ومن ذلك يظهر لك أنّ كونه من أوّل الأمر ناوياً الاتيان بالثانية بعد الأُولى لازم أعمّ لما هو الواجب عليه ، وهو الانبعاث القطعي عن ذلك الأمر القطعي ، إذ لم يحصل بذلك إلاّمجرّد الانبعاث الاحتمالي عن الأمر الاحتمالي كما سيتّضح لك شرح ذلك إن شاء الله تعالى (١).
وبعبارة أُخرى : لابدّ أن يقصد امتثال ذلك الأمر الواقعي الذي علمه ، غايته أنّه عن قصده امتثال ذلك الأمر الواقعي يترشّح قصد هذه لاحتمال كونها هي التي تعلّق بها ذلك الأمر ثمّ قصده لتلك لاحتمال كونها هي التي تعلّق بها الأمر ، ويكون الأصل في القصد هو قصد الامتثال القطعي لذلك الأمر القطعي ، وبدونه لا يحصل الجزم بالامتثال بالنسبة إلى ذلك الأمر الواقعي بمعنى أنّه لم ينبعث عن ذلك الأمر ، بل إنّما انبعث إلى هذه عن احتمال وجود أمر بها ، وإلى تلك عن احتمال وجود أمر بها ، وهذا وحده إنّما يكفي فيما لم يكن له علم بوجود أمر واقعي يبعثه فعلاً إلى امتثال نفسه.
وقد أجاب عنه شيخنا قدسسره فيما حرّره عنه السيّد سلّمه الله بقوله : فإنّ الانبعاث في محلّ البحث لا يمكن أن يكون عن شخص الأمر على كلّ تقدير ، ضرورة أنّ كلّ تكليف إنّما يدعو إلى متعلّقه دون غيره ، فالاتيان بمجموع الأطراف لا يمكن أن يكون بدعوة الأمر المعلوم بالضرورة ، وأمّا الاتيان بكلّ واحد واحد منها فهو أيضاً من جهة عدم العلم بتعلّق التكليف به ، لا يمكن أن يكون بداعويته ، فلم يبق إلاّ التنزّل إلى الانبعاث عن احتماله في كلّ طرف ، من دون أن يكون الامتثال في بعض الأطراف مرتبطاً به في الطرف الآخر. نعم عدم قصد الامتثال اليقيني من أوّل الأمر فضلاً عن قصد العدم نوع من التجرّي بعد
__________________
(١) في الصفحة : ٢٣٣ ـ ٢٣٤.