زرع ولا ضرع. فامتثل أمر الله في ذلك ، وتركهما هناك ثقة بالله وتوكلا عليه ، فجعل الله لهما فرجا ومخرجا ؛ ورزقهما من حيث لا يحتسبان.
ثم لما أمر بعد هذا كله بذبح ولده هذا الذي قد أفرده عن أمر ربه ، وهو بكره ووحيده الذي ليس له غيره ، أجاب ربه وامتثل أمره ، وسارع إلى طاعته.
ثم عرض ذلك على ولده ليكون أطيب لقلبه وأهون عليه من أن يأخذه قسرا ويذبحه قهرا :
(قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى؟).
فبادر الغلام الحليم ، سر والده الخليل إبراهيم ، فقال : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). وهذا الجواب في غاية السداد والطاعة للوالد ولرب العباد.
قال الله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) قيل : أسلما : أي استسلما لأمر الله وعزم على ذلك. وقيل : وهذا من المقدم والمؤخر ، والمعنى : (تَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي ألقاه على وجهه. قيل أراد أن يذبحه من قفاه لئلا يشاهده في حال ذبحه ، قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك. وقيل : بل أضجعه كما تضجع الذبائح وبقي طرف جبينه لاصقا بالأرض (أَسْلَما) أي سمي إبراهيم وكبّر ، وتشهد الولد للموت. قال السدي وغيره : أمرّ السكين على حلقه فلم تقطع شيئا. ويقال : جعل بينها وبين حلقه صفيحة من نحاس. والله أعلم.
فعند ذلك نودي من الله عزوجل : (أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) أي قد حصل المقصود من اختبارك وطاعتك ، ومبادرتك إلى أمر ربك. وبذلك ولدك للقربان ، كما سمحت ببدنك للنيران ، وكما مالك مبذول للضيفان! ولهذا قال تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) أي الاختبار الظاهر البين.
وقوله : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) أي وجعلنا فداء ذبح ولده ما يسره الله تعالى له من العوض عنه.
والمشهور عن الجمهور أنه كبش أبيض أعين أقرن ، رآه مربوطا بسمرة في ثبير. قال الثوري عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا (١). وقال سعيد بن جبير : كان يرتع في الجنة حتى تشقق عنه ثبير ، وكان عليه عهن أحمر. وعن ابن عباس : هبط عليه من ثبير كبش أعين أقرن له ثغاء فذبحه ، وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه (٢).
رواه ابن أبي حاتم.
قال مجاهد : فذبحه بمنى ، وقال عبيد بن عمير : ذبحه بالمقام.
__________________
(١ ، ٢) رواه الطبري في تاريخه (١ / ٢٧٧ / معارف).