إليه حتى غاب عنها ، وكانت تحبه حبا شديدا ، لأنه توفر عليها حبه من جهتي الوالدين إذ لا أب له ، وكانت لا تفارقه سفرا ولا حضرا وكانت كما قال بعض الشعراء :
وكنت أرى كالموت من بين ساعة |
|
فكيف ببين كان موعده الحشر |
وذكر إسحاق بن بشر ، عن مجاهد بن جبير أن اليهود لما صلبوا ذلك الرجل شبه لهم وهم يحسبونه المسيح وسلّم لهم أكثر النصارى بجهلهم ذلك ، تسلطوا على أصحابه بالقتل والضرب والحبس فبلغ أمرهم إلى صاحب الروم وهو ملك دمشق في ذلك الزمان ، فقيل له إن اليهود تسلطوا على أصحاب رجل كان يذكر لهم أنه رسول الله وكان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ويفعل العجائب ، فعدوا عليه فقتلوه وأهانوا أصحابه وحبسوهم فبعث فجيء بهم وفيهم يحيى بن زكريا وشمعون وجماعة ، فسألهم عن أمر المسيح فأخبروه عنه ، فبايعهم في دينهم وأعلى كلمتهم وظهر الحق على اليهود وعلت كلمة النصارى عليهم ، وبعث إلى المصلوب فوضع عن جذعه وجيء بالجذع الذي صلب عليه ذلك الرجل فعظمه فمن ثم عظمت النصارى الصليب ، ومن هاهنا دخل دين النصرانية في الروم.
وفي هذا نظر من وجوه :
أحدها : أن يحيى بن زكريا نبي لا يقر على أن المصلوب عيسى ، فإنه معصوم يعلم ما وقع على جهة الحق.
الثاني : أن الروم لم يدخلوا في دين المسيح إلا بعد ثلاثمائة سنة ، وذلك في زمان قسطنطين ابن قسطن باني المدينة المنسوبة إليه على ما سنذكره.
الثالث : أن اليهود ـ صلبوا ذلك الرجل ثم ألقوه بخشبته جعلوا مكانه مطرحا للقمامة والنجاسة وجيف الميتات والقاذورات ، فلم يزل كذلك حتى كان في زمان قسطنطين المذكور فعمدت أمه هيلانة الحرانية الفندقانية فاستخرجته من هنالك معتقدة أنه المسيح ، ووجدوا الخشبة التي صلب عليها المصلوب ، فذكروا أنه ما مسها ذو عاهة إلا عوفي. فالله أعلم أكان هذا أم لا ، وهل كان هذا لأن ذلك الرجل الذي بذل نفسه كان رجلا صالحا أو كان هذا محنة وفتنة لأمة النصارى في ذلك اليوم ، حتى عظموا تلك الخشبة وغشوها بالذهب واللآلىء ، ومن هذا اتخذوا الصلبانات وتبركوا بشكلها وقبلوها ، وأمرت أم الملك هيلانة فأزيلت تلك القمامة وبني مكانها كنيسة هائلة مزخرفة بأنواع الزينة ، فهي هذه المشهورة اليوم ببلدة بيت المقدس التي يقال لها القمامة باعتبار ما كان عندها ، ويسمونها القيامة يعنون التي يقوم جسد المسيح منها. ثم أمرت هيلانة بأن توضع قمامة البلد وكناسته وقاذوراته على الصخرة التي هي قبلة اليهود فلم تزل كذلك حتى فتح عمر بن الخطاب بيت المقدس ، فكنس عنها القمامة بردائه وطهرها من الأخباث والأنجاس ، ولم يضع المسجد وراءها ولكن أمامها حيث صلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة الإسراء به وهو المسجد الأقصى.