بل ذلك يقين عند المؤمنين ، وليقينه مدركان : أحدهما الإيمان والتصديق على وجه التقليد للأنبياء والعلماء كما يقلد الطبيب الحاذق في الدواء ، والمدرك الثاني الوحي للأنبياء والإلهام للأولياء. ولا تظن أن معرفة النبي صلىاللهعليهوسلم لأمور الآخرة ولأمور الدنيا تقليد لجبريل عليهالسلام ، فإن التقليد ليس بمعرفة صحيحة ، والنبيصلىاللهعليهوسلم حاشاه من ذلك ، بل قد انكشفت له الأشياء وشاهدها بنور البصيرة كما شاهد المحسوسات بالعين الظاهرة.
فصل
والمؤمنون بألسنتهم وعقائدهم إذا ضيعوا أوامر الله ، وهي الأعمال الصالحة ، وتدنسوا بالشهوات ، فهم مشاركون الكفار في هذا الغرور ، فالحياة الدنيا للكافرين والمؤمنين جميعا غرور.
فأما غرور الكافرين بالله فمثاله قول بعضهم في أنفسهم بألسنتهم : إنه إن كان الله معيدنا فنحن أحق به من غيرنا ؛ كما أخبر الله عنهم في سورة الكهف [الآيتان : ٣٥ و ٣٦] حيث قال : (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً. وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) وسبب هذا الغرور قياس من أقيسة إبليس لعنه الله ، وذلك أنهم ينظرون مرة إلى نعم الله عليهم في الدنيا فيقيسون عليها نعم الآخرة ، ومرة ينظرون إلى تأخير عذاب الله عنهم في الدنيا فيقيسون عليه عذاب الآخرة. كما أخبر الله عنهم أنهم يقولون : (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) [المجادلة : ٨] ومرة ينظرون إلى المؤمنين وهم فقراء فيزدرونهم ويقولون : (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) [الأنعام : ٥٣] ويقولون : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١] وترتيب القياس الذي نظم في قلوبهم أنهم يقولون : " قد أحسن الله إلينا بنعيم الدنيا ، وكل محسن فهو محب وكل محب فهو محسن» وليس كذلك ، بل يكون محسنا ولا يكون محبّا ، بل ربما يكون الإحسان سبب هلاكه على التدريج ؛ وذلك محض الغرور بالله تعالى ، ولذلك قال صلىاللهعليهوسلم : " إنّ الله يحمي عبده المؤمن من الدّنيا كما يحمي أحدكم مريضه من الطّعام والشّراب وهو يحبّه». وكذلك كان أرباب البصائر إذا أقبلت عليهم الدنيا حزنوا ، وإذا أقبل عليهم الفقر فرحوا وقالوا مرحبا بشعائر الصالحين ، وقد قال تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) [الفجر : ١٥] وقال تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ* نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون : ٥٥ ، ٥٦] وقال تعالى : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) [الأعراف : ١٨٢ ، القلم : ٤٤] (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [الأعراف ١٨٣ ، القلم : ٤٥] وقال تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام : ٤٤] فلم يؤمن بالله من آمن بهذا الغرور. ومنشأ هذا الغرور الجهل بالله وبصفاته ، فمن عرف الله فلا يأمن من مكره. ولا ينظرون إلى فرعون وهامان والنمرود ما ذا حل بهم مع ما أعطاهم الله من المال ، وقذ حذر الله تعالى من مكره فقال تعالى : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) [الأعراف : ٩٩] وقال تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ