قلت : وبهذا يرد على من وقف على (همت به) ، كالهبطى ومن تبعه ، إلا أن يحمل على أنه ابتداء كلام مع حذف الجواب. واستحسنه البعض ؛ ليكون همّ يوسف خارجا عن القسم ، (وكذلك) : فى موضع المصدر ، أي : ثبتناه مثل ذلك التثبيت لنصرف .. إلخ ، و (المخلصين) بالفتح : اسم مفعول من : أخلصه الله. وبالكسر : اسم فاعل بمعنى : أخلص دينه لله.
يقول الحق جل جلاله : (وَراوَدَتْهُ) للفاحشة ، أي : تمحلت وطلبت منه أن يوافقها (الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها) ؛ وهى زليخا. وترك التصريح بها ؛ استهجانا. فراودته عن نفسه ، (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) ، قيل : كانوا سبعة. والتشديد للتكثير ، أو للمبالغة فى الإيثاق ، (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) أي : أقبل وبادر ، أو تهيأت لك. روى أنها تزينت بأحسن ما عندها ، وقالت : تعال يا يوسف ، (قالَ مَعاذَ اللهِ) ؛ أي : أعوذ بالله معاذا ، (إِنَّهُ) أي : الشأن ، (رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) ؛ سيدى أحسن إقامتى وتربيتى ، إذ قال لك أكرمى مثواى ، فما جزاؤه أن أخونه فى أهله ، أو أنه تعالى ربى أحسن منزلى ؛ بأن عطف علىّ قلب سيدى ، ولطف بي فى أمورى ، فلا أعصيه ، (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) ؛ المجاوزون الإحسان إلى الإساءة ، أو الزناة ؛ فإن الزنى ظلم على الزاني والمزنىّ بأهله.
(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) ، قال ابن جزى : أكثر الناس الكلام فى هذه الآية ، حتى ألفوا فيها التآليف ، فمنهم مفرط ومفرّط ؛ وذلك أن منهم من جعل همّ المرأة وهمّ يوسف من حيث الفعل الذي أرادته. وذكروا من ذلك روايات من جلوسه بين رجليها ، وحله للتكّة ، وغير ذلك مما لا ينبغى أن يقال به ؛ لضعف نقله ولنزاهة الأنبياء عن مثله ، ومنهم من قال : همت به لتضربه على امتناعه ، وهمّ بها ليقتلها أو يضربها ؛ ليدفعها. وهذا بعيد يرده قوله : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ). ثم قال : والصواب ـ إن شاء الله ـ : أنها همت به من حيث مرادها ، وهمّ بها كذلك ، لكنه لم يعزم على ذلك ، ولم يبلغ إلى حد ما ذكر من حل التكّة ، بل كان همه خطرة خطرت على قلبه ، ولم يتابعها ، ولكنه بادر إلى التوبة والإقلاع عن تلك الخطرة ، حتى محاها من قلبه ، لمّا رأى برهان ربه. ولا يقدح هذا فى عصمة الأنبياء ؛ لأن الهم بالذنب ليس بذنب ، ولا نقص فى ذلك ؛ لأن من همّ بذنب ثم تركه كتب له حسنة. ه.
قلت : وكلامه حسن ؛ لأن الخطرات لا طاقة للبشر على تركها ، وبمجاهدة مخالفتها فضّل البشر على جنس الملائكة ، وقال البيضاوي : والمراد بهمه : ميل الطبع ، ومنازعة الشهوة ، لا القصد الاختياري ، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف ، بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل ، لمن يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم أو مشارفته ، كقوله : قتلته لو لم أخف الله. ه. ومثله فى تفسير الفخر ، وأنه مال إليها بمقتضى الطبع ، ومنع منه بصارف العصمة ، كالصائم يشتاق الماء البارد ، ويمنعه منه صومه. ومثله أيضا فى لطائف المنن : همت به همّ إرادة ، وهمّ