بها همّ ميل لا همّ إرادة. قال المحشى الفاسى : وفيه نظر ؛ لأن ذلك لا يتصور فى النفوس المطمئنة. وإنما ذلك شأن أرباب التلوين والمجاهدة ، دون أهل التمكين والمشاهدة ، وخصوصا الأنبياء ؛ إذ صارت نفوسهم مشاكلة للروح ، مندرجة فيها ، ولذلك صارت مطمئنة ، وميلها حينئذ إنما يكون للطاعة ، وأما غير الطاعة ، فهى بمنزلة القذر والنتن تشمئز منه ، ولا يتصور بحال ميلها إليه. ثم أطال الكلام فى ذلك.
قلت : أما تفسير الهم بالميل فلا يليق بالنفس المطمئنة. وأما تفسيره بالخاطر فيتصور فى المطمئنة وغيرها. وإنما سماه الله تعالى همّا فى حق يوسف عليهالسلام ؛ لأن الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ لعلو منصبهم ، وشدة قربهم من الحضرة ، يشدد عليهم فى مطالبة الأدب ، فيجعل الخاطر فى حقهم همّا ، وظنا. كما قال تعالى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) (١) فيمن خفف الذال ، أو كما قال تعالى فى حق يونس عليهالسلام : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) (٢) ؛ على أحد التفاسير. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) لخالطها. والبرهان الذي رأى : قيل : ناداه جبريل : يا يوسف تكون فى ديوان الأنبياء ، وتفعل فعل السفهاء. وقيل : رأى يعقوب عاضا على أنامله ، يقول : إياك يا يوسف والفاحشة. وقيل : تفكر فى قبح الزنى فاستبصر. وقيل : رأى زليخا غطت وجه صنمها حياء منه ، فقال : أنا أولى أن أستحى من ربى. (كَذلِكَ) أي : مثل ذلك التثبيت ثبتناه ؛ (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) ؛ خيانة السيد ، (وَالْفَحْشاءَ) ، الزنى ؛ (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصناهم لحضرتنا. أو من الذين أخلصوا وجهتهم إلينا.
(وَاسْتَبَقَا الْبابَ) أي : تسابقا إلى الباب ، وابتدرا إليه ، وذلك أن يوسف عليهالسلام فرّ منها ؛ ليخرج حين رأى البرهان ، وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج ، (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) أي : شقت قميصه من خلف لما اجتذبته لترده. والقدّ : الشق طولا ، والقطّ : الشق عرضا ، (وَأَلْفَيا سَيِّدَها) : وصادفا زوجها (لَدَى الْبابِ) ؛ وفيه إطلاق السيد على الزوج ، وإنما أفرد الباب هنا ، وجمعه فى قوله : (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) لأن المراد هنا الباب البراني الذي هو المخرج من الدار. (قالَتْ) لزوجها : (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ)؟ قالته إيهاما أنها فرت منه ؛ تبرئة لساحتها عند زوجها ، وإغراء له عليه ؛ انتقاما لنفسها لما امتنع منها. (قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) : طالبتنى بالمواقعة بها. قال ذلك تبرئة لساحته ، ولو لم تكذب عليه ما قاله.
__________________
(١) من الآية : ١١٠ من سورة يوسف.
(٢) من الآية / ٨٧ من سورة الأنبياء.