وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).
فيه أن الله تعالى يملك هداية وراء هداية البيان ؛ لأن من لم يملك شيئا لم يستقم أن يوصف بالتعظيم أنه لا يفعل ؛ لأنه يعلم إذا لم يقدر ولم يملك لا يفعل ، وإنما يوصف بهذا من يملك ذلك ، ولكن لا يفعل ، فلو لم يملك ولم يقدر خلق فعل الاهتداء فيمن أراد ، لم يوصف بأنه لا يهدي الفاسقين ؛ فدل أنه يملك هداية وراء هداية البيان ، وهو خلق الاهتداء فيمن علم منه ذلك ، والله الموفق.
وقال أبو بكر : معنى قوله : (لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي : لا يهديهم لفسقهم.
وقالت المعتزلة : أي : لا يسميهم مهتدين إذا فسقوا وضلوا. وأيهما كان فهو محال ؛ لأن من هدى ضالا لضلالته فهو سفيه ، فكأنه يقول : لا يسفه : ومن سمى الضال : مهتديا فهو كاذب ، فكأنه قال : لا يكذب ، وهما جميعا غير مستقيم ؛ لأنا نعلم أنه لا يسفه ولا يكذب ، فثبت أن في ملكه هداية يهدي من يشاء من عباده سوى هداية البيان ، وإذا ثبت ما وصفنا أن في ملكه هداية سوى هداية البيان ، ثبت أن له فيها مشيئة ؛ لأن من ملك سببا لم يجز أن يقطع عنه سببه ؛ فلذلك قلنا : إن الله تعالى يضل من يشاء من عباده لمن علم أنه يؤثر الضلال (١) ويختاره على الهدى ، ويهدي من يشاء لمن علم أنه يؤثر الهدى على الضلالة ؛ فيهديه لذلك ويوفقه ويسدده ، والله المستعان.
وقوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا).
قد وصفنا أن هذا من غاية بخلهم.
وقوله : (حَتَّى يَنْفَضُّوا) دلالة أنهم أرادوا إطفاء هذا النور وإخفاءه ، فأبى الله تعالى إلا إظهاره.
وقوله : (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).
يبسطها على المنافقين ؛ ليمتحنهم بالإنفاق على المؤمنين
أو (٢) لله خزائن السموات والأرض يضيقها على المؤمنين ؛ ليمتحنهم بالصبر في حال الضيق.
أو يجوز أن يكون هذا بشارة للمؤمنين بأن الله تعالى يوسع عليهم الدنيا بعد ما ضاقت ، وقد جعل حيث فتح لهم الفتوح وآتاهم النصر والغلبة على أعدائهم ، والله أعلم.
وقوله ـ تعالى ـ : (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ).
__________________
(١) في ب : الكفر.
(٢) في ب : و.