إتيانه ابتداء قبل أن نظروا فيه وعرفوا مثاله ـ أشدّ وأبعد ؛ إذ نظم الشيء وتصوره بعد ما عاينوا الأشياء والصّور أهون وأيسر من تصويرها ونظمها قبل أن يعاينوها ويشاهدوها.
وجائز أن يستدل بهذه الآية على أنه كان مبعوثا إلى الإنس والجن جميعا حيث قال : (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) ؛ لأنه لو لم يكن مبعوثا إلى الفريقين جميعا لم يكن لذكرهما معنى وفائدة.
وفيه دلالة : أن في الجن من لسانه لسان العرب ؛ إذ لو لم يكن [كذلك ، لم يكن] لذكر أولئك [معنى] ثم جائز أن يكون قوله : (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) ، أي : الإنس مع الجن ، أو هؤلاء مع هؤلاء ، (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ).
وقال بعض أهل التأويل : إنما ذكر هذا لقولهم : إنه سحر وإنما يعلمه بشر [النحل : ١٠٣] وقولهم : (ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) [سبأ : ٤٣] وقولهم : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) [المؤمنون : ٣٨] ، ومثله ، يقول : إن الإفك والسحر وما ذكرتم لا يكون إلا من هذين ، من الجن والإنس ، فأخبر أنهم لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله ما قدروا عليه.
والدلالة على أنهم عجزوا عن ذلك (١) ، ولم يطمع أحد منهم ذلك إلا سفيه أظهر الله سفهه وكذبه في القرآن ؛ حيث قال : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣١ ، ٣٢] لم يسأل التوفيق إن كان هو حقّا ، ولكن سأل العذاب ؛ دلّ أنه كان سفيها ، فآية السفه : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، ثم ارتاب فيه وشك بقوله : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) [الأنفال : ٣٢] وإلا لم يطمع ولم يخطر ببال أحد من الخلائق التكلف لذلك ، دلّ أنه آية معجزة من الله تعالى.
ثم اختلف في قوله : (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ)
قيل : مثل نظمه ورصفه.
وقيل : مثل حقه وصدقه.
ويحتمل مثل حججه وبراهينه.
ويحتمل مثل علمه وحكمته.
ويحتمل مثل إحكامه وإتقانه.
يحتمل قوله : (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) هذه الوجوه الخمسة التي
__________________
(١) ينظر : اللباب (١٢ / ٣٨٥).