أهون من ابتدائه ، فإذا قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر وأملك ؛ إذ ذلك في عقولكم أهون وأيسر ، وإلا ليس في وصف الله تعالى أن شيئا أهون عليه من شيء ، بل الأشياء كلها تحت قوله : (كُنْ فَيَكُونُ) من غير أن كان منه كاف أو نون أو شيء من ذلك ، لكنه عبر به ؛ لأنه أخف حروف على الألسن وأيسره وأقصر كلام وأوجزه يؤدى به المعنى ويفهم منه المراد.
والثالث : أنه خلق هذه الأشياء والجواهر كلها سوى البشر للبشر ولمنافعهم ، فلو لم يكن بعث ولا نشأة أخرى ، كان خلق هذه الأشياء لهم عبثا باطلا.
أو أن يكون قوله : (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أي : غفل عن بدء خلقه إذ بدأ خلقه ، إما أن كان من ماء أو تراب ؛ فعلى ذلك إذا أفناه يصير ماء أو ترابا فيعيده منه على ما أنشأه منه بدءا.
ثم في قوله : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) ـ دلالة نقض قول الباطنية وفساد مذاهبهم ؛ حيث قالوا : إن إعادة الخلق وإنشاءه ليس على هذه البنية والصورة التي أنشأها بدءا ، ولكن ينشئ نفسا روحانية على خلاف ما شاهدوها وعاينوها ، فالآية تكذبهم وتنقض قولهم ؛ حيث قال : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) أخبر أنه يحيي العظام التي أنكروا هم إحياءها واستبعدوا ذلك ، وعلى ذلك قال : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) احتج عليهم بعلمهم النشأة الأولى ؛ لإنكارهم النشأة الأخرى ، فلو كان على خلاف ذلك لم يكن للاحتجاج عليهم بذلك معنى ؛ فدل أنه ينشئهم ويعيدهم على الهيئة الأولى.
والثاني : ينقض عليهم قولهم أيضا حيث قالوا : يوصل إلى معرفة ذلك من الذي يعلمه الرسول ويخبره دون النظر والتفكر والتدبر ، فلو كان على ما يقولون ، لم يكن لقوله : (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) ، ولا لقوله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) [الروم : ٨] ، وقوله : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية : ١٧] ، وقوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١] ـ معنى ؛ فدل أنه قد يوصل إلى معرفة ذلك بالتفكر والنظر ، كما يوصل بخبر الرسول الذي قد أظهر صدقه للخلق ، فتلزمه الحجة في هذا كما تلزمه في ذلك.
وقوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) ، اختلف فيه : قال بعضهم (١) : هو نوع من الشجر يقال : المرخ ، كانوا يوقدون منه النار ، ويورون
__________________
(١) قاله ابن عباس كما في تفسير البغوي (٤ / ٢١).