لبيّنت وجه ذلك ، والمفاتح ظاهرها : أنها التي يفتح بها ، ويحتمل أن يريد بها : الخزائن والأوعية الكبار ؛ قاله الضحاك (١) ؛ لأنّ المفتح في كلام العرب الخزانة ، وأمّا قوله : (لَتَنُوأُ) فمعناه : تنهض بتحامل واشتداد ، قال كثير من المفسرين : إنّ المراد : أن العصبة تنوء بالمفاتح المثقلة لها فقلب.
قلت : وقال عريب الأندلسي في كتاب «الأنواء» : له نوء كذا ؛ معناه : مثله منه : (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) ، انتهى ، وهو حسن إن ساعده النّقل. وقال الدّاووديّ عن ابن عباس : (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) يقول تثقل ؛ وكذا قال الواحديّ ، انتهى. واختلف في العصبة : كم هم؟ فقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : ثلاثة (٢) ، وقال قتادة : هم من العشرة إلى الأربعين (٣) ، قال البخاريّ (٤) : يقال : الفرحين المرحين.
قال الغزّاليّ في «الإحياء» : الفرح بالدنيا والتنعّم بها سمّ قاتل يسري في العروق ؛ فيخرج من القلب الخوف والحزن وذكر الموت وأهوال القيامة ؛ وهذا هو موت القلب والعياذ بالله ، فأولوا الحزم من أرباب القلوب جرّبوا قلوبهم في حال الفرح بمواتاة الدنيا ، وعلموا أن النّجاة في الحزن الدائم ، والتباعد من أسباب الفرح ، والبطر ؛ فقطّعوا النّفس عن ملاذّها وعوّدوها الصبر عن شهواتها ؛ حلالها وحرامها ، وعلموا أن حلالها حساب وهو نوع عذاب ، ومن نوقش الحساب عذّب ، فخلّصوا أنفسهم من عذابها ، وتوصّلوا إلى الحرّية والملك في الدنيا والآخرة ؛ بالخلاص من أسر الشهوات ورقّها ، والأنس بذكر الله تعالى والاشتغال بطاعته ، انتهى.
قال ابن الحاجّ في «المدخل» : قال يمن بن رزق ـ رحمهالله تعالى ـ : وأنا أوصيك بأن تطيل النظر في مرآة الفكرة مع كثرة الخلوات ، حتّى يريك شين المعصية وقبحها ، فيدعوك ذلك النّظر إلى تركها ، ثم قال يمن بن رزق : ولا تفرحنّ بكثرة العمل مع قلة الحزن ، واغتنم قليل العمل مع الحزن ، فإن قليل حزن الآخرة الدّائم في القلب ؛ ينفي كلّ سرور ألفته من سرور الدنيا ، وقليل سرور الدنيا في القلب ؛ ينفي عنك (٥) جميع حزن
__________________
(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٠١) رقم (٢٧٥٨١) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٩٨)
(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٠٢) رقم (٢٧٥٨٩) ، وذكره البغوي (٣ / ٤٥٤)
(٣) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٠٢) رقم (٢٧٥٨٥) ، وذكره البغوي (٣ / ٤٥٤) ، وابن عطية (٤ / ٢٩٩) ، والسيوطي (٥ / ٢٦٠) ، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة.
(٤) ينظر : «صحيح البخاري» (٨ / ٣٦٥) كتاب التفسير : باب (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ).
(٥) في ج : عنها.