المناظرة الخامسة : مع محمد بن المنكدر (ت : ١٣٠ ه) (١)
روى الشيخ المفيد وغيره بسنده عن أبي عبد الله الصادق (عليهالسلام) قال : إن محمد بن المنكدر كان يقول : ما كنت أرى مثل علي بن الحسين يدع خلفا لفضله وغزارة علمه وحلمه حتى رأيت ابنه محمد بن علي فأردت أن أعظه فوعظني ، خرجت يوما إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيت محمد بن علي وكان رجلا بادنا وهو متكئ على غلامين له. فقلت في نفسي شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا! والله لأعظنه فدنوت منه فسلمت عليه ، فسلم عليّ بنهر ، وقد تصبب عرقا. فقلت : أصلحك الله ، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا ، ولو جاء الموت وأنت على هذه الحال.
فخلى عن الغلامين من يده ثم تساند وقال : لو جاءني والله الموت وأنا في هذه الحال ، جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله أكف بها نفسي عنك وعن الناس ، وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله ، فقلت : يرحمك الله ، أردت أن أعظك فوعظتني (٢).
ومعنى قوله (أردت أن أعظك فوعظتني) أن ابن المنكدر كان من كبار الزهاد ، وكان يصرف أوقاته في العبادة والتقوى ، فأراد أن يعظ الإمام الباقر (عليهالسلام) بأنه لا ينبغي له أن يخرج في مثل ذلك الوقت في طلب الدنيا فأجابه بأن خروجه في طلب المعاش ليكف نفسه عن الناس من أفضل العبادات ، وكان هذا الكلام فيه موعظة لابن المنكدر بأن لا يترك الكسب مهما كان السبب وجيها في ذلك حتى ولو كان عبادة.
__________________
(١) هو محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير ، المدني ، زاهد ، من رجال الحديث ، أدرك بعض الصحابة ، وروى عنهم قال عنه ابن عيينة : ابن المنكدر من معادن الصدق. انظر بعض مصادر ترجمته : تاريخ الإسلام ، الذهبي ، ٥ / ١٥٥ ـ ١٥٨+ تهذيب التهذيب ، العسقلاني ، ٩ / ٤٧٣+ الأعلام ، الزركلي ، ٧ / ٣٣٣.
(٢) الإرشاد ، الشيخ المفيد ، ٢٩٢+ أعلام الورى ، الطبرسي ، ٢٦٩+ كشف الغمة الأربلي ، ٢ / ٣٣٧+ الفصول المهمة ، ابن الصباغ المالكي ، ١٩٥+ تهذيب التهذيب ، العسقلاني ، ٩ / ٢٥٢.