مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ»(١).
ولقد استظل مفسر بصير بظلال هذه الآيات الكريمة السابقة ، واستنبط منها جانبا من أحوال هؤلاء العارفين الذين يزدانون بفضيلة المعرفة ، فذكر لهم ان كلمات الله تصل الى قلوبهم بمجرد سماعها ، «فاذا عيونهم تفيض من الدمع تأثرا ورقة وانعطافا ، واذا ادراكهم لمدلول تلك الكلمات يتحول الى «معرفة» لما فيها من الحق ، والمعرفة لفظة دالة على الادراك الكامل ، والتأثر بهذا الادراك ، وامتزاج الذات كلها به ، وامتزاجه بالذات ، فهي أعمق وأشمل من كلمة «العلم» لأن العلم حالة سلبية تهنى عن وصول المعلومات الى العقل. أما المعرفة فحالة ايجابية تعني تأثر العارف بما عرف ، وتسود حالة جديدة في وعيه مما عرف.
هذه المعرفة جعلت القوم هنا تفيض أعينهم من الدمع ، ذلك أن التأثر الذي غمرهم في الوهلة الاولى فاستغرقهم كان من القوة والعمق والاستغراق حتى ما يحده لفظ ، وما يعبر عنه لسان ، وحين يطغى التأثر بوجدان غامر لا يكون المجال للقول ، انما يكون المجال للدمع ، يطلق الشحنة الطاغية ، ويريح الحس والاعصاب.
حتى اذا فاض الدمع ، وخف الضغط ، وهدأت الاعصاب ، انطلق اللسان «يقولون : ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين».
ربنا آمنا ... صدقت قلوبنا واطمأنت واستقرت ، فاكتبنا مع الشاهدين : الشاهدين بأن هذا الدين حق ، وأنه من عند الله ، الآخذين أنفسهم بهذه الشهادة قبل أن يأخذوا بها سواهم ، فهم يؤمنون ويعملون بمقتضى
__________________
(١) سورة الزمر ، الآية ٢٣.