فتعلمت ذلك منه ، فتحققوا أنه وحي من عند الله ، ولكن جحدوا ؛ (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ) على إيمانهم ، وبالغت فى إظهار الآيات لهم ، (بِمُؤْمِنِينَ) ؛ لعنادهم وتصميمهم على الكفر ، (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ) على تبليغ هذا النبأ ، أو القرآن ، (مِنْ أَجْرٍ) ؛ كما يفعله حملة الأخبار من الأحبار. (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) : عظة من الله ، (لِلْعالَمِينَ) من الجن والإنس.
(وَكَأَيِّنْ) : كثيرا (مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الدالة على وجود صانعها وتوحيده ، وكمال قدرته وتمام حكمته ، (يَمُرُّونَ عَلَيْها) ويشاهدونها ، (وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) : لا يتفكرون فيها ، ولا يعتبرون. (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ) أي : وما يصدق أكثرهم بوجود الله فى إقرارهم بوجوده ، وخالقيته للأشياء ، وأنه الرزاق المميت ، (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) بعبادة الأصنام ، أو باتخاذ الأحبار والرهبان أربابا ، أو بنسبة التبني إليه ، أو بالوقوف مع الأسباب ، أو غير ذلك من أنواع الشرك الجلى والخفي. قيل : نزلت فى مشركى مكة ، وكانوا يقولون فى تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكا تملكه وما ملك. وقيل : فى أهل الكتاب. (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ) : عقوبة تغشاهم وتشملهم ، (مِنْ عَذابِ اللهِ) المرسل على الأمم المتقدمة ، (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) : فجأة ، (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بإتيانها ، غير مستعدين لها.
الإشارة : قوله تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) : مثله يقال لأهل الوعظ والتذكير الداعين إلى مقام الخصوصية ، وما أكثر الناس ولو حرصت على هدايتهم ، بمهتدين إلى مقام الخصوصية ؛ لأن أهل الخصوصية أفراد قليلون فى كل زمان ؛ قال تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١). وتقدم فى سورة هود (٢) ما يتعلق بقوله : (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ).
وقوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ ...) إلخ ، فيه ذم الغفلة ، والإعراض عن التفكر والاعتبار ؛ فإن الحق ـ جل جلاله ـ ما أظهر هذه الكائنات إلا ليعرف بها ، وتظهر فيها أسرار ذاته ، وأنوار صفاته. قال فى لطائف المدن : فما نصبت الكائنات لتراها ، ولكن لترى فيها مولاها ؛ فمراد الحق منك أن تراها بعين من لا يراها ؛ تراها من حيث ظهوره فيها ، ولا تراها من حيث كونيتها. قال (٣) : ولنا فى هذا المعنى :
ما أثبت لك المعلم إلا |
|
لتراها بعين من لا يراها |
فارق عنها رقى من ليس يرضى |
|
حالة دون أن يرى مولاها. ه. |
__________________
(١) من الآية ١٣ من سورة سبأ.
(٢) عند إشارة الآية ٢٩.
(٣) أي : الشيخ السكندريى صاحب لطائف المدن