تناسب الطبيعة
ولهم في هذا الكلام طويل. والذي يقوم عليه البرهان أن النفس حادثة إذ البارئ تعالى
موصوف بالاقتدار على خلق جواهر لا تعدم. وسنورد إن شاء الله تعالى أصل مذاهبهم في
المعراج الثالث في حدوث العالم العلوي فلا معنى لإيراد ذلك في هذه المسألة فلنتكلم
على أنها لا تعدم. فنقول : الشيء لا يوصف بالعدم ما لم يقل إنه قابل للعدم. وإذا
كانت النفس قابلة للعدم فلا تخلو أن يكون ذلك في طبعها ويكون العدم ذاتيا له. وإما
أن تعدم لاختلال شرط في وجودها. وإما أن تعدم لإرادة بارئها أن تنعدم. وبطل أن
يكون العدم من صفات ذاتها إذ ذلك يؤدي إلى أن تبقى زمانين وهو محال وبطل أن يقال
هي باقية بشرط إذ قدمنا أن القائم بنفسه لا يفتقر إلى شرط. وبطل أن يقال تعدم
لإرادة بارئها فإن إرادة بارئها لا يعلم إلا من جهة الرسل عليهمالسلام وقد أخبرت الرسل صلىاللهعليهوسلم أنها لا تعدم والله ولي الهداية.
المعراج الثالث
لم يختلف أحد من
ذوي العقول أن الصور الجسمانية الحادثة في عالم الكون والفساد حادثة مفتقرة إلى
علة في وجودهما إما بارئ وإما طبيعة على ما قدمنا وعالم الحس والشهادة والكون
والفساد كل ما حواه فلك القمر وحصل في مقعره. واختلف في العوالم العلوية وهي نفوس
الأفلاك وعقولها وما فيها من الكواكب وغيرها. فأطبقت الفلاسفة على قدم ذلك بلا
خلاف في الاعتقاد. واختلفت عباراتهم في التغيير عن حصولها عن البارئ تعالى وهو
المبدأ عندهم ومجرى المبدأ الثاني الذي هو علة لما تحته من البارئ سبحانه فجرى
النور من الشمس ونور الشمس ضروري الوجود معها فلا ينعدم. والبارئ سبحانه عندهم علة
وهو معه كالمعنى الطبيعي وغير متقدم عليه التقدم الطبيعي ، بل معنى تقدمه عليه
بالمرتبة كتقدم الملك على الوزير والوزير على الحاجب ، ثم سموه بعد ذلك حدوثا
وفعلا وفيضا وكل ذلك على سبيل المجاز لا على الحقيقة.
والعالم عندهم
ينقسم إلى قسمين : قائم بنفسه وغير قائم بنفسه. فما ليس قائما بنفسه هي الأعراض
وحدوثها عندهم عن دوران الفلك والانتقالات فتسري الأدوار من شيء إلى شيء وتكتسب
الجواهر بذلك أحوالا وما هو قائم بنفسه منقسم إلى ثلاثة أقسام : أجسام وهي أخس
الجواهر وعقول أشرف الموجودات ونفوس وهي واسطة بين الأجسام والعقول وهي في حكم
الرابطة بين العقول والأجسام كالحرف الرابط بين الاسم والفعل والكلمة وهي غير
مؤثرات في الأجسام. ثم الأجسام عشرة تسع سماوات والعاشر العناصر التي هي حشو فلك
القمر. ثم السماوات التسع حية عندهم ناطقة ولها ترتيب ودرجات وهو أن البارئ تعالى
عن قولهم فاض عنه على الطريق التي ذكرناها العقل الأول وهو العلم ، والكلمة عند
أكثرهم وهو جوهر قائم بنفسه ليس بجسم ولا هو منطبع في جسم يعرف نفسه ويعرف بارئه
وهو ملك. وربما زعموا أنه هو القلم. ثم لزم عن وجوده ثلاثة أشياء : عقل ونفس
والفلك الأقصى وهو التاسع وهو السماء وجرمها ، ثم لزم من العقل الثاني عقل ثالث
ونفس وفلك الكواكب الثابتة وجرمه ، ولزم عن العقل