فسكن الماء وانسدت ينابيع الأرض ، فجعل الماء ينقص ويغيض ويدبر ، وكان استواء الفلك [على الجودي](١) فيما يزعم أهل التوراة ـ في الشهر السابع لعشر ليال مضت منه وفي أول يوم من الشهر العاشر رؤيت رؤوس الجبال. فلما مضى بعد ذلك أربعون يوما فتح نوح كوة الفلك التي صنع فيها ، ثم أرسل الغراب لينظر له ما فعل الماء فلم يرجع إليه ، فأرسل الحمامة فرجعت إليه لم يجد لرجلها موضعا ، فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها ، ثم مضت سبعة أيام ثم أرسلها لتنظر له ما فعل الماء فلم ترجع ، فرجعت حين أمست وفيها ورق زيتونة ، فعلم نوح أن الماء قد قل عن وجه الأرض. ثم مكث سبعة أيام ثم أرسلها فلم ترجع إليه ، فعلم نوح أن الأرض قد برزت ، فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن أرسل نوح الحمامة ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنين ، برز وجه الأرض ، وظهر البر وكشف نوح غطاء الفلك.
وهذا الذي ذكره ابن إسحاق هو بعينه مضمون سياق التوراة التي بأيدي أهل الكتاب.
وقال ابن إسحق : وفي الشهر الثاني من سنة اثنين في ست وعشرين ليلة منه (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ)
[١١ / هود : ٤٨]
وفيما ذكر أهل الكتاب أن الله كلم نوحا قائلا له : اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك ، وجميع الدواب التي معك ، ولينموا وليكثروا (٢) في الأرض. فخرجوا وابتنى نوح مذبحا لله عزوجل وأخذ من جميع الدواب الحلال والطير الحلال فذبحها قربانا إلى الله عزوجل وعهد الله إليه ألا يعيد الطوفان على أهل الأرض. وجعل تذكارا لميثاقه (٣) إليه القوس الذي في الغمام ، وهو قوس قزح الذي روي عن ابن عباس أنه أمان من الغرق. قال بعضهم :
فيه إشارة إلى أنه قوس بلا وتر ، أي أن هذا الغمام لا يوجد طوفان كأول مرة.
وقد أنكرت طائفة من جهلة الفرس وأهل الهند وقوع الطوفان ، واعترف به آخرون منهم وقالوا : إنما كان بأرض بابل ولم يصل إلينا. قالوا : ولم نزل نتوارث الملك كابرا عن كابر ، من لدن كيومرث ـ يعنون آدم ـ إلى زماننا هذا.
وهذا قاله من قاله من زنادقة المجوس عباد النيران وأتباع للشيطان. وهذه سفسطة منهم وكفر فظيع وجهل بليغ ، ومكابرة للمحسوسات ، وتكذيب لرب الأرض والسماوات.
وقد أجمع أهل الأديان الناقلون عن رسل الرحمن ، مع ما تواتر عند الناس في سائر الأزمان ، على وقوع الطوفان ، وأنه عم جميع البلاد ، ولم يبق الله أحدا من كفرة العباد ؛ استجابة لدعوة نبيه المؤيد المعصوم ، وتنفيذا لما سبق في القدر المحتوم.
__________________
(١) من : و.
(٢) م : وليكبروا.
(٣) و : وجعل تذكار الميثاق.