والثاني : أنه جعل إتقان الأشياء وإحكامها علما لحكمته ، وقد يقع الإتقان والإحكام للأشياء لا به ، ثم لم يجعل الله ـ تعالى ـ لشيء مما أتقن وأحكم علما يتميز من بين ما أتقنه غيره وأحكمه ، فصار الإتقان والإحكام غير دال على حكمته ، بل صار دليلا على عجزه وضعفه ، حيث لم يتهيأ له تمييز ما صار به متقنا وما بغيره صار كذلك ؛ ولأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه ويتبين ما له مما ليس له ، ومن قولهم : إن الله تعالى أعطى الكافر قوة الإيمان ، ولم يبق في خزائنه ما جعل سببا يتوصل به إلى الإيمان إلا وقد أعطاه ، مع علمه أنه لا يؤمن به ، وهذا من أعظم الجهل وأبين السفه في الشاهد ؛ لأن المرء إذا قام بسقي أرض وعمارتها بالكراب والبنيان وألقى البذر فيها مع علمه أنها لا تنبت شيئا عد ذلك منه سفها وجهلا ، والسفيه لا يصلح أن يكون إلها حكيما ، وقال ـ تعالى ـ : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢] ، وعلى قول المعتزلة : قد خلق غيره الحياة والموت جميعا ؛ لأن القتيل ميت (١) بالاتفاق ، ثم لا يجعل أهل الاعتزال لله ـ تعالى ـ في موته صنعا (٢) ، ويزعمون أنه مات قبل أجله ، فإذا قدر غيره على الإماتة ، ويقدر غيره أيضا على الإحياء بالأسباب ؛ لأنه يسقي الأرض والزرع ويكون في سقيه إحياؤها ، فلم يتفرد هو بخلق الموت ولا بالحياة على قولهم ، بل شركه غيره في خلق الأشياء ، فيبطل امتداحه ـ على قولهم ـ نفسه بأنه خالق الأشياء.
والوجه الرابع : أنه احتج بعلمه بأفعال الخلق بخلقه تلك الأفعال ، وذلك قوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [الملك : ١٤] ، وهم قد نفوا الخلق عن الأفعال ، وإذا انتفى لم يقع له بها علم ؛ فصارت الآيات التي فيها إثبات العلم لا تثبت علما على قولهم ، ويكون فيه كذب في الخبر ، تعالى الله عن ذلك.
والوجه الخامس : أنه سمى نفسه : محسنا منعما ، وأثبت إحسانه وإنعامه بآيات احتج بها على خلقه ، وما من نعمة أنعم بها على العباد إلا وقد كانوا لها مستوجبين على الله تعالى ؛ فيصير الله تعالى بإعطائهم ذلك قاضيا ما عليه من الحق بالنعمة ، ومن قضى آخر حقّا كان [عليه](٣) لم يصر به منعما مفضلا ، وإنما صار قاضي حق (٤) ، فصارت الآيات التي فيها إثبات النعم غير مثبتة على قولهم ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.
__________________
(١) في أ : لأن القتل ثبت.
(٢) في ب : صنيعا.
(٣) سقط في ب.
(٤) في ب : الحق.