فإذا كان هذا حال العلم التفصيلي ، فإذا علم إجمالا بحكم مردّد بين الحكمين ، وفرضنا إجراء الأصل في نفي الحكمين اللذين علم بكون أحدهما حكم الشارع ، والمفروض أيضا عدم مخالفتهما (*) في العمل ، فلا معصية ولا قبح ، بل وكذلك لو فرضنا عدم جريان الأصل ؛ لما عرفت من ثبوت ذلك في العلم التفصيلي. فملخّص الكلام : أنّ المخالفة من حيث الالتزام ليست مخالفة ، ومخالفة الأحكام الفرعيّة إنّما هي في العمل ، ولا عبرة بالالتزام وعدمه.
ويمكن أن يقرّر دليل الجواز ـ أى جواز المخالفة فيه ـ بوجه أخصر ، وهو أنّه لو وجب الالتزام : فإن كان بأحدهما المعيّن واقعا فهو تكليف من غير بيان ، ولا يلتزمه أحد. وإن كان بأحدهما المخيّر فيه فهذا لا يمكن أن يثبت بذلك الخطاب الواقعي
______________________________________________________
الوجوب والحرمة ، إذ لا ريب أنّ الالتزام بحكمهما مغاير لنفسهما ، والمحذور إنّما يلزم على الأوّل دون الثاني ، لكون وجوب الالتزام من فوائد الخطاب المذكور غير حاصل قبله. والكلام في المقام أيضا إنّما هو في الثاني دون الأوّل.
وبالجملة ، إنّ مضمون الخطاب المذكور ليس الفعل أو الترك تخييرا كما هو صريح العبارة ليلزم المحذور ، بل مضمونه وجوب الالتزام بأحد الحكمين ، وهو غير حاصل قبل الخطاب المذكور. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الغرض من الخطاب بوجوب الالتزام هو العمل فعلا أو تركا ، فيكون من باب الأمر بالمقدّمة ، وما ذكرته إنّما يتمّ لو كان الالتزام واجبا نفسيّا لا غيريّا ، ولكن ظاهر مقابلة الخطاب التوصّلي بالتعبّدي في العبارة إرادة الأعمّ من النفسي والغيري من التوصّلي ، إلّا أن يقال : إنّ المراد بالتعبّد هنا هو الأخذ والالتزام بما هو مطلوب في نفسه ، لا ما يعتبر في تحقّقه قصد القربة ، فيكون المراد بالتوصّلي حينئذ ما كان مطلوبا للغير من باب المقدّمة. ويؤيّد هذا المعنى أنّ حمل كلام مدّعي الخطاب التخييري على الخطاب التعبّدي ـ الذي يشترط في تحقّق مضمونه قصد القربة ـ في غاية البعد ، بل معلوم الفساد ، إذ لا يقول أحد بوجوب الالتزام مع قصد القربة بالأحكام التوصّلية كما هو محلّ الكلام.
__________________
(*) في بعض النسخ : بدل «مخالفتهما» ، مخالفته.