وكذا وقع لآل فرعون ؛ ما زالوا في شك وريب ، ومخالفة ومعاندة لما جاءهم موسى به حتى أخرجهم الله مما كانوا فيه من الملك والأملاك والدور والقصور ، والنعمة والحبور ، ثم حولوا الى البحر مهانين ، ونقلت أرواحهم بعد العلو والرفعة إلى أسفل السافلين.
ولهذا قال هذا الرجل المؤمن المصدق ، البار الراشد ، التابع للحق ، الناصح لقومه ، الكامل العقل :
«يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض» أي عالين على الناس حاكمين عليهم ، «فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا؟» أي لو كنتم أضعاف ما أنتم فيه من العدد والعدة ، والقوة والشدة لما نفعنا ذلك ، ولا رد عنا بأس مالك الممالك.
«قال فرعون» أي في جواب هذا كله : «ما أريكم إلا ما أرى» أي ما أقول لكم إلا ما عندي ، «وما أهديكم إلا سبيل الرشاد».
وكذب في كل من هذين القولين وهاتين المقدمتين ؛ فإنه قد كان يتحقق في باطنه وفي نفسه أن هذا الذي جاء به موسى من عند الله لا محالة ، وإنما كان يظهر خلافه بغيا وعدوانا ، وعتوا وكفرانا.
قال الله تعالى إخبارا عن موسى : «لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر ، وإني لأظنك يا فرعون مثبورا* فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا* وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض ، فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا».
وقال تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ* وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).
وأما قوله : «وما أهديكم إلا سبيل الرشاد» فقد كذب أيضا ؛ فإنه لم يكن على رشاد من الأمر ، بل كان على سفه وضلال وخبل وخيال ؛ فكان أولا ممن يعبد الأصنام والأمثال ، ثم دعا قومه الجهلة الضلال ألى أن اتبعوه وطاوعو (١) وصدقوه فيما زعم من الكفر والمحال ؛ في دعواه إنه رب ، تعالى الله ذو الجلال!
قال الله تعالى : (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ* فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ* فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ* فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ* فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ.)
[٤٣ / الزخرف : ٥١ ـ ٥٦]
وقال تعالى : (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى * فَكَذَّبَ وَعَصى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى * فَحَشَرَ فَنادى * فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى * فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى * إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى)
[٧٩ / المنازعات : ٢٠ ـ ٢٦]
__________________
(١) و : وطاعوه.