بحدوث هذه المشاهدات من إحياء الحيوانات وموتها ، على وجود فاعل ذلك الذي لا بد من استنادها إلى وجوده ، ضرورة عدم قيامها بنفسها. ولا بد من فاعل لهذه الحوادث المشاهدة ، من خلقها وتسخيرها ، وتسيير هذه الكواكب والرياح والسحاب والمطر ، وخلق هذه الحيوانات التي توجد مشاهدة ، ثم إماتتها. ولهذا قال إبراهيم : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ).
فقول هذا الملك الجاهل : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) إن عني أنه الفاعل لهذه المشاهدات فقد كابر وعاند. وإن عنى ما ذكره قتادة والسدي ومحمد بن إسحق ، فلم يقل شيئا يتعلق بكلام الخليل ؛ إذ لم يمنع مقدمة ، ولا عارض الدليل.
ولما كان انقطاع معارضة هذا الملك قد تخفى على كثير من الناس ممن حضره وغيرهم ، ذكر دليلا آخر بين وجود الصانع ، وبطلان ما ادعاه النمرود وانقطاعه جهرة :
(فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) أي هذه الشمس مسخرة كل يوم ، تطلع من المشرق كما سخرها خالقها ومسيرها وقاهرها ، وهو الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء ، فإن كنت كما زعمت من أنك الذي تحيي وتميت فأت بهذه الشمس من المغرب فإن الذي يحيي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء ولا يمانع ولا يغالب ، بل قد قهر كل شيء ودان له كل شيء ، فإن كنت كما تزعم فافعل هذا ، فإن لم تفعله فلست كما زعمت ، وأنت تعلم وكل أحد أنك لا تقدر على شيء من هذا ، بل أنت أعجز وأقل من أن تخلق بعوضة أو تنتصر منها.
فبين ضلاله وجهله وكذبه فيما ادعاه ، وبطلان ما سلكه وتبجح به عند جهلة قومه ، ولم يبق له كلام يجيب الخليل به ، بل انقطع وسكت ولهذا قال : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم وبين النمرود يوم أن خرج من النار ، ولم يكن اجتمع به يومئذ ـ فكانت بينهما هذه المناظرة.
وقد روى عبد الرزاق عن معمر ، عن زيد بن أسلم ، أن النمرود كان عنده طعام ، وكان الناس يفدون إليه للميرة ، فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة ولم يكن اجتمع به إلا يومئذ فكانت بينهما هذه المناظرة. ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس ، بل خرج وليس معه شيء من الطعام.
فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب ـ فملأ منه عدليه وقال أشغل أهلي إذا قدمت عليهم ، فلما قدم وضع رحاله وجاء فاتكأ فنام ، فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعاما طيبا ، فعملت منه طعاما ، ولما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه ، فقال : أني لكم هذا؟ قالت : من الذي جئت به ، فعرف أنه رزق رزقهموه الله عزوجل.
قال زيد بن أسلم : وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ، ملكا يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه ،