وكابروا واستكبروا ولم يخضعوا له ؛ أنفا واستكبارا ؛ أو لا ترى أنه إذا قرع أسماعهم قوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] ، وقوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ...) الآية [الإسراء : ٨٨] لا يحتمل ألا يدبروا فيه ؛ دل أنهم قد تدبروا فيه وعرفوه ، إلا أنهم تعاندوا وكابروا واستكبروا ؛ أنفا منهم واستكبارا واستنكافا عن اتباعه والخضوع له.
قال أبو عوسجة : (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) ، أي : يستغيثون (١) ، قال : وأصله من الصياح. وقال بعضهم : (يَجْأَرُونَ) : يصرخون.
وقيل : يصيحون.
وقيل : (سامِراً تَهْجُرُونَ) ما ذكرنا من الحديث بالليل ، (تَهْجُرُونَ) ، أي : تهذون كما يهذي النائم والمريض الشديد المرض.
قال : وأهجر يهجر ، من الهجر : وهو الفحش ، وهجّر يهجّر : إذا سار في الهاجرة ، وهي شدة الحرّ.
وقوله : (تَنْكِصُونَ) : قال بعضهم : ترجعون ، وقال بعضهم (٢) : تستأخرون ؛ كقوله : (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) [الأنفال : ٨٤] : ترجعون ، وتستأخرون واحد.
وقوله : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) : قد ذكرنا أنه يخرج على وجهين :
أحدهما : على ترك التدبر فيه والتفكر ، والإعراض عنه ، أي : لم يدبّروا فيه ، ولم يتفكروا.
والثاني : على إيجاب حقيقة التدبر فيه والتفكر ، أي : قد تدبّروا فيه ، وعرفوا أنه منزل من الله ، لكنهم تركوا متابعته ؛ عنادا وتمردا [و] إشفاقا على ذهاب رياستهم ، وطمعا في إبقائها ودوام مأكلتهم ، فأي الوجهين كان ، ففيه لزوم حجج الله وبراهينه على من جهلها ولم يعرفها ؛ بالإعراض عنها وترك التدبر فيها ، حيث استوجبوا عذاب الله ومقته لجهلهم بها : بترك التدبر فيها بعد أن كان لهم سبيل الوصول إلى معرفتها.
وظاهر قوله : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا) استفهام ، إلا أنه في الحقيقة : إيجاب لها ؛ لا يجوز أن يستفهم الله أحدا ؛ فهو على الإيجاب لأنه علام الغيوب.
وقوله : (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) أي : قد جاءهم ما جاء آباءهم الأولين من
__________________
(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٥٥٨٠) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٣).
(٢) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٥٨٨) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٣).