تفكّر في أمر
نفسها ، وتخيّلت ما سيقوله الناس عن عذراء تحمل وتلد من غير أن يكون لها بعل ؛ وفي
حدّة الألم ومرارة الخوف نظرت إلى الطفل في حسرة واكتئاب ، وجعلت تتمنّى لو ضمّها
القبر وفارقت العالم ، قبل أن تصير أمّا من غير أن تتزوّج ، فقالت كما ورد في
التنزيل :
(يا لَيْتَنِي مِتُّ
قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) (٢٣).
ولكنها ما لبثت أن
سمعت صوت وليدها ، فبدّد مخاوفها ، وكفكف دموعها ، وناداها من تحتها كما روى
القرآن ذلك ، حكاية عنه :
(أَلَّا تَحْزَنِي
قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) (٢٤).
أي جدولا يجري
ماؤه في تلك البقعة الجرداء ، والأرجح أنه جرى للحظته من ينبوع ، أو تدفّق من مسيل
ماء في الجبل. وهذه النخلة التي تستندين إليها هزّيها فتتساقط عليك رطبا. فهذا
طعام وذاك شراب ، والطعام الحلو مناسب للنّفساء. والرّطب والتّمر من أجود طعام
النّفساء :
(فَكُلِي وَاشْرَبِي) [الآية ٢٦] هنيئا (وَقَرِّي عَيْناً) [الآية ٢٦].
واطمأني قلبا ،
لما ترين من قدرة الله التي اخضرّ بها جذع النخلة اليابسة. وطيبي نفسا بما حباك
الله من جريان الماء في تلك البقعة المقفرة. واطمأنت مريم إلى فضل الله ، وأنّه لن
يتركها وحدها ، أنّ حجّتها معها ، هذا الطفل الذي ينطق في المهد.
ورجعت مريم إلى
قومها وعشيرتها تحمل ولدها على كتفها ، وسرعان ما شاع أمرها ، وعرف خبرها. وجاء
أقاربها يؤنّبونها بألسنة التقريع والتأنيب ، ويلومونها على هذه الفعلة المنكرة ،
ويذكّرونها بشرف أسرتها وكرم أصلها. والتزمت مريم الصمت ، وأشارت إليهم أن كلّموا
هذا الوليد ، إن أردتم الوقوف على حقيقة الأمر :
(كَيْفَ نُكَلِّمُ
مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) (٢٩)؟
كيف نكلم وليدا ،
لم تكتمل أدوات نطقه. ولم تتحرّك شفته إلى ثدي أمّه؟
فانطلق الوليد
يجيبهم في بيان وحجّة وبرهان :
(قالَ إِنِّي عَبْدُ
اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ