(فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) : أجاب دعاءه الذي تضمنه كلامه ، (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) حيث ثبته على العصمة حتى وطن نفسه على مشقة السجن ، وآثرها على اللذة الفانية ؛ (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لدعاء الملتجئين إليه ، (الْعَلِيمُ) بإخلاصهم أو بما يصلح بهم.
الإشارة : الحب إذا كان على ظاهر القلب ، ولم يخرق شغافه ، كان العبد مع دنياه ، وآخرته ، بين ذكر ، وغفلة. فإذا دخل سويداء القلب ، وخرق شغافه نسى العبد دنياه وأخراه ، وغاب عن نفسه وهواه ، وضل فى محبة مولاه. ولذلك قيل لعاشقة يوسف : (إنا لنراها فى ضلال مبين) أي : فى استغراق فى المحبة حتى ضل عنها ما دون محبوبها. ومنه قوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (١) أي : وجدك ضالا فى محبته ، فهداك إلى حضرة مشاهدته ومقام قربه ، فكان قاب قوسين أو أدنى. وعلامة دخول المحبة شغاف القلب أربعة أشياء : الاستيحاش ، والإيناس ، وذكر الحبيب مع الأنفاس ، وحضوره مع الخواطر والوسواس. وأنشدوا :
تالله ما طلعت شمس ولا غربت |
|
إلّا وذكرك مقرون بأنفاسى |
ولا جلست إلى قوم أحدّثهم |
|
إلّا وأنت حديثى بين جلّاسى |
ولا شربت لذيذ الماء من ظمأ |
|
إلا رأيت خيالا منك فى الكأس |
إن كان للنّاس وسواس يوسوسهم |
|
فأنت والله وسواسى وخنّاسي |
لو لا نسيم بذكراكم أفيق به |
|
لكنت محترقا من حرّ أنفاسى |
وقال آخر :
خيالك فى وهمي ، وذكرك فى فهمى |
|
ومثواك فى قلبى ، فأين تغيب؟ |
قوله تعالى : (فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن ....) الآية : أدهشتهم طلعة يوسف ، وجماله الباهر. وزليخا لما استمرت معه لم تفعل شيئا من ذلك. كذلك المريد إذا استشرف على أنوار الحضرة وجمالها ، أدهشته وحيرته ، فلو لا التأييد الإلهى ما أطاقها ، فإذا صبر على صدماتها واستمر مع تجليات أنوارها ذهب دهشه ، واطمأن قلبه بشهود محبوبه من وراء أردية العز والكبرياء ، وهذه هى الطمأنينة الكبرى والسعادة العظمى.
وقوله تعالى : (قال رب السجن أحب إلىّ) ، هكذا ينبغى للعبد أن يكون ؛ يختار ما يبقى على ما يفنى ؛ فرب شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا ، ورب صبر ساعة أورثت نعيما جزيلا. وبالله التوفيق.
__________________
(١) الآية ٧ من سورة الضحى.