أجزاء الفيض يسري بعدوانه إلى الكل كما قال تعالى في القاتل (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة : ٣٢] والقياس إذا قال : شعرك طالق ، سرى الطلاق في جميع جسدها ، وهكذا إذا تصدقت فقد أرضيت به الصانع والمصنوع. واللقمة الطيبة وهي الحلال أفضل عند الله من صدقات كثيرة ، فإذا أردت الأكل فكل ما دنا من الأرض بالأصابع الثلاثة بعد الجوع ، وقم قبل الشبع ، واقعدوا كقعودك بين يدي شيخك للتعليم. واعلم أن الله سبحانه وتعالى قد نزع البركة من الحار والحرام ، وفي المأكل الحار أربع مضار : يهدم الأسنان ، ويصفر الألوان ، ويزيل الكبد ، وربما يخاف عليه من أذى المصران. وغسل اليدين من قبل الطعام وبعده. ولا يجوز أكل المنتن للزوجين إلا بإذن بعضهم بعضا ، والسر فيه أنه يورث النفرة بين الزوجين. والريح الطيب مؤلف ومحبب. وترك غسل اليدين يقمل الثوب ويولد رائحة كريهة وربما على ما ورد أن الشيطان يسترضع اليد ويستحسن الصورة فيألفها. ولما كان المقصود من الحلال تصفية القلوب وتقليل الذنوب ، صار طلبه فرضا كطلب العلم فإن العلم إذا لم يدل على خير فهو ضرر ، وفي الحديث" من أكل الحلال سنة كشف له عن طراز العرش وصفت أنوار خواطره". وهو كيمياء السعادة الأبدية ، ينشرح به الصدور ، وتصفو به أنوار المعرفة ، ويثبت في القلب عين الحكم ، وبه تكشف غشاوة الغفلة ، وترفع سدود الغرور ، فيبين صفاء سماء التوحيد ، وينكشف له عن اللوح المجيد ، وتسمع بأذن صفا خاطرك هدير تسبيح الملائكة المقربين.
واعلم أن النفوس لا تكون مرهونة بعد الموت إلا بمظالم العبيد ، والسر فيه مطالبة حاضرة بين غريمين بين يدي حاكم عدل عليم باق. والمساواة واقعة بين العبدين إلا من أتى الله بقلب سليم ، تخلصت الذمم من المظالم ، وانفك قيد النفوس ، فصارت الأرواح أين تختار ، ولهذا قال صلىاللهعليهوسلم : " إنّ الأرواح لتزور بيوتها وأهلها ، فإن رأتهم بخير شكرت وإلّا نفرت وهي تنادي يا أهلي إيّاكم والدّنيا فلا تغرّنّكم كما غرّرت بي" وهذا هو سر نداء الندم وأما الأرواح الطيبة الطاهرة من الدنس والآثام والمظالم فهي تطير أين شاءت واختارت على صور ما ذكرها الناس ، إما جوهر ، أو هيئة ملك ، أو جسم لطيف ، والكل مدرك حساس عليم بمفارقة الجسد. فبقدر انتقاش علمك يا هادي سيرقى العليم فوق الجهول ، وفي الحديث : «إنّ ردّ درهم مظلمة أفضل عند الله من أربعة آلاف حجّة مقبولة» فإذا كان حجك واجتهادك خوفا من الآثام فاقطع أصولها.
المقالة الحادية والعشرون
في تهذيب النفوس
اعلم أن نفسك أشد عداوة لك كما في الحديث : " نفسك التي بين جنبيك هي أعدى عدوك تدعوك إلى الوبال ، وترشدك على الضلال ، وتوقعك في الدناءة ، وتركبك نفس الهوى ،