والظهر بأربع ، والمغرب بثلاث ، هي لخواص غير معلومة بنظر الحكمة؟ وسببها اختلاف هذه الأوقات ؛ وإنما تدرك هذه الخواص بنور النبوة. والعجب أنا لو غيرنا العبارة إلى عبارة المنجمين لعللوا اختلاف هذه الأوقات ، فنقول : " أليس يختلف الحكم في الطالع بأن تكون الشمس في وسط السماء ، أو في الطالع أو في الغارب ، حتى يبنوا على هذا في تسييراتهم اختلاف العلاج وتفاوت الأعمار والآجال ، ولا فرق بين الزوال وبين كون الشمس في وسط السماء ، وبين المغرب وبين كون الشمس في الغارب ، فهل لتصديقه سبيل؟ " إلا أن ذلك يسمعه بعبارة المنجم ، لعله جرب كذبه مائة مرة ؛ ولا يزال يعاود تصديقه ، حتى لو قال المنجم له : إذا كانت الشمس في وسط السماء ، ونظر إليها الكوكب الفلاني ، والطالع هو البرج الفلاني ، فلبست ثوبا جديدا في ذلك الوقت ، قتلت في ذلك الثوب! فإنه لا يلبس الثوب في ذلك الوقت ، وربما يقاسي فيه البرد الشديد ، وربما سمعه من منجم وقد عرف كذبه مرات.
فليت شعري! من يتسع عقله لقبول هذه البدائه ويضطر إلى الاعتراف بأنها خواص ، معرفتها معجزة لبعض الأنبياء ، فكيف ينكر مثل ذلك فيما يسمعه من قول نبي صادق مؤيد بالمعجزات لم يعرف قط بالكذب! فإن أنكر فلسفي إمكان هذه الخواص في أعداد الركعات ورمي الجمار وعدد أركان الحج وسائر تعبدات الشرع ، لم يجد بينها وبين خواص الأدوية والنجوم فرقا أصلا. فإن قال : " قد جربت شيئا من النجوم وشيئا من الطب ، فوجدت بعضه صادقا ، فانقدح في نفسي تصديقه ، وسقط من قلبي استبعاده ونفرته وهذا لم أجربه ، فبم أعلم وجوده وتحقيقه إن أقررت بإمكانه؟ " فأقول : " إنك لا تقصر على تصديق ما جربته ، بل سمعت أخبار المجربين وقلدتهم ، فاسمع أقوال الأنبياء فقد جربوا شاهدوا الحق في جميع ما ورد به الشرع ، واسلك سبيلهم تدرك بالمشاهدة بعض لك". على أني أقول : وإن لم تجربه فيقضي عقلك بوجوب التصديق والاتباع قطعا ؛ فإنا لو فرضنا رجلا بلغ وعقل ولم يجرب المرض فمرض ، وله والد مشفق حاذق بالطب ، يسمع دعواه في معرفة الطب منذ عقل ، فعجن له والده دواء فقال : " هذا يصلح لمرضك ، ويشفيك من سقمك" فما ذا يقتضيه عقله ، وإن كان الدواء مرا كريه المذاق ، أيتناوله؟ أو يكذب ويقول : أنا لا أعقل مناسبة هذا الدواء لتحصيل الشفاء ، ولم أجربه؟ فلا شك أنك تستحمقه إن فعل ذلك! وكذلك يستحمقك أهل البصائر في توقفك! فإن قلت : فبم أعرف شفقة النبي عليه الصلاة والسلام ومعرفته بهذا الطب؟ فأقول : وبم عرفت شفقة أبيك وليس ذلك أمرا محسوسا؟ بل عرفتها بقرائن أحواله وشواهد أعماله في مصادره وموارده علما ضروريا لا تتمارى فيه.
ومن نظر في أقوال رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وما ورد من الأخبار في اهتمامه بإرشاد الخلق ، وتلطفه في جر الناس بأنواع الرفق واللطف إلى تحسين الأخلاق وإصلاح ذات البين ، وبالجملة إلى ما لا يصلح إلا به دينهم ودنياهم ، حصل له علم ضروري بأن شفقته على أمته أعظم من شفقة الوالد على ولده. وإذا نظر إلى عجائب ما ظهر عليه من الأفعال ، وإلى عجائب الغيب الذي