متاعا لروحه وسره ، وللسيارة من أبناء جنسه ، يطعمهم من تلك الأسرار ، بالهمة أو الحال أو التذكار ، واتقوا الله فى الاشتغال بما سواه ، الذي إليه تحشرون ، فيدخلكم جنة المعارف قبل جنة الزخارف. والله تعالى أعلم.
ولما عظّم شأن الحرم عظّم شأن الكعبة ، فقال :
(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩))
قلت : (البيت الحرام) : عطف بيان على جهة المدح ، و (قياما) : مفعول ثان.
يقول الحق جل جلاله : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ) التي هى (الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) أي : سبب انتعاشهم ، يقوم بها أمر معاشهم ومعادهم ، يلوذ به الخائف ، ويأمن فيه الضعيف ، ويربح فيه التجار ، ويتوجه إليه الحجاج والعمار ، أو يقوم به أمر دينهم بالحج إليه ، وأمر دنياهم بأمن داخله ، وتجبى ثمرات كل شىء إليه.
قال القشيري : حكم الله ـ سبحانه ـ بأن يكون بيته اليوم ملجأ يلوذ به كل مؤمّل ، ويستقيم ببركة زيارته كلّ حائد عن نهج الاستقامة ، ويظفر بالانتقال هناك كل ذى أرب. ه.
(وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) جعله الله أيضا قياما للناس ؛ والمراد به ذو الحجة ، فهو قيام لمناسك الحج ، وجمع الوجود إليه بالأموال من كل جانب ، أو الجنس ، وهى أربعة : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، لأنهم كانوا يكفون عن القتال ، ويأمن الناس فيها فى كل مكان ، (وَالْهَدْيَ) ؛ لأنه أمان لمن يسوقه ؛ لأنه لم يأت لحرب ، (وَالْقَلائِدَ) ، كان الرجل إذا خرج يريد الحج تقلد شيئا من السمر (١) ، وإذا رجع تقلد شيئا من شجر الحرم ؛ ليعلم أنه كان فى عبادة ، فلا يتعرض له أحد بشر ، فالقلائد هنا : ما تقلده المحرم من الشجر ، وقيل : قلائد الهدى.
(ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي : جعل ذلك الأمور ، قياما للناس ؛ لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل الأمور ، فشرع ذلك دفعا للمضار وجلبا للمنافع ، (وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه محل مصالح عباده ومضارهم ، وهو تعميم بعد تخصيص ، ومبالغة بعد إطلاق.
__________________
(١) السمر ـ بضم الميم والراء : ضرب من الشجر ، صغار الورق قصار الشوك.