خص بها من نحو ما يملكون بالبنان تسخير الدواب والأنعام ؛ فعلم بالتفريق بين الدواب وبينهم أن البشر هم المقصودون بالمحنة ، وألا يتركهم سدى ، لا يأمرهم ، ولا ينهاهم ، ولا يستأديهم شكر ما أنعم الله عليهم ؛ وقد ائتمر البعض وعصى البعض ؛ فلا بد من دار أخرى للمجازاة ؛ فالنظر في هذا يحمله على القول بالبعث والجزاء.
ولأن الاستواء يقع في الابتداء ، والجمع بعد التفريق يكون عند الإعادة ، والعقول تشهد على أن أمر الإعادة أيسر من أمر الابتداء ، فإذا لم يتعذر عليه الاستواء في الابتداء ؛ فأنى يعسر عليه إعادة الجمع مع قدرته على الجمع في الابتداء؟
ولأنهم لما لم يخلقوا مستوية البنان ، فليعلموا أن في ترك الاستواء حكمة ، ولو كان الأمر على ما قدروا أن لا بعث لكان ذلك يخرج عن حد الحكمة ؛ فيكون فيما ذكر تثبيت البعث والقول بالقدرة على جمع العظام بعد تفرقها ، وتفتتها ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) :
قال أهل التفسير : يؤخر التوبة ، ويقدم المعصية ، ويقول : «سوف أتوب» ، فيأتيه الموت على شر حاله.
وعندنا يخرج على وجهين :
أحدهما : جائز أن يكون ذكر الإرادة لا على تحقيقها ؛ ولكن من فعل شيئا فعله على الإرادة والاختيار ، فكنى بالإرادة عن الفعل ؛ لأنها تقترن بالفعل (١) ؛ فيكون في ذكرها ذكر الفعل ، وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [ص : ٢٧] ولم يظن أحد من الكفرة أن السماء والأرض خلقتا باطلا ، ولكن خلقهما خرج على الحكمة بالبعث والجزاء ، ففي ترك القول بالبعث وصف بأن خلقهما للعب والباطل ، ويؤدي إلى هذا ؛ فيصير كأنهم قالوا ذلك ، وظنوا كذلك ؛ فعلى هذا يحمل الأمر على الظن ، لا أن وجد منهم الظن في الحقيقة ؛ فكذلك إذا فعلوا فعل الفجور ، وكان فعلهم على الإرادة والاختيار ؛ فكأنهم أرادوا أن يفجروا أمامهم ، لا أن كانت الإرادة منهم متحققة لذلك مقصودا.
وجائز أن يكون ذلك على تحقيق الإرادة ، وذلك أن للشر والفجور سبلا (٢) من سلكها أفضت به إلى أن يستحق اسم الفجور ، وللخير والهدى سبلا من سلكها أفضى به الأمر إلى
__________________
(١) في أ : بالعقل.
(٢) في ب : سبيلا.