد من بني الحسن وغيرهم ، دنوت من أبي عبد الله (الصادق عليه‌السلام) وهو يصلي ـ ولم أكن أتسمّى باسمي ولا أتكنّى لهم ـ

__________________

(١) اصول الكافي ١ : ٤٧٥ ، الحديث ٦.

٢٩٢

فلمّا قضى صلاته التفت إليّ وناداني : تعال يا مهاجر! وقال لي : قل لصاحبك : يقول لك جعفر : كان أهل بيتك إلى غير هذا أحوج منهم إلى هذا! تجيء إلى قوم شباب محتاجين فتدسّ إليهم ، فلعلّ أحدهم يتكلم بكلمة تستحلّ بها سفك دمه؟! فلو بررتهم ووصلتهم وأغنيتهم كانوا إلى هذا أحوج مما تريد منهم!

فلمّا أتيت أبا الدوانيق قلت له : جئتك من عند ساحر كذاب كاهن ، كان من أمره كذا وكذا! فقال : صدق والله! لقد كانوا إلى غير هذا أحوج! ثمّ قال لي : وإياك أن يسمع هذا الكلام منك إنسان (١)!

وعليه فقد أعدّ المنصور العدّة لآل الحسن بأسوأ التقارير بل الأقارير إن صحّ التعبير ، ولذا أخذهم أخذ جائر جابر.

دعوة الحسني ، وموقف الصادق عليه‌السلام :

روى الكليني بسنده عن موسى بن عبد الله الحسني : أن أخاه محمّداً كان قد اختفى في جبل الأشقر من جبال جُهينة على ليلتين من المدينة. وفي أواخر سنة (١٤٤ ه‍) أخذ أبوه عبد الله في أمره وأجمع على لقاء أصحابه ، ورأى أنّه لا يستقيم أمره إلّابلقاء الصادق عليه‌السلام.

قال موسى : فانطلقت معه حتّى أتينا أبا عبد الله عليه‌السلام فلقيناه خارجاً يريد المسجد ، فاستوقفه أبي وكلّمه ، فقال له أبو عبد الله : ليس هذا موضع ذلك ، نلتقي إن شاء الله. فرجع أبي مسروراً ، وأقام حتّى إذا كان الغد أو بعده بيوم.

انطلقنا حتّى أتيناه فدخل عليه أبي وأنا معه ، فابتدأ الكلام وقال : قد علمت جعلت فداك أن السنّ لي عليك! وأن في قومك من هو أسنّ منك ، ولكن الله عزوجل قد قدّم لك فضلاً ليس هو لأحد من قومك! وقد جئتك معتمداً

__________________

(١) الخرائج والجرائح ٢ : ٦٤٦.

٢٩٣

لما أعلم من برّك ، واعلم ـ فديتك ـ أنك إذا أجبتني لم يتخلّف عني أحد من أصحابك ، ولم يختلف عليّ اثنان ، من قريش ولا غيرهم.

فقال له أبو عبد الله : إنك تجد غيري أطوع لك منّي ، ولا حاجة لك فيّ ؛ فوالله إنك لتعلم أني اريد البادية أو أهمّ بها فأثقل عنها ، وأُريد الحجّ فما ادركه إلّا بعد كدّ وتعب ومشقة على نفسي! فاطلب غيري وسله ذلك ، ولا تُعلمهم أنك جئتني.

فقال له : إن الناس مادّون أعناقهم إليك ، وإن أجبتني لم يتخلّف عنّي أحد ، ولك أن لا تكلَّف قتالاً ولا مكروهاً. وهجم علينا ناس فدخلوا وقطعوا كلامنا ، فقال أبي : جُعلت فداك ما تقول؟ قال : نلتقي إن شاء الله. فقال : أليس على ما احب؟! فقال : على ما تحب إن شاء الله من صلاحك. فانصرف حتّى جاء البيت ، فبعث رسولاً إلى محمّد أعلمه أنّه قد ظفر له بوجه حاجته وما يطلب!

ثمّ عاد بعد ثلاثة أيام فدخلنا عليه فجلست أنا في ناحية الحجرة ، ودنا أبي إليه فقبّل رأسه ثمّ قال له :

جعلت فداك قد عدت إليك راجياً مؤمّلاً ، قد انبسط رجائي وأملي ، ورجوت درك حاجتي!

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : يابن عم ، إني اعيذك بالله من التعرّض لهذا الأمر الذي أمسيت فيه! وإني لخائف عليك أن يُكسبك شرّاً ؛ فلمّا قال الصادق عليه‌السلام ذلك جرى الكلام بينهما حتّى أدّى بأبي إلى ما لم يكن يريده من قوله : بأي شيء كان الحسين أحقّ بها من الحسن؟!

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : رحم الله الحسن ورحم الحسين ، ولكن كيف ذكرت هذا؟

قال : لأن الحسين عليه‌السلام إذا كان يعدل كان ينبغي له أن يجعل (الوصية) في الأسنّ من وُلد الحسن!

٢٩٤

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن الله تبارك وتعالى لما أن أوحى إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أوحى إليه بما شاء ولم يؤامر أحداً من خلقه ، وأمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله علياً عليه‌السلام بما شاء ففعل ما امر به ، ولسنا نقول فيه إلّاما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من تبجيله وتصديقه ، فلو كان آمرَ الحسينَ أن يصيّرها (الوصية) في الأسنّ أو ينقلها في ولدهما لفعل ذلك الحسين ، وما هو بالمتّهم عندنا بالذخيرة لنفسه! ولكنّه مضى لما أُمر به ، وهو عمّك ، فإن قلت فيه خيراً فما أولاك به ، وإن قلت هُجراً فيغفر الله لك.

أطعني ـ يابن عمّ ـ واسمع كلامي ، فوالله الذي لا إله إلّاهو لا آلوك نُصحاً وحرصاً ، ولا أراك تفعل ، وما لأمر الله من مردّ! والله إنك لتعلم أنّه الأحول الأكشف الأخضر المقتول بسُدّة أشجع عند بطن مسيلها!

فقال أبي : ليس هو ذلك ، وليقومنّ بثار بني أبي طالب جميعاً ، والله ليجازين بالسنة سنة وباليوم يوماً وبالساعة ساعة!

فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : يغفر الله لك! ما أخوفني أن يلحق بصاحبنا هذا البيتُ : «منّتك نفسك في الخلاء ضلالاً» لا والله لا يملك أكثر من حيطان المدينة ، وحتّى إذا أحفل وأجهد لا يبلغ عمله الطائف ، ولابدّ للأمر أن يقع! فاتّقِ الله وارحم نفسك وبني أبيك ، فوالله إني لأراه أشأم شيء أخرجه أصلاب الرجال إلى أرحام النساء! والله إنّه المقتول بسُدّة أشجع بين دورها! والله لكأ نّي به صريعاً مسلوباً بزّته!

قال موسى : ثمّ التفت إليّ وقال : ولا ينفع هذا الغلام ما يسمع! وليخرجنّ معه فيقتل صاحبه ويهزم هذا ويمضي. وتخرج معه راية اخرى ـ بالبصرة ـ فيقتل كبشها ويتفرّق جيشها! ولقد علمت بأن هذا الأمر لا يتم ، وإنك لتعلم ونعلم أن ابنك الأحول الأخضر الأكشف ، المقتول بسُدّة أشجع بين دورها عند بطن مسيلها! فإن أطاعني فليطلب عند ذلك الأمان من بني العباس حتّى يأتيه الله بالغريم.

٢٩٥

فقام أبي وهو يقول : بل يغني الله عنك ... وما أردت بهذا إلّاامتناع غيرك وأن تكون ذريعتَهم إلى الامتناع عنّا!

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : الله يعلم ، ما اريد إلّانصحك ورشدك ، وما عليّ إلّا الجهد. فأدبر أبي يجرّ ثوبه مغضباً ، ولحقه أبو عبد الله عليه‌السلام وقال له : اخبرك أني سمعت عمّك ـ وهو خالك (١) ـ يذكر أنك وبني أبيك ستقتلون ، فإن أطعتني ورأيت أن تدفع بالتي هي أحسن فافعل ، فوالله الذي لا إله إلّاهو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الكبير المتعال على خلقه ، لوددت أني فديتك بأحبّ أهل بيتي وولدي إليّ! وما يعدلك عندي شيء ؛ فلا ترى أني غششتك! فخرج أبي من عنده مغضباً آسفاً (٢).

تحيّر المنصور لأخذ الأخوين :

نقل البلاذري : أنّ المنصور استشار وليّ العهد عيسى بن موسى العباسي في أمر محمد وإبراهيم ، قال : إنّ محمداً وإبراهيم قرّا في مكمنهما وهدءا في مربضهما يلتمسان لي الغوائل ويتربصان بي الدوائر ، وأنا أُريد أن أبعثهما من مربضهما واستنهضهما من مكمنهما وأنصب لهما الحرب فقد بهضني أمرهما. وظننت أني إذا أخذت أباهما وعمومتهما وقراباتهما أظهرا لي سلماً أو حرباً؟ فما الرأي فيما ذكرت لك؟

__________________

(١) لعلّه في الأصل : ابن عمك وهو ابن خالك ، وهو الباقر عليه‌السلام ، فام عبد الله فاطمة بنت الحسين ، فعلي بن الحسين خاله وهو ابن عمّه أيضاً. يريد تذكيره بانتسابه إليهم بالأب والأُم.

(٢) اصول الكافي ١ : ٣٥٨ ـ ٣٦١ ، الحديث ١٧.

٢٩٦

فقال عيسى : يا أمير المؤمنين! من الصواب أن تولّي المدينة رجلاً من أهل بيتك له مكر ونكر ، وتأمره بطلبهما والبحث عنهما وإذكاء العيون عليهما حتى يظفرك الله بهما!

فقال : يا أبا موسى ، إنهما لم يُظهروا عدواتهما لنا فهي باطنة ، فإن استكفيت أمرهما رجلاً من أهل بيتي منعته الرحم من المكروه إليهما وحجزته القرابة من طلبهما!

قال : فولّ المدينة رجلاً من خراسان له حدّ وجِد ، ومُره أن يقعد لهما بكل مرصد ولا يفتر عنهما!

فقال : يا أبا موسى ، إنّ محبة «آل أبي طالب» ممتزجة بمحبّتنا في قلوب أهل خراسان ، فإن ولّيت أمرها رجلاً من خراسان حالت محبته لهما بينه وبين طلبهما والفحص عنهما! ولكنّ أهل الشام قاتلوا علياً على أن لا يتأمر عليهم ثمّ مات علي وهلك الذين قاتلوه ، فقام من بعده بنوه يطلبون الأمر فقام أبناء أهل الشام الذين قاتلوه فمنعوا بنيه الأمر وسفكوا دماءهم ، للبغض الذي ورثوه عن آبائهم! فالرأي أن اولّي المدينة رجلاً من أهل الشام!

فولّاها رياح بن عثمان المرّي وشحذه على طلبهما.

فلما قدم المدينة صعد المنبر فقال لهم : يا أهل يثرب! لا مقام لكم فاربعوا! أنا ابن عم مسلم بن عقبة الفهري الشديد الوطأة عليكم! الوبيل الوقعة بكم! الخبيث السيرة فيكم! ثمّ أنتم اليوم عقب الذين حصدهم السيف! وايم الله لأحصدنّ منكم عقب الذين حصد! ولألبسنّ الذلّ عقب من ألبس (١).

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ١١٧ ـ ١١٨ ، الحديث ١١٨.

٢٩٧

اعتقال آل الحسن :

قال المسعودي : كان إخوة محمّد الحسني وولده قد تفرقوا في البلدان يدعون إلى إمامته وبيعته :

فمضى أخوه إبراهيم إلى البصرة (١) فأجابه الزيدية والمعتزلة بها والأهواز وغيرهما.

ومضى أخوه الآخر إدريس إلى المغرب فأجابه خلق من الناس فدسّ المنصور من سمّه ، وقام ابنه إدريس المثنّى مقامه فعُرفوا بالأدارسة.

ومضى أخوه الآخر يحيى إلى الريّ ثمّ طبرستان فظهر في أيام الرشيد.

وسار أخوه الآخر موسى إلى الجزيرة فلم يُعرف مصيره (٢).

وسار ابنه عبد الله ـ باسم جده ـ إلى خراسان ، فعُرف فطُلب فهرب إلى السند فقُتقل بها.

وتوجّه ابنه علي بن محمّد إلى مصر فقُتل بها.

وسار ابنه الحسن إلى اليمن فعُرف فطُلب واخذ فحُبس حتّى مات (٣).

وبلغ المنصور أن محمّداً قد تحرك وكاتب أهل البلدان وكاتبوه (٤) ، فخرج عام (١٤٤ ه‍) حاجاً ، وعاد من حجّه إلى الربذة دون المدينة ، وطلب

__________________

(١) هنا في المسعودي : ومعه عيسى بن زيد بن علي. بل هو كان على شرطة محمّد عند ظهوره بالمدينة ، كما يأتي.

(٢) كذا في المسعودي ، وقد مرّ عن الصادق عليه‌السلام أنّه يخرج مع محمّد فيهزم ، وأ نّه روى الخبر بعد ذلك بالمدينة.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٢٩٦.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٤.

٢٩٨

محمّداً فلم يظفر به ، فأخذ به أباه عبد الله مع جماعة من أهل بيته فأوثقهم في الحديد وحملهم إليه على الإبل بغير وطاء (١).

وروى الكليني بسنده عن موسى بن عبد الله الحسني قال : قدمت رسل المنصور فأخذوا أبي عبد الله بن الحسن ، وعمومتي : سليمان بن الحسن ، وحسن بن الحسن المثنى ، وإبراهيم بن الحسن وداود بن الحسن ، وعلي بن الحسن ، وسليمان بن داود ، وعلي بن إبراهيم ، وحسن بن جعفر بن الحسن ، وطباطبا إبراهيم بن إسماعيل بن الحسن ، وعبد الله بن داود. فصفّدوا في الحديد ، ثمّ حُملوا في محامل بلا وطاء ، واوقفوا بالمصلّى لكي يشتمهم الناس! فرقّ الناس لهم للحال التي هم فيها ، فانطلقوا بهم إلى باب جبرئيل (٢).

وروى عن خديجة بنت عمر بن علي بن الحسين : أنهم لما أوقفوهم عند باب جبرئيل طلع عليهم أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام ورداؤه يجرّ على الأرض غضباً والتفت إلى أبناء الأنصار وقال ثلاثاً : لعنكم الله يا معاشر الأنصار! ما على هذا عاهدتم رسول الله ولا بايعتموه! أما والله إن كنت حريصاً ـ أن لا يقع ـ ولكنّي غُلبت وليس للقضاء مدفع! ثمّ أدخل نعله في رجله والأُخرى بيده ورداؤه يجرّ على الأرض (٣).

وقال موسى : وتوجّه إلى المحمل الذي فيه أبي ، عبد الله بن الحسن يريد كلامه ، فأهوى إليه الحرسيّ ومنعه أشد منع ودفعه وقال له : تنحّ عن هذا! ـ فقال له الإمام عليه‌السلام ـ : إن الله سيكفيك ويكفي غيرك! فلم يخرج الحرسيّ بهم من زقاق (بني هاشم) إلى البقيع حتّى رمحته ناقته فدقت وركه فمات بها (٤)!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٠.

(٢) اصول الكافي ١ : ٣٦١.

(٣) اصول الكافي ١ : ٣٦١. وقارن بما في مقاتل الطالبيين : ١٤٨ ، ١٤٩.

(٤) اصول الكافي ١ : ٣٦١.

٢٩٩

وقالت خديجة : فحُمّ الإمام عليه‌السلام عشرين ليلة لم يزل يبكي الليل والنهار حتّى خفنا عليه (١).

واتي المنصور بهم ، وأحضر عبد الله وقال له : دلّني على ابنك (محمّد) وإلّا قتلتك!

فقال عبد الله : لقد امتُحنت بأشدّ مما امتحن الله به خليله إبراهيم! وإنّ بليّتي لأعظم من بليّته! لأن الله عزوجل أمره أن يذبح ابنه ، وكان ذلك طاعة لله عزوجل ومع ذلك قال : (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (٢)) وأنت تريد منّي أن أدلّك على ابني (محمّد) لتقتله! وقتله سخط لله!

فقال المنصور له : يابن اللخناء وأنت تقول هذا!

فقال عبد الله : ليت شعري أيّ الفواطم لخَّنت يابن سلامة! أفاطمة بنت الحسين (أُمه)؟! أم فاطمة بنت رسول الله؟! أم جدتي فاطمة بنت أسد بن هاشم جدة أبي؟! أم فاطمة ابنة عمرو بن عائد المخزومي جدّة جدتي؟!

قال المنصور : ولا واحدة من هؤلاء (٣)!

ويظهر من خبر الكليني عن موسى بن عبد الله الحسني كأنه لم يكن معهم إلى الربذة ، ويظهر من خبر أبي الفرج الإصفهاني بسنده عنه أنّه كان معهم قال : لما صرنا بالربذة أرسل المنصور إلى أبي أن أرسل إليّ أحدكم. فأرسلني إليه وأنا يومئذٍ حدث السن ، فلمّا نظر إليّ قال : لا أنعم الله بك عيناً! ثمّ أمر غلامه بضربي

__________________

(١) اصول الكافي ١ : ٣٦١ ، كذا ، وهذا بظاهره ينافي أخبار إحضاره عليه‌السلام بعدهم إلى المنصور بالربذة ، فظاهرها المبادرة والاتصال وليس الانفصال البعيد.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٠ والآية من الصافات : ١٠٦. وفي الكتاب : العظيم ، خطأ.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٠.

٣٠٠