الإشارة : لا عبرة بالأحوال الظلمانية وإن كثرت ، وإنما العبرة بالأحوال الصافية ولو قلّت ، صاحب الأحوال الصافية موصول ، وصاحب الأحوال الظلمانية مقطوع ، ما لم يتب عنها ، قال بعض الحكماء : (كما لا يصح دفن الزرع فى أرض ردية ، لا يجوز الخمول بحال غير مرضية).
والمراد بالأحوال الصافية : هى التي توافق مراسم الشريعة ؛ بحيث لا يكون عليها من الشارع اعتراض ، بأن تكون مباحة فى أصل الشريعة ، ولو أخلت بالمروءة عند العوام ، إذ المروءة إنما هى التقوى عند الخواص ، والمراد بالأحوال ، كل ما يثقل على النفس وتموت به سريعا ، كالمشى بالحفا وتعرية الرأس ، والأكل فى السوق ، والسؤال ، وغير ذلك من خرق عوائدها ، التي هى شرط فى حصول خصوصيتها ، وفى الحكم : «كيف تخرق لك العوائد؟ وأنت لم تخرق من نفسك العوائد». وبالله التوفيق
ومن جملة الأحوال الرديئة : كثرة الخوض فيما لا يعنى ، التي أشار إليه بقوله :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢))
قلت : الجملة الشرطية صفة لأشياء ، وأشياء اسم جمع لشىء ، أصله عند سيبويه : شيئاء ، مثل فعلاء ، قلبت إلى لفعاء ، أي : قلبت لامه إلى فائه ، لثقل اجتماع الهمزتين ، وقال أبو حاتم : أشياء وزنها أفعال ، وهو جمع شىء ، وترك العرف فيه سماع ، وقال الكسائي : لم ينصرف أشياء ، لشبه آخره بآخر حمراء ، انظر ابن عطية. وجملة (عفا الله عنها) : صفة أخرى لأشياء ، أي : عن أشياء عفا الله عنها ، ولم يكلف بها.
يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) ليس لكم فيها نفع ، (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) أي : إن تظهر لكم وتجابوا عنها تسؤكم ؛ بالأخبار بما لا يعجيكم وبما يشق عليكم ، قيل : سبب نزول الآية : كثرة سؤال الناس له صلىاللهعليهوسلم من الأعراب والمنافقين والجهال ، فكان الرجل يقول للنبى ـ عليه الصلاة السلام ـ؟ أين ناقتى؟ وآخر يقول : ماذا ألقى فى سفرى؟ ونحو هذا من التعنيت ، حتى صعد المنبر صلىاللهعليهوسلم مغضبا ، فقال : «لا تسألونى اليوم عن شىء إلا أخبرتكم به». فقام رجل فقال : أين أنا؟ فقال : فى النار ، وقام عبد الله بن حذافة ـ وكان يطعن فى نسبه فقال : من أبى؟ فقال : «أبوك حذافة» ، وقال آخر : من أبى؟ قال : «أبوك سالم مولى شيبة» ، فقام عمر بن الخطاب ، فجثا على ركبتيه ، فقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا نعوذ بالله من الفتن. فنزلت هذه الآية (١).
__________________
(١) أخرج بعضه البخاري فى : (مواقيت الصلاة ، باب وقت الظهر عند الزوال) عن أنس ، وأخرجه مختصرا فى (التفسير ـ سورة المائدة) عن ابن عباس ، وانظر فتح الباري (ح ٢٦٢١) والفتح السماوي (٢ / ٥٩٤ ـ ٥٩٥)