أو يكون قوله : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) ، أي : لم يعلم أتباعه الذين أنفق عليهم مقدار ما أنفق عليهم ؛ فيكون في قوله ـ تعالى ـ : (أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) إظهار منه لسخاوته (١) وجوده ، على الافتخار منه بذلك ، وامتنانا منه على أتباعه ، فإن كان على هذا فهو في أمر الدنيا ، وقد علم الله (٢) القدر الذي أنفق عليهم ، وعلم الخلق سخاوته لا بقوله ؛ فليس اشتغاله في إظهار الجود والامتنان إلا نوع من السفه ، وكان الذي يحق عليه الاشتغال بالشكر لله ـ تعالى ـ أو توجيه الحمد إليه ؛ لما علم أن الذي أنعم به من المال الكثير من الله تعالى ، وأن تلك المنقبة ـ وهي السخاوة ـ نالها بالله تعالى ، وهذا كقوله ـ تعالى ـ : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) [البقرة : ٢٠٠] ، أي : آباؤكم لم ينالوا ما تذكرون من الشرف والمناقب الحميدة إلا بالله ـ تعالى ـ فاذكروه كذكركم آباءكم ، وهذا النوع من الافتخار راجع إلى الخصائص من القوم لا إلى الجملة ؛ إذ كل أحد يقول مثل (٣) ذلك : إنه أهلك مالا لبدا ، وفعل كذا.
وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ. وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) :
فإن كان قوله : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) على نفي القدرة على البعث ، ففي ذكر العينين نفي تلك الشبهة ، وهو أن الله ـ تعالى ـ أنشأ له بصرا يرى بفتحة واحدة ما بين السماء والأرض ، فمن بلغت قدرته هذا لا يعجزه شيء أو يخفى عليه أمر ، فقوله : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) ، أي : ألم نخلق له عينين يدرك بهما المحسوسات بالنظر ، وجعلنا لهما جفونا وأشفارا يدفع بهن القذى عن عينيه ، ويغضهما بهن عن النظر إلى ما لا يعنيه.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِساناً) أي : خلقنا له لسانا يحضر به ما غاب واستتر.
وقوله : (وَشَفَتَيْنِ) ففي خلق الشفتين وجهان من الحكمة.
أحدهما : أنه جعلهما طبقا يستران قبح ما في فمه ، ولولاهما لكان الناظر إليه وقت مضغه الطعام أو شيئا من الأشياء ، استقذر ذلك منه.
وجعلهما طبقا للسانه ؛ لئلا يمده ، ويستعمله فيما لا يعنيه.
فذكرهم عظيم نعمه في خلق العينين واللسان والشفتين ؛ ليستأدي منهم الشكر ، وليعلموا أن الذي بلغت قدرته هذا ، ليس بالذي يعجزه شيء.
وقوله : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ).
__________________
(١) في أ : السخاوة.
(٢) في ب : أتباعه.
(٣) في ب : قبل.