قوله عزوجل : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) أي : أتقنت وأجيدت ، وبهذه الصفة كان القرآن في الأزل ، ثم فصّل بتقطيعه ، وتبيين أحكامه وأوامره على محمّد نبيه عليهالسلام في أزمنة مختلفة ؛ ف «ثمّ» على بابها ، / فالإحكام صفة ذاتية ، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصّل له ، والكتاب بأجمعه محكم ومفصّل ، والإحكام الذي هو ضدّ النّسخ ، والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال ، إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك.
قال* ص* : (ثُمَّ فُصِّلَتْ) : «ثمّ» لترتيب الأخبار ؛ لا لترتيب الوقوع في الزمان ، و (لَدُنْ) بمعنى : «عند». انتهى.
قال الداوديّ : وعن الحسن : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) : قال : أحكمت بالأمر والنهي ، ثم فصّلت بالوعد والوعيد ، وعنه : فصّلت بالثواب والعقاب. انتهى. وقدّم النذير ؛ لأن التّحذير من النّار هو الأهمّ. (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) ، أي : اطلبوا مغفرته ؛ وذلك بطلب دخولكم في الإسلام ، (ثُمَّ تُوبُوا) من الكفر (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) ، ووصف المتاع بالحسن ؛ لطيب عيش المؤمن برجائه في ثواب ربّه ، وفرحه بالتقرّب إليه بأداء مفترضاته ، والسرور بمواعيده سبحانه ، والكافر ليس في شيء من هذا ، (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ) ، أي : كلّ ذي إحسان (فَضْلَهُ) ، فيحتمل أن يعود الضمير من «فضله» على «ذي فضل» أي : ثواب فضله ، ويحتمل أن يعود على الله عزوجل ، أي : يؤتي الله فضله كلّ ذي فضل وعمل صالح من المؤمنين ، ونحو هذا المعنى ما وعد به سبحانه من تضعيف الحسنات ، (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) ، أي : فقل : إني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ، وهو يوم القيامة.
(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٨)
وقوله سبحانه : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ...) الآية : قيل : إن هذه الآية نزلت في الكفّار الذين كانوا إذا لقيهم النبيّ صلىاللهعليهوسلم تطامنوا وثنوا صدورهم ؛ كالمتستّر ، وردّوا إليه ظهورهم ، وغشوا وجوههم بثيابهم ، تباعدا منهم ، وكراهية للقائه ، وهم يظنّون أنّ ذلك يخفى عليه ، أو عن الله عزوجل ، وقيل : هي استعارة للغلّ والحقد الذي كانوا ينطوون