وقوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) : لا ينجو من الشرك الخفي إلا أهل التوحيد الخاص ، وهم الذين غابوا عن الأكوان جملة بشهود المكون ، قد سقط من نظرهم وجود الأغيار ، وتطهرت سرائرهم من لوث الأكدار ، ولم يبق فى مشهدهم إلا الواحد القهار ، فلم يعتمدوا على الوسائط والأسباب ، برؤية مسبب الأسباب ، ولم يركنوا إلى العشائر والأصحاب ، فإن التفتوا إلى غيره ؛ غفلة ، أدبهم ، وردهم إلى حضرته. هذا شأنهم معه أبدا. جعلنا الله منهم ، وخرطنا فى سلكهم. آمين.
ثم أوضح طريقهم ، فقال :
(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨))
قلت : (أدعو) : حال من الياء ، و (على بصيرة) : حال ثان ، و (أنا ومن اتبعنى) : الضمير ـ تأكيد للمستكن فى (أدعو) ، أو فى (على بصيرة) ، أو مبتدأ خبره : (على بصيرة) ، مقدم.
يقول الحق جل جلاله : (قُلْ) يا محمد : (هذِهِ سَبِيلِي) : طريقى الذي جئت به من عند ربى ؛ وهى الدعوة إلى التوحيد ، والتأهب ليوم المعاد. ثم فسرها بقوله : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ) ، أو حال كونى داعيا إلى الله ؛ أي : إلى توحيده ومعرفته والأدب معه ، (عَلى بَصِيرَةٍ) : حجة واضحة ، وبينة من ربى ، لا عن تقليد أو عمى. أدعو إلى الله (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) ؛ فمن كان على قدمى فهو يدعو أيضا إلى الله على بصيرة وبينة من ربه ، (وَسُبْحانَ اللهِ) : وأنزهه عن الشركاء والأنداد ، (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) به شركا جليا ولا خفيا ، بل مخلصا موحدا.
الإشارة : لا يصلح العبد أن يكون داعيا إلى الله حتى يكون على بصيرة من ربه ، بحيث لا يبقى فيه تقليد بحت ، ولا يختلجه شك ولا وهم. والدعاة إلى الله على ثلاث مراتب : فمنهم من يدعو على بصيرة الإسلام ؛ وهم الدعاة إلى معرفة أحكام الله وشرائعه ، ومنهم من يدعو علي بصيرة الإيمان ، وهم الدعاة إلى معرفة صفات الله تعالى وكمالاته ، ومعرفة ما يجب له تعالى وما يستحيل وما يجوز على طريق البرهان الواضح. ومنهم من يدعو إلى الله على بصيرة الإحسان ، وهم الدعاة إلى معرفة الذات العلية على نعت الشهود والعيان ، من طريق الذوق والوجدان ؛ وهم العارفون بالله ، أهل النور المخرق ، بحيث كل من واجههم خرق النور إلى باطنه. وهذه الدعوة الحقيقية والبصيرة النافذة ، وأهل هذا المقام هم أهل التربية النبوية ، فدعوة هؤلاء أكثر نفعا ، وأنجح تأثيرا ؛ فى زمن يسير ؛ يهدى الله على أيديهم الجم الغفير.