ثم قال تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن عصاه ، (وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن أطاعه وأقبل عليه ، وهو وعيد ووعد لمن انتهك محارمه ولمن حافظ عليها ، أو لمن أصرّ ورجع ، (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) وقد بلّغ ، فلم يبق عذر لأحد ، وهو تشديد فى إيجاب القيام بما أمر ، (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) من تصديق وتكذيب وفعل وعزيمة.
الإشارة : كما جعل الله الكعبة قياما للناس ، يقوم به أمر دينهم ودنياهم ، جعل القلوب ، التي هى كعبة الأنوار والأسرار ، قياما للسائرين ، يقوم بها أمر توحيدهم ويقينهم ، أو أمر سيرهم ووصولهم. وفى الحديث : «إنّ فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه وإذا فسددت فسد الجسد كلّه ؛ ألا وهى القلب». وكما جعل الشهر الحرام والهدى والقلائد حرمة لأهلها ، جعل النسبة والتزيي بها حفظا لصاحبها ، من تزيا بزى قوم فهو منهم ، يجب احترامه وتعظيمه لأجل النسبة ، فإن كان كاذبا فعليه كذبه ، وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم ، وقد أخذ اللصوص بعض الفقراء ، وانتهكوا حرمته ، وأخذوا ثيابه ، فاشتكى لشيخه فقال له : هل كانت عليك مرقعتك؟ قال : لا ، فقال له : أنت فرطت ؛ والمفرط أولى بالخسارة. ه. والله تعالى أعلم.
ولمّا كان مدار الأمر كله على صلاح القلوب وفسادها ذكره بإثره ، فقال :
(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠))
يقول الحق جل جلاله : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) عند الله ، فى القلوب والأحوال والأعمال والأموال والأشخاص ، فالطيب من ذلك كله مقبول محبوب ، والرديء مردود ممقوت ، فالطيب مقبول وإن قلّ ، والرديء مردود ولو جلّ ، وهو معنى قوله : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) ، فالعبرة بالجودة والرداءة ، دون القلة والكثرة ، وقد جرت عادته ـ تعالى ـ بكثرة الخبيث من كل شىء ، وقلة الطيب من كل شىء ، قال تعالى : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) (١) ، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (٢) ، وفى الحديث الصحيح : «النّاس كابل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة» (٣) ، وقال الشاعر :
إنّى لأفتح عينى حين أفتحها |
|
على كثير ولكن لا أرى أحدا |
فأهل الصفا قليل فى كل زمان ، ولذلك خاطبهم بقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي : القلوب الصافية فى تجنب الخبيث وإن كثر ، وأخذ الطيب وإن قلّ ، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بصلاح الدارين.
__________________
(١) من الآية ٢٤ من سورة ص.
(٢) من الآية ١٣ من سورة سبأ.
(٣) أخرجه البخاري فى (الرقاق باب رفع الأمانة) ومسلم فى (فضائل الصحابة ، باب قوله صلىاللهعليهوسلم : الناس كإبل مائة ..) من حديث ابن عمر رضى الله عنه ومعنى الحديث : أن الزاهد فى الدنيا ، الكامل فى الزهد فيها قليل جدا ، كقلة الراحلة فى الإبل.