التخيير ، وهو الذي يقتضيه العطف بأو ، ومذهب ابن عباس أنها مرتبة. وقد نظم ابن غازى الكفارات التي فيها التخيير أو الترتيب ؛ فقال :
خيّر بصوم ثمّ صيد وأذى |
|
وقل لكلّ خصلة : يا حبّذا |
ورتّب الظّهار والتّمتعا |
|
والقتل ثمّ فى اليمين اجتمعا |
وكيفية التخيير هنا : أن يخير الحكمان القاتل ؛ فإن أراد الجزاء عينوا له ما يهدى ، وإن أراد الإطعام قوموا الصيد بالطعام فى ذلك المحل ، فيطعم مدّا لكل مسكين ، وإن أراد الصيام صام يوما لكل مدّ ، وكمل لكسره ، فإذا قوم بعشرة مثلا ونصف مدّ ، صام أحد عشر يوما.
ثم ذكر حكمة الجزاء ، فقال : (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) أي : فعليه الجزاء أو الإطعام أو الصيام ؛ ليذوق عقوبة سوء فعله ، وسوء هتكه لحرمة الإحرام ، (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) فى الجاهلية أو قبل التحريم ، (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) فى الآخرة ، وليس فيه ما يمنع الكفارة على العائد ؛ كما حكى عن ابن عباس وشريح. (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) ممن أصر على عصيانه.
ثم استثنى صيد البحر فقال : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) وهو ما لا يعيش إلا فى الماء ، وهو حلال كله لقوله صلىاللهعليهوسلم فى البحر : «هو الطّهور ماؤه ، الحلّ ميتته» (١). وقال أبو حنيفة : لا يحل منه إلا السمك ، (وَطَعامُهُ) أي : ما قذفه ، أو طفا على وجهه ؛ لأنه ليس بصيد إنما هو طعام. وقال ابن عباس : طعامه : ما ملّح وبقي (مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) ، الخطاب بلكم للحاضرين فى البحر ، والسيارة : المسافرون فى البر ، أي : هو متاع تأتدمون به فى البر والبحر ، (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) يحتمل أن يريد به المصدر ، أي الاصطياد ، أو الشيء المصيد ، أو كلاهما ، وتقدم أن ما صاده محرم أو صيد له : ميتة ، وحد الحرمة : (ما دُمْتُمْ حُرُماً) فإذا حللتم فاصطادوا ، (وَاتَّقُوا اللهَ) فى ترك ما حرم عليكم ، (الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فيجازيكم على ما فعلتم.
الإشارة : إذا عقد المريد مع الله عقدة السير والمجاهدة ، قد يختبره الله ـ تعالى ـ فى سيره بتيسير الشهوات ، وتسليط العلائق والعوائق ؛ ليعلم الكاذب من الصادق ، فإن كف عنها وأعرض ، هيأه لدخول الحضرة ، وإن انهمك فيها ، واقتنص فى شبكتها ، بقي مرهونا فى يدها ، أسيرا فى قبضة قهرها ، فإذا نهض حتى دخل حرم الحضرة قاصدا لعرفة المعارف ، حرم عليه صيد البر ، وهو كل ما يخرج من بحر الحقيقة إلى شهود بر السّوى ، فرقا بلا جمع ، كائنا ما كان ، رسوما أو علوما أو أحوالا أو أقوالا ، وحلّ له صيد البحر وطعامه ، من أسرار أو أنوار أو حقائق ،
__________________
(١) أخرجه مالك فى (الطهارة ، باب الطهور للوضوء) والبيهقي فى الكبرى (١ / ٣) وأبو داود فى (الطهارة ، باب الوضوء بماء البحر) والترمذي فى (الطهارة ، باب ما جاء فى ماء البحر) والنسائي فى (الطهارة ، باب ماء البحر) وابن ماجه فى (الطهارة ، باب الوضوء بماء البحر) من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.