التاريخ الصحيح
لا يكون انبعاث أيّةِ فِرقة من الفِرق إلىٰ تدوين التاريخ أقلَّ من انبعاث أخواتها إليه ، فكلٌ يتحرّىٰ منه غاية ، ويرمي إلىٰ غرض يخصّه ، فإن كان المؤرّخ يريد به الحيطة (١) بحوادث الدهر ، والوقوف علىٰ أحوال الأجيال الغابرة ، فالجغرافيّ يطلبه لتحقيق القسم السياسيّ به ؛ لاختلافه بتغلّبات الدول ، وانعكاف (٢) أُمم علىٰ خطط معيّنة وانثيال (٣) أُمم عنها.
وإن انبعث الخطيب إلىٰ سَبْر غَور التاريخ لما فيه من عِبَر وعِظات بالغة في تدهور الأحوال وفناء الأجيال ، وهلاك ملوك واستخلاف آخرين ، وما انتاب أقواماً من جرّاء ما اجترحوه من السيّئات ، وما فاز به آخرون بما جاؤوا به من صالح الأعمال ، فالدينيّ يبتغيه للوقوف علىٰ ما وُطِّد به أُسس المعتقد ؛ وعُلِّيَ عليه صروحُه وعلاليُّه (٤) ، وإفرازه عمّا كان حوله من لعب الأهواء ، وتَركاض أهل المطامع.
وإذا كان الأخلاقيّ يقصد به التجاريب الصالحة في ملكات النفوس ، التي تحلّىٰ بالصحيحة منها فِرقٌ من الناس فأفلحوا ، وتردّىٰ (٥) بالرديئة منها آخرون فخابوا ،
___________________________________
(١) و (٢) كذا.
(٣) انثالوا عليه : انصبّوا عليه واجتمعوا ، ومراد المؤلف هنا : التفرّق.
(٤) العلاليّ : جمع عِلِّيّة وهي الغرفة.
(٥) تردّىٰ بالرداء : ارتداه ولبسه.